الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الادب العربی / أبو العتاهیة /

فهرس الموضوعات

أبو العتاهیة

أبو العتاهیة

تاریخ آخر التحدیث : 1443/1/4 ۱۶:۵۱:۴۷ تاریخ تألیف المقالة

أما زهد أبي العتاهیة فهو بحد ذاته موضوع أساسي و غامض، فکثرة زهدیاته الموجودة الیوم تبنئ بکون نزعاته الزهدیة، جادة. ومع کل هذا فلا نعلم علیوجه الدقة کیف بدأ هذه النزعات، و ما کان منشأها و ماهیتها في الحقیقة؟ تری هل کانت تحولاًحقیقیاً؟ أم تحولاً من نوع میول شعراء البلاط الذین کانت التوبة و الزهد في أواخر العمر – علی مایبدو – حسنَ ختامٍ ضروریاً لحیاة اللهو و العبث في فترتي شبابهم وکهولتهم؟ أم نوعاً من میول الشعراء الذین کانت صورهم القدسیة والزاهدة نتیجة تصورات، أو إیحاءات أنصارهم، أو أتباعهم في الفترات اللاحقة أکثر من کونها نتیجة تقواهم وورعهم هم أنفسهم؟ وتوجد بین أیدینا عدة روایات متناثرة بهذا الشأن تتحدث إحداها – التي لاتخلو علی مایبدو من الخلط و الوهم – عن اتجاه الشاعر إلی الزهد أیام شبابه (ابن العدیم، 4/1762)، وهناک روایة أخری نقلت عن مخارق مغني بغداد الشهیر و الصدیق المقرب من الشاعر، تفید بأن زهد أبي العتاهیة کان نتیجة تحوله في سنوات شیخوخته: حدث في یوم من الأیام بعد مجلس طرب له مع مخارق أن تغیر حال الشاعر و کسر – و هو یبکي – کل ماوجده في بیته من النبیذ وآلته و الملاهي و ألقاها خارجاً، ولبس الصوف واعتزل الناس، بل جعل نفسه بهیئة أصبح معها موضع سخریة مخارق و تأنیبه (أبوالفرج، 4/107-109). ویبدو أن هذه الواقعة تعود إلی أواخر حیاة الشاعر، حیث یقول مخارق: إنه لم یرَ أبا العتاهیة الذي مرض بعد ذلک ورفض حتی لقاء صدیقه (م.ن، 4/109). إلا أننا نجد في روایتین أخریین أن سبب زهده هو عتبة وحب الشاعر الیائس لها (المسعودي، 6/333-336؛ الخطیب، 6/258؛ ابن العدیم، 4/1767- 1769). وفي هذه الحالة ینبغي القبول بأن حب الشاعر هذه الجاریة – ورغم بعض الدوافع المادیة التي نسبت إلی الشاعر – لم یکن نزوة عابرة، بل استمر طویلاً (ظ: ابن أبي طاهر، 18-19، الذي یظهر أبا العتاهیة عاشقاً لعتبة حتی في خلافة المأمون رغم إنکاره هو). وهذا الردي ینسجم بشکل خاص مع وجهة نظر بعض الباحثین المعاصرین الذین اعتبروا تأثیر هذا الحب الیائس عامل حسم في اتجاه الشاعر إلی الزهد، بل قارنوه بعشق دانته لبیاتریس (ظ: المقدسي، 153-155؛ البستاني). ومع کل هذا فإن أیاً من هذه الروایات لوحدها لایمکن الرکون إلیها. ذلک أن لدینا مثلاً روایة أخری عن حب الشاعر لعتبة خلال خلافة هارون، تظهر الشاعر السجیل یواصل حبه لعتبة و هیامه بها (ابن العدیم، 4/1769- 1770)، ولدینا روایة أخری أیضاً لایُعرِض فیها الشاعر الشیخ عن التغزل بعتبة فحسب، بل یستعد حتی لتحمل معاناة السجن علی أن لایوافق علی اقتراح هارون بالزواج من عتبة (م.ن، 4/1770).

والأمر الآخر الجدیر بالاهتمام بشدن زهد أبي العتاهیة هو مواصلته المدیح في بلاطات الخلفاء و تمتعه المستمر برواتبهم و صلاتهم في نفس الفترة التي کان الشاعر – کما تذکر المصادر – قد التزم فیها حیاة الزهد وبس الصوف. و مدائحه لهارون بمناسبة تعیینه أبنائه أولیاء للعهد (186هـ) و حربه إمبراطور البیزنطیین و استیلاؤه علی مدینة هرقلة (191هـ) التي ذکرناها فیما مضی، ومدحه الأمین ومن ثم المأمون والبعض الآخر من کبار رجال البلاط، و الصلات التي کان الشاعر ینالها عن هذه الطریق، کلها من هذا الصنف (أبوالفرج، 4/52-54؛ قا: ابن أبي طاهر، 160-161؛ أیضاً ظ: ضیف، 243). وفضلاً عن ذلک، فحین نضع نصب أعیننا رأي بعض معاصریه الذین اتهموه بالبخل و جمع الأموال ووصفوا زهده بأنه ریاء (ظ: الجاحظ، البخلاء، 2/133؛ أبوالعلاء، 1/154، البیت 9؛ أبوالفرج، 4/2، 15-19، 75-76، 83، 95، 99-100)، تعزز بشکل أکبر الظن بأن زهده عملیاً – علی الأقل – کان ذا مظاهر متناقضة، وهو یظهر شخصیة مزدوجة، لم تکن صفاتها تبرز دائماً بشکل موحد، رغم زهدیاته الشهیرة التي بین أیدینا.

والروایات التي تتحدث عن أوضاع أبي العتاهیة في السنوات الأخیرة من عمره، خصص أغلبها لنقل أشعاره و مدائحه للأمین والمأمونو بعض أمراء و کبار رجال بلاطیهما (ظ: الجاحظ، البیان...، 3/82؛ ابن أبي طاهر، 19، 158، 160، 161؛ ابن عبد ربه، 3/261-262؛ المسعودي، 7/31-32؛ أبوالفرج، 4/49-50، 52-54، 79-80، 10/192- 193؛ ضیف، ن.ص؛ البستاني). لکن توجد أیضاً روایات قلیلة تتحدث عن انشغال الشاعر في شیخوخته بوعظ الناس وإنشاد الشعر الحکمي في مسجد، أو في أحد الطرقات (مثلاً ظ: أبوالفرج، 4/45-46)، وفضلاً عن المدیح و الغزل یشکو أحیاناً من ارتفاع الأسعار وماتعانیه حشود الجیاع الذین لم یغنموا من حیاتهم سوی العیون الباکیة والدجساد النحیلة، وذلک في شعر بهیئة الوعظ یقدمه إلی الخلیفة (ظ: أبوالعتاهیة، 439-441؛ ضیف، 251-252).

وأبو العتاهیة الذي کان قد نشأ في أسرة من الموالي، لم یکن یتمتع لابنصیب من الاسم و النسب ولابتربیة وتعلیم مبر مجین، ولهذا فقد اتخذ من قریحته الشعریة – التي کانت ثروته الوحیدة – وسیلة لتحقیق آماله و ما یصبو إلیه، لکن یبدوأن إخفاقات الشاعر الشاب و سوء طالعه – في نفس الوقت الذي کان قد منّی نفسه فیه بأماني کثیرة – خلقا فیه نوعاً من التشاؤم وانعدام الرغبة في نفس الأمور التي کانت جوهر آماله. وعلی هذا فلم تکن نجاحاته المادیة تبعث فیه الطمأنینة، ولم یکن صفاء الزهد یثیر فیه الشعور بالإشباع والانعتقا. ففیه الحرص والغنی، والضعة والأنفة، وحب الدنیا والزهد فیها. وکل هذا کان ینبع من ردود أفعال نفسیة لإنان کان یواجه الإحباط لدیه لابالجد و الأمل، بل بالتخلي عن الأمل. وفي الحقیقة فربما أمکن القول إن الإحباط الناجم عن حبه الیائس لعتبة – إذا تقبلنا صحة ذلک و صدقه – لم یکن السبب في انفصال الشاعر عن الحیاة المادیة فحسب، بل هو بذاته معلول لعلة، وفي الحقیقة انعکاس لرد فعله النفسي المزودوج تجاه وضعه الفردي و الاجتماعي. وعلی هذا فإن رذائل مثل المجون والتحلل الخلقي و البخل وحب المال والجاه التي تنسب لأبي العتاهیة، بقدر الفضائل المنسوبة إلیه، أي الزهد و العزوف عن الشهوات، کانت مرتبطة بالبیئة التي نشأ فیها و کیفیة تکون شخصیته. وبعبارة أفضل فإن فضائل الشاعر هي الوجه الآخر لرذائله، وکلاهما ردّ فعل علی حرمانه و رغباته المادیة و المعنویة المکبوتة. ولاشک في أنه – کما تقول المصادر – ظل منهمکاً لهذا السبب في نظم المدیح في بلاطات الخلفاء معلقاً آماله علی صلاتهم في نفس الفترة التي ینبغي أن یکون قد آثر فیها حیاة الزهد و التصوف (قا: الفاخوري، 422-423). ومن وجهة النظر هذه، فإن کثرة زهدیات أبي العتاهیة، وکذلک تعدد الروایات التي بین أیدینا عن زهده و ترکه الغزل، و من ثم دخوله السجن علی عهد هارون، لیست مما لاینسجم و الأخبار المتعلقة بنظمه المدائح وحبه الدنیا فحسب، بل إنها تکملها أیضاً. وعلی هذا یمکن اعتبار زهد أبي العتاهیة نوعاً من نظرة سلبیة أثّر فیها التفکیر العقلاني أکثر من العواطف والانفعالات النفسیة. وبعبارة أوضح، إن ماهو بارز في زهدیات شعراء مثل أبي العتاهیة لیس الندم علی العمر المدنس الماضي، بل التشاؤم الناجم عن الإحباط في إشباع الشهوات. ولهذا السبب لایلاحظ في زهدیات أبي العتاهیة سوی الیأس و التشاؤم (ظ: EI1).

إن ماکان یراه نصب عینیه هو عدم ثبات العالم و عبثیته وفناءه، ولیس السمو والأمل بالفلاح في هذا العالم (الفاخوري، 424). فغایه الولادة هي الموت، وغایة البناء الخراب. وإن أولئک الذین علقوا آمالهم علی هذا العالم هم في رأیه کالأنعام التي باجترارها الطعام و سمنتها تلقي بأنفسها في براثن الموت جهلاً (أبوالعتاهیة، 33، 398؛ قا: المولوي، 1/142، البیت 9، الذي یحتمل أن یکون متأثراً بأشعار أبي العتاهیة). وفي العالم الذي یعمه الفساد و الخدیعة، وکل مافیه لاینتهي إلا إلی الفناء والعدم، فما أفضل من أن یتحلی الإنسان بالصبر و القناعة ولایتعلق قلبه بما سیفارقه بالموت (أبوالعتاهیة، 238-239، مخـ). إن رتابة هذه الموضوعات و المفاهیم التي تتکرر في جمیع أرجاء دیوانه بأشکال وصور متنوعة، أظهرته بمظهر شاعر واعظ، أصبح کلامه أشبه بکلام الخطباء ومعلمي الأخلاق رغم تمتعه بسلاسة الطبع و عذوبة البیان (المقدسي، 157-159؛ الفاخوري، 425؛ عن تأثیر هذه الأشعار في المتصوفة الآخرین، ظ: ماسینیون، I/361, III/361، الذي ذکر الحلاج في هذا المضمار).

ویمکن مشاهدة آثار هذه النزعات المتناقضة في عقائد أبي العتاهیة الدینیة و الکلامیة أیضاً. وبطبیعة الحال فإن دراسة عقائد أبي العتاهیة الکلامیة أمر عسیر، ذلک أن مانُقل في المصادر المتقدمة بهذا الشأن لایتعدی روایة، أو زوایتین مختصرتین ومکررتین، وبعض الاتهامات التي لایمکن بطبیعة الحال التغاضي عن کونها عدائیة، خاصة وأن هذا العدد من الروایات حتی لو لم نشکک في کونه مما یمکن الرکون إلیه، لایتعدی کونه ذکر العقائد و الاتجاهات الفکریة التي نسبت للشاعر. ومع کل هذاف فربما أمکن بدراسة هذه الروایات و الاستعانة ببعض الأشعار والقرائن، الحصول علی حقائق في هذا المجال توضح جوانب من میول الشاعر العقائدیة رغم کونها غامضة و نسبیة.

وإن الإشارة الأکیدة إلی اعتقاد أبي العتاهیة بالتوحید التي وردت في روایة الصولي (ظ: أبوالفرج، 4/5)، ومع الدخذ بنظر الاعتبار بقیة الروایة، وأیضاً ماورد في بعض المصادر عن زندقته و عقائده الثنویة (ابن المعتز، 228، 364)، جدیرة بإنعام النظر. وکأن هذا التأکید کان محاولة لتسویغ المیول التي کانت تبدو کفراً و تشکل خطاً علی أصحابها مقارنة بالعقائد المتداولة في ذلک العصر. و في بقیة روایة الصولي نسب إلی أبي العتاهیة الاعتقاد بجوهرین متضادین، إلا أن هذا لیس الثنویة المطلقة، بل هو نفسه مخلوق الله الواحد. واستناداً إلی هذه الروایة فإن الله خلق هذین الجوهرین المتضادین لامن شيء، ثم إنه بنی العالم منهما. ولذا فإن العالم حدیث العین و الصنعة، لامحدث له إلا الله، کما أن الله سیردّ کل شيء إلی الجوهین المتضادین قبل أن تفنی الأعیان جمیعاً (أبوالفرج، ن.ص). ویدعم البعض الموجود من أشعار أبي العتاهیة هذه الرؤیة (ظ: ص 449؛ عطوان، 121-126).

ولاشک في أن الاعتقاد بوجود جوهرین، أو عنصرین متضادین في العلام مستقیً من العقائد المانویة التي کانت شائعة جداً في العراق آنذاک، وکانت قد أصبحت مدعاة لقلق الحکام العباسیین (الفاخوري، 354). والزندقة بمعناها الأخص أیضاً والتي کانت آنذاک تشکل تهمة خطیرة جداً، لم یکن لها في الحقیقة مضمون سوی الإیمان بنفس المعتقدات المانویة. ولاشک في أن أبا العتاهیة کانت له معرفة بهذا الدین، ولایستبعد أن یکون قد درس تعالیمه أیضاً بشکل جید، ذلک أنه فضلاً عن أقوال ابنه الذي تحدث بفخر – علی مایبدو – عن تعلق أبیه بالعلوم والفلسفات الهندیة و الیونانیة و الإیرانیة (ابن العدیم، 4/1759؛ إضافة إلی أنه عدّ أباه متبعاً لابن المقفع في الأدب، وربما کان قصده من هذه الکلام بساطة البیان و انعدام التکلف فیه لدی هذین الاثنین، ظ: ن.د، ابن المقفع، أسلوب ابن المقفع في الکتابة)، توجد بعض الدلائل الأخری التي تدعم هذا لارأي، فمثلاً تتحدث روایة في الأغاني عن نقاشات الشاعر العدیدة في الزهد و الحکمة مع علي بن ثابت (أبوالفرج، 4/43). الزندیق المشهور (ظ: ابن الندیم، 401). وفضلاً عن أن أبا الفرج اعتبر القصیدة التي نظمها أبوالعتاهیة في رثاء علي بن ثابت متأثرة بالفلسفة الیونانیة (4/43-44؛ أیضاً ظ: ضیف 244). کما تتوفر لدینا أخبار تدل علی أن الشاعر عُرّض لشکوک و ملاحقة «صاحب الزنادقة» (أبوالفرج، 4/7، 35). وبطبیعة الحال فإن شکوک صاحب الزنادقة في أبي العتاهیة کانت ناجمة عن الإشاعات المنتشرة عن زندقة الشاعر (ظ: ابن قتیبة، 2/675، 679؛ ابن المعتز، 364؛ أبوالفرج، 4/2، 34-35، 51، في إحدی هذه الروایات اتهم أبوالعتاهیة بمعارضة القرآن؛ الثعالبي، 176؛ ابن العدیم، 4/1761-1762)، بحیث ورد في روایة أن هارون الرشید أیضاً ألقی به في السجن لنفس هذا السبب (ن.ص) و من هنا ندرک أن جمیع حالات سجن أبي العتاهیة علی عهد هارون – کما قیل – لم تکن ناجمة بالضرورة عن وقائع فنیة وأدبیة (عبدالجلیل، 99). وربما کانت حکایة امتناع الشاعر عن نظم الغزل و دخوله السجن علی عهد هارون – کما قال غولدتسیهر- روایة ترتضیها العامة لحقیقة أن أشعاره کانت لاتتفق تماماً مع العرف الدیني السائد في ذلک العصر (ظ: نیکلسون، EI2; 298).

وأحد الأدلة التي أوردها بعض معاصري أبي العتاهیة لإثبات زندقته هو أنه جری الحدیث في أشعاره عن الموت و الفناء و عدم ثبات العالم بشکل محض، دون أن ترد فیها أیة إشارة للبعث والجنة والنار (الصولي، 47-48؛ أبوالفرج، 4/2، 34-35)، لکن هذا الادعاء دحضه الشاعر نفسه وابن عبدالبر جامع زهدیاته و کذلک بعض الباحثین المعاصرین أیضاً (أبوالعتاهیة، 33-34؛ أبوالفرج، 4/35؛ الخطیب، 6/253-254؛ ابن عبدالبر، 37-38؛ عبدالجلیل، ن.ص؛ نیکلسون، GAL, S, I/119; 300-296-297, 299)، إلا أن البعض الآخر یري أن الشاعر رغم تحدثه في أشعاره عن الثواب و العقاب الأخرویین، لکنه – خلافاً للقرآن الکریم – لم یسهب في ذلک و لذا أصبح کلامه شبیهاً بکلام المانویین الذین کانوا یدعون الناس إلی الزهد و العمل الصالح في هذه الدنیا؛ أي أنه رغم کون أشعاره مفعمة بالایات و الأحادیث، إلا أن مبدأ الصراع بین أصلي النور والظلام، أو الخیر و الشر هو الذي یشکل العمود الفقري لنزعة الشاعر في زهدیاته (ضیف، 241-242؛ للاطلاع علی بحث موضوع النورو الظلام في أشعار أبي العتاهیة، ظ: فایدا، 225-228).

إلا أنه و کما قیل فإن الثنویة التي ذکرت في روایة الصولي والتي یمکن العثور علی شواهد تدعمها في بعض أشعار أبي العتاهیة أیضاً، تفتقر إلی شمولیة التثنویة المانویة خاصة في مقابل مبدأي الخیر و لاشر اللذین هما في صراع دائم في النظرة المانویة للعالم، وتهتم برب واحد هو خالق العالم و مبدأه و منتهاه (تجدر الإشارة بهذا الشأن بشکل خاص إلی شعر أبي العتاهیة الشهیر الذي نظمه دفاعاً عن نفسه في مواجهة اتهامه بالزندقة، ظ: أبوالفرج، ن.ص؛ قا: ابن عربي، 3/173، الذي استشهد بهذا الشعر عدة مرات). ولذا یمکن القول إن العقائد الإسلامیة و المانویة قد امتزجت ببعضها في شعر أبي العتاهیة (نیکلسون، 297)، وأوجدت مفهوماً لم یمنع صبغته الإسلامیة من انتقادات المنتقدین و اتهاماتهم. وقد جرّ تأثیر العوامل الدجنبیة في شعر أبي العتاهیة، بعض المفسرین إلی أودیة أخری، فمثلاً یری غولدتسیهر في أحد أشعاره الذي جری فیه الحدیث عن ملک تزیّا بزي الصوفیة (أبوالعتاهیة، 392، البیت 2) إشارة إلی بوذا (ص 132؛ أیضاً ظ: نیکلسون، 297-298، الذي لم یوافق علی تفسیر غولدتسهیر، واحتمل أن یکون الشعر المذکور قد قیل في مدح الزهد؛ قا: ضیف، 242-243، الذي نظر – خلافاً لنیکلسون – إلی هذا التفسیر نظرة تأیید، آخذاً بنظر الاعتبار الأفکار البوذیة في الدیانة المانویة)، إلا أن غیوم احتمل أن یکون الشعر المذکوردالاً علی حب أبي العتاهیة للإمام موسی الکاظم (ع)، وعلی میوله الشیعیة (ظ: EI2).

ومن ناحیة فإن البعض من أمثال ریشیر المترجم الألماني لزهدیات أبي العتاهیة، اهتم بتأثیر الدفکار المسیحیة علی إبي العتاهیة، واعتبر بعض ألفاظ شعره و معانیه متأثرة بدعایات الوعاظ المسیحیین (GAL, S، ن.ص)، بل إن البعض وسّع من نطاق التفسیر و حاول تفسیر بعض خصال أبي العتاهیة و منها بخله و جمعه المال أیضاً بما یتلاءم والعرف المانوي الذي بموجبه ینبغي للمانویین الصادقین أن یحصلوا علی أرزاقهم من کدح الآخرین (ضیف، 243). وواضح أنه بتفسیر من هذا النوع یظهر أبوالعتاهیة بمظهر شخص مانوي بکل معنی الکلمة، لم تکن أشعاره فحسب تجسیداً للمبادئ المانویة، بل تصرفاته أیضاً (للاطلاع عل یوجهات نظر الباحثین بشأن عقائد أبي العتاهیة، ظ: عطوان، 126-142).

وفي روایة الصولي نسبت آراء أخری أیضاً إلی أبي العتاهیة تتعارض بطبیعة الحال مع بعضها البعض: الاعتقاد بأن معرفة الإنسان تحصل بقوة التفکیر و البحث و الاستدلال ولیس بالإلهام الإلهي (أبوالفرج، 4/5- 6؛ نیکلسون، 297؛ قا: أبوالعتاهیة، 229، البیت 1)؛ الاعتقاد بالوعید (أبوالفرج، 4/6) الذي لایتلاءم و قوله بالجبر (ظ: بقیة المقالة)؛ تحریم الأخذ و العطاء في المعاملات الدنیویة (ن.ص)، الذي رغم أنه دال علی بعض العلاقات المانویة، یبدو معه مستبعداً ارتباط الشاعر به (ظ: أبوالعتاهیة، 385؛ نیکلسون، ن.ص)؛ الاعتقاد بالمذهب الشیعي الزیدي البتري (ظ: ن.د، الأبتریة) في نفس الوقت الذي یتجنب فیه الإساءة إلی أصحاب النبي (ص) بشکل عام ورفض الخروج علی الحاکم (أبوالفرج، ن.ص؛ ابن العدیم، 4/1760)، مما لاینسجم إلی حدّما مع الأشعار التي نظمها أبوالعتاهیة فيمدح الخلفاء الثلاثة (ظ: ص 154؛ نیکلسون، ن.ص، الذي اعتبر اعتقاد أبي العتاهیة بالتشیع بعید الاحتمال جداً)؛ اعتقاده بالجبر (أبوالفرج، ن.ص؛ أیضاً ظ: تبصره ...، 175-176؛ ماسینیون، I/361-362). إضافة إلی ذلک، توجد روایتان أخریان تدلان علی مایبدو علی اعتقاد الشاعر بقدم القرآن، رغم أنه یمکن تفسیرها بشکل آخر (الطبري، 9/189؛ دبوالفرج، 4/8).

ومع کل هذا ولدجل دراسة الآراء الکلامیة المنسوبة إلی أبي العتاهیة لایوجد مصدر سوی الروایات المعدودة المتناثرة في الکتب الأدبیة والکلامیة (فضلاً عما نقل عن الطبري و أبي الفرج، ظ: القاضي عبدالجبار، 274؛ الحمصي، 1/164-165؛ تبصرة،263). واستناداً إلی النجاشي (ص 31-32) فإن أباسهل النوبختي (تـ311هـ) قد ألف کتاباً في الرد علی أبي العتاهیة في التوحید في شعره، وقد فُقد أیضاً. وهنا ینبغي الانتباه إلی حقیقة أن أبا العتاهیة هو شاعر بالدرجة الأولی، وإن مجمل تفکیره و شعره – کما قیل – تفکیر شاعري، أي امتزجت فیه مختلف العناصر العقلیة و الخیالیة بشکل لایمکن معه بسهولة تطبیق الدقائق الفلسفیة و الکلامیة علیها، خاصة وأنه کان یعیش في بیئة شهدت امتزاج الثقافات و الفلسفات المتنوعة في المجتمع الإسلامي. و کان من الطبیعي له، و هو الذي تعرف وارتبط منذ شبابه بشتی الأوساط و المعتقدات، أنیعکس في شعره – و بمقتضی عقائده و أوضاعه في کل فترة – انطباعات متفاوتة، بل متناقضة (البستاني؛ الفاخوري، 422). وهذا الأمر بذاته مظهر آخر للنزعات المتضاربة في شخصیته. وربما کانت الروایة التي نقلت عن عدم ثبات أبي العتاهیة العقائدي و التي قیل فیها: إنه کان یعتقد بادئ الأمر بشيء، لکنه یتخلی عنه عندما ینتقد علیه، ویتجه إلی عقیدة أخری (أبوالفرج، 4/6)، لم تکن ناجمة عن عداء الراوي للشاعر. وتوجد روایة أخری أیضاً أُنکرت فیها مبدئیاً معرفة أبي العتاهیة بالمسائل الکلامیة (م.ن، 4/80). وعلی هذا، فمن الأفضل تجنب إبداء رأي حاسم بشأن آراء أبي العتاهیة الکلامیة والدینیة، وعدم اعتبار دشعاره التي لم یعثر إلا علی قسم محدود منها معیاراً لمعرفة آرائه الکلامیة، إلا في حالات قلیلة؛ رغم أن بعض رؤی الشاعر و معتقداته العامة التي هي نظراته الفلسفیة للعالم و الذنسان، قد تجلت في هذه الأشعار (ظ: نیکلسون، 298؛ فایدا، 219-221)، ولهذا أیضاً فربما کانت الحکایة التي نقلها الجاحظ عن مناظرة بین أبي العتاهیة وثمامة بن أشرس، المتکلم المعتزلي الشهیر بحضور المأمون والتي وردت في الکتب الکلامیة أیضاً، جدیرة بالاهتمام؛ واستناداً إلی هذه الروایة فإن ثمامة شتم بشکل مقذع أبا العتاهیة الذي سعی إلی الدفاع عن الاعتقاد بالجبر، وإن المأمون قال للشاعر بسخریة: إن من الأفضل له أن ینشغل بشعره (ابن عبدربه، 2/382؛ أبوالفرج، 4/6).

الصفحة 1 من3

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: