الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الادب العربی / أبوالمطهر الأزدي /

فهرس الموضوعات

أبوالمطهر الأزدي

أبوالمطهر الأزدي

تاریخ آخر التحدیث : 1443/1/12 ۱۸:۳۳:۳۸ تاریخ تألیف المقالة

أَبوالْمُطَهَّرِ الْأَزْديّ، محمد بن أحمد (تـ النصف الأول من القرن 5هـ/ 11م)، أدیب و شاعر. وفي الحقیقة فإن شهرته تعود إلی کتابه حکایة أبي القاسم البغدادي. فلولا هذا الکتاب لانطوت شخصیة أبي المطهر؛ وبالطبع فإن وجوده أیضاً مشکوک فیه، وبإمکاننا أن نتساءل فیما إذا کان هذا الکتاب و مؤلفه کلاهما من صنع أحد الکتّاب البارعین في القرن 4 أو 5 هـ، أم لا؟

وکما یبدو من نص الکتاب، فإن أبا المطهر إیراني، و بتعبیر أدق فهو أصفهاني یتحدث باللغة الفارسیة و اللهجة الأصفهانیة، إلا أن اللغة العربیة هي لغة شعره وأدبه و سخره. ویبدو أنه کان یعیش في بغداد غالباً، ورغم أن أحداث حکایته وقعت في أصفهان علی مایتضح منها، إلا أنها کانت معنیة أکثر ببغداد و مجتمع البغدادیین في القرن 4هـ.

لم یُشر في أي من المصادر القدیمة إلی أبي المطهر الأزدي و حکایته سوی إشارة للباخرزي في مقدمة کتابه (1/26) إلی أنه التقی «بأصفهان أبا مطهرها صاحب طراز الذهب علی وشاح الأدب البارع في فنون آدابه والفاضل ملء إهابه». ثم یذکر في موضع آخر (1/428-432) رجلاً باسم أبي المطهر الأصفهاني، ناقلاً عنه 19 بیتاً من الشعر. ولم یتردد الباحثون عموماً في أن هذه الأسماء الثلاثة کانت تطلق علی شخص واحد (ظ: GAL, S, I/254؛ متز، EI2; 15، مادة حکایة).

ویشیر المؤلف أحیاناً علی لسان بطل قصته إلی شخصیات معروفة من شأنها أن تکون بحد ذاتها قرائن تاریخیة دقیقة نسبیاً لتعیین تاریخ تألیف الکتاب فهو یدعي مرة أنه اجتمع بجماعة في واسط (ص 88)، وهم: أبوالحسن الجرجاني و ابن سُکرّة (تـ 385هـ) و أبومحمد الیعقوبي وخاصة ابن الحجاج (ن.ع) الشاعر الذي توفي في 391هـ. وأما تاریخ وفاة أفراد الجماعة الآخرین فقد کان قبل ذلک. وفي طیات هذا الکتاب یتحدث المؤلف عن مجالس نری فیها الطرب یسیطر علی رجال مشهورین أغلبهم من الکتّاب و الشعراء، لسماعهم المطریین و نغمات الموسیقی، وأشهرهم: المرزباني (تـ 384هـ) و القاضي ابن صُبْر (تـ 388هـ) و قاضي القضاة ابن معروف (تـ 390هـ) و ابن الحجاج وابن نباتة (تـ 405هـ) و ابن غیلان البزاز (تـ 440هـ) (ظ: ص 78-81). وبالإضافة إلی ذلک فقد ورد في الکتبا بعض الإشارات الأخری تؤید تاریخ التألیف في هذا الإطار الزمني. و علی سبیل المثال فإن دار المعزیة التي أشیر إلیها في صفحي 24، قد بُنیت في 350هـ، أو مسجد براثا الذي ذکر في صفحة 23، فقد تهدم في 451هـ 0ظ: متز، 14-15).

إلا أن مایتعارض مع الإطار الزمني المذکور، روایة أخری في الکتاب (ص 87) یقول فیها أبوالقاسم إنه کان في 306هـ مع جماعة في الکرخ، ثم أحصی المطربین، في حین أن أبا القاسم (أو المؤلف نفسه) لوکان في هذه السنة شاباً في العشرین مثلاً، فکیف یمکن أن یکون مطلعاً علی أحوال ابن غیلان في النصف الأول من القرن 5 هـ؟ ویبدو أن عبدالواحد ذنون طه قد قرد التاریخ الوارد في النص خطأً فأورده 360هـ في مقالته (ص 14)، وحقاً فإذا ما قردنا کلمة «ست» في نص الحکایة علی افتراضه «ستین»، فسیزول هذا التناقض إلی حدّما. و بالطبع فإن هذا الفرض و هذا التحلیل لایکتسبان قیمة إلا إذا لم یکن أبوالمطهر قد رأی، أوسمع هذه الروایة في موضع ما . وللبت في تحدید آخر تاریخ لتألیف الکتاب یشیر متز إلی هذه الملاحظة و هي أن المؤلف لم یتطرق إلی الحدیث عن سلطة السلاجقة في بغداد و خاصة انهدام مسجد براثا، وبناء علیه فمن المحتمل أنه لم یعد علی قید الحیاة في 451هـ (ص !5). وإذا ما أخذنا بعین الاعتبار الروایة المتعلقة بسنة 360هـ، وتاریخ وفاة ابن غیلان في 440هـ، فإن حیاة أبي المطهر ستنحصر في قرن واحد 0340-440هـ)، و علی هذا الفض فلیس من المستبعد أن یکون الرجل الذي رآه الباخرزي (تـ 467هـ) في أصفهان هو أبوالمطهر الأزدي نفسه.

 

حکایة أبي القاسم البغدادي

یعد هذا الکتاب بحد ذاته کتاباً عجیباً و مهماً للغایة، و بالطبع فإن اسم المؤلف و التعریف به لایزیدان من قیمته شیئاً، إلا أن الجهد الذي نبذله للتعریف بالمؤلف و حیاته هو في الحقیقة من أجل تحدید تاریخ تألیف الکتاب الذي یحظی بأهمیة بالغة من حیث دراسة تطور الأدب في عصر هو أکثر عصور الأدب العربي آثارة واضطراباً.

فمصطفی جواد لایعتقد بوجود أبي المطهر الأزدي، و یری أن هذه القصة من اختلاق أبي حیان التوحیدي. وقد وجد موضوعات کثیرة في مؤلفات أبي حیان خاصة الإمتاع والمؤانسة (ألفه بعد 337هـ) تتشابه معنی ولغة مع حکایة أبي القاسم، و یؤید طه (ص 15) هذا الرأي أیضاً. ومما لاشک فیه أن تألیف کتاب مثل حکایة أبي القاسم لیس بمستبعد من رجل مثل أبي حیان، فقد کان عالماً حساساً، سریع الانفعال، ثاقب الرأي، جریئاً للغایة وعدیم المبالاة إلی حد بعید، ویبتعد أسلوبه عموماً عن أسلوب الکتّاب المتکلفین أمثال ابن العمید و الصاحب بن عباد، ویطغی علیه في الغالب أسلوب الجاحظ في الکتابة. کما أن أسلوب أبي حیان الذي عاش بعد الجاحظ بمائة سنة ینأی أیضاً عن انعدام الوحدة الموضوعیة المعهودة لدی الأخیر، ویسوده انسجام و تسلسل أکثر منطقیة. و یوظف أبوحیان في الکثیر من أعماله و خاصة الإمتاع قلمه لخدمة الواقع الموضوعي الملموس، ویتجنب التعمیمات و التجریدات. وقد کان هذا الأسلوب الواقعي و خاصة لحن حدیثه الذي یبدو مألوفاً و مفهوماً لدی الجمیع رغم فخامته و جزالته، یخرجه أحیاناً من نطاق الأدب البحث الذي بدأ یبهت في القرن 4هـ، إلی ساحة المجتمع و أوساط الناس؛ و هنا بالتحدید یتشابه أبوحیان مع أبي المطهر، إلا أن مجرد التشابه لایکفي لانطباق هذین الاسمین معاً. ففي خلال القرن 4هـ سادت أجواء خاصة اشتک في استغلالها رجال عدیدون. و بالطبع فإن الأسلوب الواقعي في ذلک العصر یبدو أنه کان قد لاقی قبولاً عاماً في بغداد و البصرة وبعض مدن إیران، ولاشک في أن الکثیر من الکتّاب کانوا یُغرَون بمحاکاته. وفضلاً عن تشابه أسالیب الکتابة في ذلک العصر، فإن أبا المطهر صرح هو نفسه بدنه یمیل إلی نقل صیاغات المتقدمین والمعاصرین البدیعیة في کتابه (ص 1)، بحیث إنه استشهد لمرات عدیدة بأشعار الشعراء الآخرین. و مما لاشک فیه أن المقوطعات المفصلة التي أوردها في «طرب» جماعة من المشاهیر (ص 78 و مابعدها)، منقولة کما یشیر غابریلي (ص 36) من مؤلفات الآخرین. وبناء علی ذلک فمن المحتمل أنه کان قد اقتبس من مؤلفات أبي حیان.

ولدن ثلث هذه الحکایة – علی الأقل – یتألف من مقطوعات شعریة، فمن المفید أن نذکر هنا أن حرکة تُشبه تطور النثر، ظهرت في الشعر: فقد نفذت في أواخر القرن 1 هـ الدوزان الخفیفة و المطربة للتغزل، إلی القصائد الصحراویة الثقیلة. وقد اختلط هذا التغزل الذي کانت تغزوه أحیاناً النزعات الواقعیة الحادة، بالمجتمع ولغة أفراده بسرعة، ثم اقتبس «مجونُ» أبي نواس و بشار بن برد، و «سخف» ابن الحجاج فیما بعد، قالبَ بیانه من ذ لک التغزل. و یمثل ابن الحجاج ذروة هذا التطور فیما یمکننا اعتبار أبي المطهر الشاعر قریناً له في کل الجوانب. وقد استند في مقدمة الکتاب إلی شعر ابن الحجاج و اتخذه أنموذجاً له (ص 2)، کما أنه في أواسط الکتاب یفخر بصداقته له، وینقل 6 مقطوعات من أشعاره (ص 88-91). ولو أن أبا المطهر لم یکن قد ذکر اسم ابن الحجاج.

والملاحظة التي تستحق الاهتمام هي تشابه الشعر و لانثر في هذا الکتاب و تناغمهما معاً، بحیث إننا إذا حولنا الشعر مع قلیل من التغییر إلی النثر لما اضطرب أسلوب الکتاب. و یبدو أن الأمر کان سیاناً بالنسبة للمؤلف؛ إن شاء تحدث بالشعر، وإن شاء فبالنثر شبه الموزون و شبه المسجع؛ وعلی سبیل المثال فالمقطوعات النثریة المفصلة التي کتبها في الفخر بنفسه و انتقاد المنافسین، والمکتظة بالألفاظ البذیئة من جهة وبحشد من الطرائف الظریفة من جهة أخری (ص 135-140)، وکذلک الصفحات الأربع الأخری التي جاءت بعدها، نراها لاتختلف مع بعضها الآخر إلا في الأوزان العروضیة. و التشابه القائم بین النظم و النثر في هذا الکتاب و تمازجهما یبلغان درجة بحیث یوقعان الباحث في الحیرة أحیاناً. فعلی سبیل المثال یمکن اعتبار قسماً من السطر الأول من الصفحة 11 والذي عده متز جزءاً من النص، بیتاً شعریاً و واو العطف زائدة بین الشطرین:

یضحي ضلیعاً من الطعام/ یمسي نزیفاً من العمدام

 

مسرح القصة

إن مسرح القصة التي تجري فیه أحداث حکایة أبي القاسم هو في الحقیقة مدینة أصفهان، إلا أن بطل القصة یخص حوالي ثلثي أحادیثه بمدینة بغداد و أجوائها الأسطوریة، ویسلط الأضواء الکاشفة خلالها علی مجتمع بغداد الثري و المرفه و الظریفه و المثقف والفاسد في نفس الوقت، بأسلوب یندر نظیره دون شک في الآثار الأدبیة القدیمة في العالم. فقد کانت بغداد قد تحولت في عصر أبي المطهر إلی جزیرة ثقافیة عجیبة بهتت في داخل أکثر أو ساطها، الصراعاتُ السیاسیة والمنافسات العرقیة و العنصریة و مشاعر التجند و حماس الفتوحات. فقلما نجد محفلاً یرتبط فیه جمیع أفراده إلی فرقة واحدة سواء کانت دینیة، أم سیاسیة، أم فنیة؛ ولهذه الظاهرة انعکاس مثیر في الأوساط العلمیة و الفنیة؛ و علی سبیل المثال فإننا نری في عصر أبي المطهر رجلاً وقوراً وذا منزلة رفیعة مثل الشریف الرضي تربطه علاقة صداقة مع «رسول السخف» ابن الحجاج، و ینظم قصیدة في رثائه (ظ: ن.د، 2/660). إن الثراء الفاح في مدینة بغداد و ازدهار التجارة و الزراعة فیها أحیاناً من جهة، وفترة قرنین من التعالیم الثقافیة الموسعة من جهة أخری، کانا یعملان علی تکثیف وتجسید التطلعات الدنیویة للعرب في بغداد. و قد أضحت آنذاک الطبقات المتعددة نسبیاً والتي کانت تنعم بکل هذا الرخاء و الثقافة، تتمتع بذوق مرهف للغایة و مشاعر أحاسیس جزوعة لایمکن کبح جماحها؛ فلم تعد تحتمل السیر البطيء للقوافل في الفیافي أو العویل التقلیدي المتکرر و الممجوج علی أطلال المحبوب ودمنه. فقد أصبح ذاک المنحی الذي نحی إلیه أبونواس علی نحو من الاستحیاء و الوجل، یسود أرجاء المجتمع البغدادي کلّه. و من البدیهي أن یضطر العلماء و الفنانون في ظل هذه الأحوال إلی السعي جاهدین للعثور علی أجواء و أسالیب جدیدة. ففي بدایة القرن 4هـ یسافر المسعودي إلی الصین، و ابن فضلان إلی روسیا، و یتسلّل الشعر و النثر إلی أوساط الناس (ظ: متز، 12-13).

وبالطبع فإن مدینة أصفهان لم تکن في مستوی بغداد، إلا أنها کانت قد لُقبت ببغداد الثانیة (م.ن، 17)، وکانت لها منزلة في مجال التنافس بین المدن. وإذا ما کانت الکوفة تقارن من حین لآخر بالبصرة، وخمذان بالعراق، وبغداد بالبصرة، فإن أصفهان أیضاً کانت تقف إزاء العراق (ن.ص)، کما کانت حشود من أصفهان تعیش في بغداد، وقد ثارت في 320هـ/ 932م، وحاربت جیش الخلیفة یوماً کاملاً، ومنعت إمام المسجد الجامع في غرب بغداد من إلقاء الخطبة وإقامة الصلاة (حمزة الأصفهاني، 137).

وتدل الولیمة بحد ذاتها و التي جرت فیها أحداث حکایة أبي القاسم علی أن أعیان أصفهان أیضاً لم یکونوا غریبین عن مجالس اللهو والترف، فما أکثر ماکانوا یحاکون البغدادین، إلا أن مقارنات أبي القاسم تکشف لنا عن أن أصفهانکانت ماتزال تحافظ علی نسیجها الاجتماعي والدخلاقي التقلیدي، وأنها لم تتحول قط إلی «جنة للأثریاء وجحیم للفقراء» کما اتصفت بها بغداد (أبوالمطهر، 73). وقد وصف أبوالمطهر بغداد بشکل أفضل من أي کاتب آخر في سائر أدوار الأدب العربي، وخاصة طبقتها المرفهة: الحارات و القصور و المتنزهات الجمیلة والحانات العدیدة وألاف الجواري و الغلمان العازفین و المغنین والطنافس و الأقمشة و الملابس و الحلی التي کانت تتدفق کالسیل علی بغداد، والعطور الکثیرة التي ذکر منها أبوالقاسم 70 صنفاً، والسفن التي لاتحصی، والتي کانت تطوف بالناس في دجلة، و ما إلی ذلک.

ولم یعد القالب التقلیدي الجاف للقصیدة یحتمل هذه الثقافة الحافلة بالاضطراب والفساد. و یبدو أن القصائد الرصینة والقیمة لابن الرومي وأبي تمام و المتنبي کانت تتشکل، علی صعید هذا التیار، في جو آخر. ولعل هذا هو السبب الذي استطاع أهل العراق و فارس أن یسخروا وبسهولة من المتنبي و هو في ذروة شهرته، ویُسمح لمتشاعرین مسفین أن یحطوا من شأنه. و قد کان من المفترض في النثر أن یکون اللغة المعبر عن هذه الثقافة المتعددة الأوجه بدسرع مایمکن.

وقبل مائة سنة من ذلک، نسف الجاحظ عربی السنن السائدة، ومزج لغة مؤلفاته و مضامینها بروح العصر ولغة عامة الناس، کما أنه خطا خطوات واسعة في مجال کتابة القصة. وقد وقعت قصصه في البخلاء و خاصة قصة خالویه المکدّي (ص 46-53) بید العکبري (ظ: الثعالبي، 3/117). ونظم أبودلف (ن.ع) الذي کانت لغته شبیهة إلی حد بعید بلغة أبي المطهر الأزدي (ظ: مبارک، 1/432)، قصیدته الساسانیة علی غرار الأحنف العکبري وقدمها للصاحب بن عباد. و هي نفسها القصیدة التي حفظها الصاحب، وأنشد بدیع الزمان الهمذاني دبیاتاً منها للثعالبي (ظ: الثعالبي، 3/354-356)، ثم افتتح مقامته بقسم منها، و کان أحیاناً فیما بعد یأتي ببطل قصته أبي الفتح الإسکندري علی غرار أبي دلف، و بذلک فقد کشف عن التأثر المباشر و العمیق لهذه الشخصیة الهزلیة و الواقعیة علیه (طباطبائي، 5-6؛ مینورسکي، 19؛ أیضاً ظ: متز، 13).

والان فقد توفرت جمیع العوامل التي أوجدت ابن الحجاج و صدیقه أبا المطهر الدزدي (أو أبا حیان التوحیدي): اللغة المرنة التي تستطیع أن تنمي المفاهیم القدیمة و تعبر في نفس الوقت عن المفاهیم الجدیدة؛ الواقعیة الحدیثة العهد الشاملة والأخاذة للغایة؛ الأدوات التعبیریة التي استطاعت ولمرات عدیدة من خلال أسالیبها النفسیة والاجتماعیة أن تنفذ إلی أعماق روح الإنسان والمجتمع وبالتالي إلی النفوس الولهة المتعطشة إلی مثل هذا الأدب.

ویمکننا القول من مناح أن البناء القویم لحبکة حکایة أبي القاسم هو أساس مقامات بدیع الزمان الهمذاني، و أن المظهر المتکامل لأبي القاسم هو أبوالفتح الأسکندري، إلا أن أبا المطهر کان أذکی من أن یقع في فخ الألفاظ الصعبة و السجع والقافیة کما وقع فیه بدیع الزمان الهمذاني، ثم الحریري من بعده. إن المقامة کما یقول غابریلي هي قالب لعمل تمثیلي – روائي یستند في الأساس علی الکلمات. وصحیح أن أبطال لامقامات هم أیضاً کأبي القاسم، شخصیات محتالة ذکیة، لبقة اللسان، عدیمة الحیاء، إلا أن فنها یقتصر فقط علی الإتیان بالسجع والتلاعب بالألفاظ (ص EI2, S; 33-34). وقد اکتسبت المفردات في المقامات من السعة و القیمة بحیث اعتبرها ضیف (ص 8) تألیفات هدفها التعلیم فحب.

ومما لاشک فیه أن أبا المطهر لم یکن یقل عن بدیع الزمان مهارة في اللغة و فن التلاعب بالألفاظ حتی یبدو أن عدد الأسماء و الصفات ذات الوزن و القافیة الواحدة التي یستعملها و یرصفها جنباً إلی جنب، مستمدة من معین لاینضب، ولکنه من الواضح أنه لایقید نفسه؛ فبینما هو یستخدم الألفاظ العامیة، وربما المبتکرة أیضاً، وإذا به یهتک أبهة و فخامة الألفاظ النادرة، فیشعر القارئ أنه دخل جواً أکثر صدقاً وواقعیة.

لقد کان أبوالمطهر و لاسائرون علی نهجه ینظورن إلی سفاسف القوله و سخفه و کذلک مایخجل الإنسان من ذکره، باعتباره فناً جدیداً وإبداعاً ظریفاً مکتملاً؛ و مما لاشک فیه أن هذا الأمر قد أدی إلی اختفاء کتابه (بل و حتی دیوان ابن الحجاج) بسرعة في زوایا المکتبات بحیث لایذکره أحد.

 

الحکایة

إن قصد المؤلف من الإتیان بکلمة «حکایة» في عنوان الکتاب، هو بالطبع باب المفاعلة منها، أي «المحاکاة»، ذلک لأنه ینقل في مقدمة کتابه فقره مفصلة من البیان و التبیین للجاحظ (ظ: 1/72-73) لنفس هذا الغرض. و من المحتمل أن تکون هذه الکلمة قد أطلقت في بدایة ترجمة المؤلفات الیونانیة علی التمثیل، أو ضرب منه، إلا أن المحاکاة في نص الجاحظ و کذلک في ذهن المؤلف، کانت تعني أحد الأقسام الفرعیة للتمثیل فقط، أي التقلید و النزعة إلیه. ففي البیان یدور الحدیث حول رجال حاذقین بلغت بهم مهارتهم في تقلید أصوات و سلوک بعض الأفراد (کالعمیان مثلاً)، أو أصوات الحیوانات بحث ینخدع الجمیع بحرکاتهم. و بذلک نلاحظ أن فن التقلید قد اختلط في ذهن المؤلف مع فن «تقلید الحرکات»، أو أنه لم یستطع أن یفصل بینهما، ذلک لأن دبا القاسم الذي یمثل شریحة خاصة من المجتمع لم یقلد في أي موضع من القصة حرکات أي شخص (حول المحاکاة، ظ: متز، 16).

تبد الحکایة بقوة و تخطیط مکتمل، إلا أن المؤلف یر – بالإضافة إلی ذکر منهجه، ونقله عن الجاحظ (ظ: خلاصة القصة في هذه المقالة) – أن من الواجب أن یذکّر أنه استخدم متعمداً الأغلاط النحویة واللغویة الدارجة (= اللحن)، ذلک لأن «ملح الندرة في لحنها و حلاوتها في قصر متنها» (ص 2).

وبالإضافة إلی هذه الملاحظة الأساسیة التي تزیل عنه تهمة قصور المعرفة، فإن هناک موضوعات أخری لابد أن تتضح: فإمامه في هذا النهج هو ابن الحجاج؛ فنظم الشعر المسف قبیح، إلا أنه في نفس الوقت ملیح و مجاز (ن.ص). و هذا الکلام المستحسن و المستخشن لیس له، بل هو حدیث رجل مخادع سمعه و حفظه منه و هو الآن بصدد سرده، و هذا الرجل یمثل مرآة صادقة معبرة عن جمیع البغدادیین. و لذلک یمکن من خلاله التعرف إلی أخلاق مجتمع بغداد (ظ: ص 1). کما أن الإطار الطمني للتمثیلیة معیّن أیضاً: فقد حدث کل ذلک في یوم واحد فقط. وعندما یصل القارئ إلی نهایة الکتاب، یعتریه الشعور بدن أبا المطهر لایطلق عنانه للخیال و الإلهامات في جمیع اللحظات، بل إنه یحمل في ذهنه جمیع الحکایة بشکل متواصل من البدایة و حتی النهایة علی شکل وحدة موضوعیة أدبیة کاملة؛ فالعبارة التي بدأت بها الحکایة (ص 5) أعیدت في نهایة الکتاب لتختم بها القصة: فبمجرد أن یری أبوالقاسم عند باب مجلس الضیافة شخصاً یبتسم، یصیح به قائلاً: یاقاسي القلب کیف تظهر کل هذا السرور بعد مقتل «الحسین الذبیح»؟ لعن الله من عادی علیاً و الحسین (ع)...، و في ختام الکتاب یطالعنا شخص آخر یبتسم، ویتعرض لنقد الشیخ أبي القاسم علی تلک الشاکلة (ص 146). و من البدیهي أن التشکیل الفني لم یکن من باب الصدفة، ذلک لأن هذه العبارات و المعاني لم تتکرر في أي موضع آخر من الکتاب. وقد بین أبوالمطهر هدفه من هذا الأسلوب في الکتابة: فقد اجتمعت في طبیعة أبي القامس خصلتان متضادتان بشکل مستمر. ونحن نلمس هذا الأسلوب في التقابل و التعارض في جمیع مواضع الکتاب، و یتجلی بوضوح في المناظرة بین أصفهان و بغداد. وفي نهایة الکتاب یصرح أیضاً قائلاً: «هذه حکایة أبي القاسم البغدادي التمیمي وأحواله التي توضح لک أنه کان غُرّة الزمان و عدیل الشیطان و مجمع المحاسن و المقابح متجاوزاً الغایة والحد متکاملاً في الهزل والجد موفوراً من الأخلاق والنفاق متخلقاً منها بدخلاق أهل العراق» (ن.ص). إن هذا الأسلوب «القبیح والجمیل» الذي یمیل إلی أن یدرکه قرّاءه في أحوال أبي القاسم، کان محط اهتمامه دوماً. فالقصة اعتباراً من أولها و حتی الصفحة 102 حافلة بمدح بغداد و مظاهر جمالها و ذم أصفهان؛ ثم إذا بالمشهد ینقلب فیما بعدها وحتی نهایة الکتاب، فنراه یثني علی أصفهان رغم کل عیوبها، وینتقد بغداد و البغدادیین.

دراسات حول الکتاب: حتی 1902م حیث بادر آدم متز إلی طبع کتاب حکایة في هاید لبرغ، لم یکن لأحد علم به إلا في النادر. و قد بذل متز جهداً کبیراً لفهم الکلمات الغریبة و العامیة الواردة في الکتاب والتي لم تذکر في المعاجم العربیة، وعلق علیه بإسهاب فضلاً عن مقدمته التي تمتاز بأسلوبها العلمي (ص 23-60)، ثم أضاف إلیها فهرساً لعدة کلمات غریبة مع توضیحات لها (ص 61-69)، إلا أن هذا الجهد – کما یشیر إلی ذلک غابریلي – مایزال ناقصاً، فقد بقي الکثیر من کلمات وعبارات الکتاب دون ضبط وإعراب وغیرمفهوم، مما أدی إلی أن یواجه الجمیع صعوبة بالغة في قراءة الکتاب. و قد سعی دخویه إلی أن یزیل بعضاً من إبهامات الکتاب، إلا أن عمله هذا محدود أیضاً (غابریلي، EI2, S; 33, 37).

الصفحة 1 من3

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: