الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الادب العربی / أبو العتاهیة /

فهرس الموضوعات

أبو العتاهیة

أبو العتاهیة

تاریخ آخر التحدیث : 1443/1/4 ۱۶:۵۱:۴۷ تاریخ تألیف المقالة

أَبو العَتاهیَة، أبوإسحاق إسماعیل بن القاسم بن سوید بن کیسان (130-211هـ/ 748- 826م)، شاعر عباسي کبیر.

إن ماهو جدیر بالاهتمام في حیاة هذا الشاعر الذي یعتبر رائد شعر الزهد، هو الصور المتباینة، بل المتناقضة التي قدمتها المصادر عن شخصیته و بعض جوانبها الروحیة. ففي الوقت الذي تحدثت أغلب هذه المصادر عن زهده و تصوفه و حتی عن السجن الذي ارتضاه لنفسه علی عهد هارون الرشید، توجد روایات عدیدة أیضاً بشأن بخله وحبه المال ووضاعته، مما یجعل التغاضي عنها، أو القول إنها ذات صلة بفترات أخری من حیاة الشاعر، أمراً غیر یسیر نسبیاً. ویمکن ملاحظة آثار عدم الانسجام هذا في جوانب أخری من حیاة و تصرفات الشاعر. و ربما کان أسهل مایمکن فعله لمعرفة هذه الظاهرة، هو أن نفسر بعض هذه الروایات استناداً إلی البعض الاخر، فمثلاً مع مانعرفه عن أبي العتاهیة من حب للجاه و طمع، نسعی إلی أن نعتبر کل مانقلوا عنه من زهد و إعراض عن ملاذ حیاة البلاط، عدیم الأهمیة، أو أن نذکر مظاهر أخری من رباء الشاعر، أو علی العکس نقدم له صورة نقیة نظهر فیها الجوانب السلبیة من شخصیته و تصرفاته ضئیلة مقارنة بنزعاته الزهدیة. لکن یبدو أن أفضل طریقة لتجنب السذاجة في الحکم هي أن نسعی قدر المستطاع للعثور علی الأسس الاجتماعیة والفردیة التي کانت تؤدي في إطار تاریخي معین إلی ظهور نزعات متناقضة من هذا القبیل لیس علی سبیل المصادفة، بل بالضرورة. ولما کان هناک اتهام خطیر مثل الزندقة موجهاً لأبي العتاهیة، ینبغي عدم استبعاد نوایا الرواة المعلنة والخافیة لدی دراسة حیاته و معتقداته.

ولقب أبي العتاهیة (عتاهیة = خفة العقل) الذي تصوره البعض کنیة للشاعر، هو في الحقیقة اللقب الذي أطلق علی الشاعر – فیما یبدو – بسبب خفة عقله و عجبه و میله إلی المجون، رغم أن البعض أیضاً رأی أن اتهام الشاعر بالزندقة هو السبب في إطلاق هذا اللقب علیه (ظ: أبوالفرج، 4/2- 3؛ ابن عبدالبر، 36؛ ابن منظور، لسان، مادة عته). أسر جده کیسان الذي کان من أهل عین التمر قرب الأنبار، في طفولته بأیدي جند خالد بن الولید و قیل: إنه کان أول أسیر أتي به إلی المدینة علی عهد أبي بکر (ابن عبدالبر، 35-36؛ قا: أبوالفرج، 4/3). ولما کان قد رُبي في طفولته یتیماً عند بني عَنَزة (رهط من ربیعة)، وأعتق علی أیدیهم أیضاً، فقد عُدّ هو و أحفاده و منهم أبو العتاهیة من موالي بني عنزة (م.ن، 4/3- 4؛ ابن عبدالبر، 35؛ ابن العدیم، 4/1753-1754). ونسبة العنزي إلی أبي العتاهیة کانت لهذا السبب (ولم یکن هذا الأمر بطبیعة الحال لیمنعه – کما قالت بعض المصادر – أحیاناً من أن یغیر ولاءه و ینسب نفسه إلی قبیلة أخری، آخذاً بنظر الاعتبار رغباته و مصالحه، ظ: أبوالفرج، 4/32-33). وکانت أم الشاعر أیضاً من موالي بني زهرة (رهط من قریش) (م.ن، 4/4؛ ابن عبدالبر، 36؛ ابن العدیم، 4/1754). ومن هنا یتضح بطلان رأي أولئک الذین عدّوا أبا العتاهیة من أصل عربي (ظ: المقدسي، 148-150؛ البستاني؛ قا: نیکلسون، 226؛ هوار، 74). فلاعجب أن یفضل الشاعر في قصائده (ص 282) التقوی والعمل الصالح علی النسب العریق (أیضاً ظ: أبوالفرج، 4/5؛ ابن العدیم، 4/1754-1755).

ذکر أن الکوفة کانت موطن الشاعر وأجداده (أبوالفرج، 4/1، 3؛ ابن العدیم، 4/1751-1759)، لکن لدینا روایتان تقول إحداهما إن أبا العتاهیة کان من أهل المذار (بین واسط والبصرة)، وتقول الأخری إن أباه جاء من قریة غیر معروفة تدعی ورجة (ظ: أبوالفرج، 4/4- 5؛ ابن العدیم، 4/1762)، فإن صحت هاتان الروایتان یمکن حتمال أن یکون الشاعر قد سافر في طفولته برفقة عائلته إلی الکوفة وسکن فیها (أبوالفرج، 4/4؛ ابن العدیم، 4/1752). کانت عائلته مملقة و کان أبوه الذي هو رجل سوقي (م.ن، 4/1756) یعمل خزّافاً، وفي روایة حجاماً (أبوالفرج، 4/5؛ ابن العدیم، ن.ص). وکما یستشف من الروایات فإن أبا العتاهیة أیضاً قد نال نصیباً من کلا الحرفتین، ذلک أننا نعلم من جهة أن الشاعر کان في طفولته وشبابه یقیم أوده و عائلته من صنع الخزف وبیعه (ابن قتیبة، 2/675؛ ابن المعتز، 230؛ المسعودي، 6/245؛ أبوالفرج، 4/4، 9)، وحتی بعد أن ذاع صیته، کان منافسوه أحیاناً یدعونه ابن الخزاف انتقاصاً منه (الخطیب، 6/258). ومن جهة أخری فقد ورد في بعض الروایات أن أبا العتاهیة عندما اتج إلی الزهد امتهن الحجامة ابتعاداً عن الغرور و تحقیراً لنفسه (أبوالفرج، 4/7-8، 107-109؛ أیضاً ظ: ابن العدیم، 4/1757-1758). وقد نقلت روایة فریدة عننجل دبي العتاهیة تقول: إن الشاعر کان یعیش في ترف آنذاک في الملک الذي کان قد ورثه عن أبیه، ولم یکن له شغل سوی الأدب (م.ن، 4/1759)، إلا أنه مع الدخذ بنظر الاعتبار ماذکرته المصادر عن إملاق عائلته، لایمکن اعتبار الروایة المذکورة جدیرة بارکون إلیها.

وفیما عدا عیشه فقیراً و بیعه الخزف، فإن مانعلمه عن حیاة أبي العتاهیة قائم علی الروایات التي تتحدث عن اختلاط الشاعر الشاب بامخنثین و بعض مجونه. و استناداً إلی بعض هذه الروایات التي کان مصدرها بدسرها هو الجاحظ علی مایبدو (ظ: م.ن، 4/1756)، فإن الشاعر کان في شبابه یعاشر جمعاً من مخنثي الکوفة وکان یتزیا بزیهم (أبوالفرج، 4/1؛ ابن العدیم، ن.ص). وکیفیة هذه الوقائع لیست معلومة علی وجه الدقة، بل إن ابن العدیم الذي یتحدث بهذا الشأن عن کتاب بعنوان أخبار أبي العتاهیة، لم یعتبر – نقلاً عن مؤلف الکتاب – قول الجاحظ بشأن تخنث أبي العتاهیة أمراً جدیراً بالاعتماد علیه، بل عدّ تصرفات الشاعر أیام شبابه ناجمة بشکل أکبر عن فقره و بؤسه (ن.ص). و هذا الکلام ینسجم أیضاً مع رأي بعض الباحثین المعاصرین، فشوقي ضیف (ص 238) مثلاً یری أن من المحتمل أن یکون السبب في لجوءالشاعر إلی اللهو و الزهور و لااختلاط بالمخنثین، هو فقره و منزلته الاجتماعیة المتدنیة التي کانت تتفاقم – علی مایبدو – بسبب قبح وجهه ورثاثة مظهره توجد روایات متناقضة عن شکل أبي العتاهیة و مظهره، ظ: المبرد، 2/870؛ المسعودي، 7/86؛ أبوالفرج، 4/8، 75).

ومن جهة أخری نری في روایة أبي الشمقمق الجدیرة بالتدقیق فیها أنه یؤنب أبا العتاهیة بقوله: أمثلک یضع نفسه هذا الموضع مع سِنّک و شعرک و قدرک؟ فأجابه أنه یرید أن یتعرّف حِیَلهم و یتعلم کلامهم (م.ن، 4/7). وواضح أن أبا العتاهیة الذي یُتحدث عنه في هذه الروایة، لیس شاعر الکوفة الشاب المجهول، بل هو – کما سنری – الشاعر الشهیر الذي أصبح منذ وقت طویل مداح خلفاء بغداد و ندیمهم. و لذافینبغي لنا إما أن نشکک في صحة هذه الروایة، أو نقبل مضطرین بأن نزوعه إلی التخنث لم یکن ناجماً بشکل محض عن الوضع الاجتماعي البائس في فترة شبابه، إلی درجة أن بشار بن برد حین سئل عن أشعر أهل زمانه قال مشیراً إلی أبي العتاهیة بازدراء: مخنث أهل بغداد (م.ن، 4/72، قا: 4/47، 75). وخلال هذه الفترة أیضاً نقلت روایات عن بعض أعماله الماجنة الأخری، فمثلاً نراه مرة ینظم شعراً وقحاً یخدش الحیاء في هجاء سُعدی وهي امرأة من موالي بني معنکانت عشیقة الشاعر و عشیقة عبدالله بن معن أیضاً، وقد ضربه عبدالله جزاء ذلک مائة سوط (م.ن، 4/24-26). ومن جهة أخری فإن صداقته لإبراهیم الموصلي (ن.ع) و کذلک علاقاته مع بعض الشخصیات و ارتیاده المجالس السئة السمعة نسبیاً، قد بدأت منذ هذا لحین دون شک (م.ن، 4/4؛ ضیف، ن.ص؛ البستاني).

تفتحت قریحة الشعر لدی أبي العتاهیة بشکل مبکر جداً. وقیل: إنه في بدایة شبابه و خلال تجواله یوماً لبیع الفخّار في الکوفة، انضم إلی جمع من الشبان من عشاق الشعر و شرع بنظم الشعر علی سبیل المنافسة فتغلب علیهم (أبوالفرج، 4/47)، وحتی قیل: إن الأحداث و المتأدبین کانوا یأنونه و یکتبون أشعاره علی ماتکسّر من الخزف (م.ن، 4/9). ولم تکن رغبات الشاعر الشاب هذا لتنسجم مع طبیعة عمله. وقد أجاب هو – في روایة – حین سئل: لماذا أنت أقل اهتماماً بعملک من أخیک زید؟ بقوله: أنا جرّار القوافي، وأخي جرّار التجارة (م.ن، 4/8- 9). ومهما یکن – وکما هو واضح – لابیع الجرار حسّن من وضعه المعاشي البائس ولاذلک الشعر الذي نظمه مبکراً. فاضطر إلی مغادرة الکوفة میمماً صوب بغداد. وقد نقلت روایة بهذا الشأن أیضاً مفادها أنه لما لم یعد عمل اشاعر الشاب و کسبه في الکوفة علیه إلا بالخسارة، لامته أمه، لأنه کان في وضع أکثر سوءً من إخوته بقولها: لم تخسر کل هذه الخسارة وتعلق آمالک علی إخوتک؟ فلو ذهبت إلی بغداد فربما أصبح و ضعک أفضل؛ فتوجه بدوره إلی بغداد (ابن العدیم، 4/1759).

ونجد في هذه الروایة الشاعر في بغداد أیضاً یمضي أوقاته بادئ الأمر بائعاً متجولاً، ثم حصل بعدها علی صلة جزیلة بنظمه قصیدة في مدح الخلیفة العباسي المهدي (حکـ 158-169هـ/ 775-785م). ومن هنا فتحت أمامه أبواب الحظ. وفي موضع آخر قال الشاعر في إشاره إلی أوائل أیام دخوله بغداد: کنا ثلاثة فتیان شباباً ولیس لنا ببغداد من نقصده فنزلنا غرفة (الخطیب، 6/254). إلاأننا نقرأ في روایة أخری أن أباالعتاهیة و إبراهیم الموصلي ذهبا معاً إلی بغداد، ثم انفصلا عن بعضهما، فبقي إبراهیم هناک، بینما غادر أبوالعتاهیة بغداد إلی الحیرة (أبوالفرج، 4/4؛ قا: ضیف، ن.ص). و من البدیهي أن بغداد کانت المحطة الأخیرة في حیاة الشاعر، و هناک شق طریقه، شأنه شأن صاحبه إبراهیم الموصلي، وربما بمعونة منه (م.ن، 239) إلی بلاط الخلافي وأصبح مداحاً و ندیماً لعدد من کبار الخلفاء العباسیین. ولدینا روایة غامضة أیضاً مفادها أن أباالعتاهیة کان یشغل مصباً دیوانیاً علی عهد خلافة المنصور (136-158هـ/753-775م) في جهاز أبي عصمة حماد ابن سالم الشیعي (ابن العدیم، 4/1752)، لکن لایوجد دلیل یدعم هذه الروایة.

وعن حیاة الشاعر وأوضاعه خلال خلافة المهدي لدینا معلومات وافرة. فمن جهة حاول لفترة التقرب إلی الخلیفة (الخطیب، 5/256) وأصبح أخیراً مدّاحه، و من بین ندمائه إلی الحد الذي نجده معه في حاشیة الخلیفة حتی عند خروجه للصید (أبوالفرج، 4/33- 34، 48-49)، ونری أنه بدشعاره العذبة یصبح مدعاة لطمأنینة الخلیفة خلال غضبه، أو حزنه الشدیدین (م.ن، 4/56، 72). لکننا نراه أیضاً من جهة أخری موضع نقمة الخلیفة أحیاناً شأنه شأن بقیة رجال البلاط فیضرب بالسوط،بل ویسجن (م.ن، 4/40؛ ابن المعتز، 230). وإن تعرفه إلی عتبة جاریة ریطة زوجة الخلیفة الذي انتهی هو الآخر بحب من جانب واحد عدیم الجدوی، بدأ في هذه الفترة. وفي الحقیقة و بقدر ما نعلم فإن جفاء الخلیفة أحیاناً و سوء معاملته له – مما أدی مرة حتی إلی نفي الشاعر إلی الکوفة – کان ینبع من هنا. وهناک روایات عدیدة عن حب الشاعر لعتبة وردّ فعل المهدي، و قد نُقلت في المصادر بعض قصائده الغزالیة بهذا الشأن أیضاً (ابن قتیبة، 2/676؛ ابن المعتز، 230-231؛ المسعودي، 6/240-250، 7/84-86؛ أبوالفرج، 3/251-252؛ الحصري، 2/346- 349)؛ لکن یستشف من بعض الروایات أن تعلق الشاعر بهذه الجاریة لم یکن لیخلو کثیراً من المطامع المادیة، بحیث أشارت بعض الروایات إلی هذه النقطة بشکل صریح، بأن الشاعر کان ینظر إلی عتبة بوصفها وسیلة للتقرب إلی الخلیفة (ابن المعتز، الخطیب، ن.صص؛ السراج، 2/123؛ ابن العدیم، 4/1762-1763). وربما کان إعراض عتبة عنه، بل و کرهها له – فضلاً عن وضاعة أصل الشاعر – مرتبطاً بحبه الجاه و المال (ظ: المبرد، 2/869-870؛ ابن المعتز، ن.ص؛ المسعودي، 6/243-245). وربما کان ماقیل من أن المهدي وصفه بالمتحذلق المُعَتَّه (أبوالفرج، 4/2، ولقب أبي العتاهیة أیضاً جاء من هنا)، لم یکن عدیم العلاقة بمیوله هذه؛ ومع کل هذا، فقد قدّم أبوالعتاهیة عن نفسه في الروایة التي تحدث فیها عن حبه لعتبة، صورة العاشق الصادق الذي یتقحم الأخطار في سبیل حبیبته، بل یرفض المبلغ الذي تقترحه علیه الحبیبة لیتخلی الشاعر عنها (الخطیب، 6/254-256). وکأنه کان یرید الدفاع عن نفسه بشکل ما أمام الإشاعات التي جرت علی الألسن بشأن ضعته و حبه المال، و یعرض لنفسه صورة أکثر إنسانیة.

وفضلاً عن علاقات أبي العتاهیة ببلاط المهدي، تجدر الإشارة هنا أیضاً إلی لهو الشاعر و علاقاته ببعض العابثین ممن یحتمل أن یکون قد تعرف إلیهم خلال فترة إقامته بالکوفة. ومن بین هؤلاء یمکن الإشارة بشکل خاص إلی شاعر ماجن مثل والبة بن الحُباب الذي اشتهر أم رالمهاجاة المتبادلة بینه و بین أبي العتاهیة (ظ: بقیة المقالة)، و کذلک تلمیذه الشهیر أبي نواس الذي أصبح بعد فترة قلیلة من بین أصحاب أبي العتاهیة ومادحیه (أبوالفرج، 4/71ف 23/194- 195؛ ابن منظور، أخبار...، 1/66- 67؛ ضیف، 238- 240؛ عطوان، 120).

أما عن أوضاع أبي العتاهیة خلال فترة خلافة الهادي (169-170هـ/ 785-786م)، فلیس بین أیدنا سوی عدة روایات؛ إلا أن هذه الروایات التي تظهره دائماً أیضاً و هو ینظم المدائح للحصول علی الصلات، أو إطفاء نار غضب الخلیفة، توضح بشکل جلي آمال – و في نفس الوقت – مخاوف شاعر بلاطٍ کأبي العتاهیة (أبوالفرج، 4/54- 56، 60-62).

إلا أن أکبر کمیة من الروایات عن حیاة أبي العتاهیة تعود إلی فترة خلافة هارون الرشید (170-193هـ/ 786- 809م). فنحن نجده في هذه الروایات – کما کان علیه فیما مضی – مداحاً للخلیفة و ندیماً له، مستفیداً من مزایا الحیاة في بلاطهارون خائفاً من سخطه، ملازماً له في السفر والحضر (م.ن، 4/63)، فهو إلی جانبه في مرضه (م.ن، 4/13-14)، وفي میدان سابق الخیل أیضاً (م.ن، 4/43). وفضلاً عن لهو و لعب هارون وانغماسه في الملذات، فإن حوادث عظیمة کالحرب مع الروم، أو المناسبات المهمة مثل تعیین الأمین و المأمون و المؤتمن لولایة العهد، کانت تشکل میداناً وموضوعاً یظهر فیه الشاعر فنه (الطبري، 8/307-310؛ المسعودي، 2/336-351؛ أبوالفرج، 4/104-105، 18/239-242)، وکما هو واضح فقد کان الخلیفة بدوره یکنّ له مودة کبیرة، وکان معجباً بغزله بشکل خاص (م.ن، 4/97-98، 8/371).وأغلب الحالات التي کان فیها هارون یغضب علیه – کما تقول المصادر – لم تکن ناجمة عن هفوات الشاعر، بل کانت – في الحقیقة – بسبب غیابه عن مجالس أنس الخلیفة و امتناعه عن نظم الأشعار الغزلیة. وهذا بحد ذاته أمر جدیر بإمعان النظر، فهو یشمل القسم الأکبر من الروایت الخاصة بعلاقة أبي العتاهیة بهارون، بحیث قلما وجدت روایة بهذا الشأن لم یُتحدث فیها عن إعراضه عن الغزل، و من ثم تحمله ألم السیاط و الزج به في السجن (مثلاً ظ: م.ن، 4/29-31، 63-65، 68).

وإن مایتکرر دائماً في أغلب هذه الروایات، هو أن اشاعر في الوقت الذي ینبغي أن یکون قد تخلی عن الغزل و اللهو سنة 181هـ (سنة دخول هارون الرقة) و اتجه إلی الورع و لبس الصوف، الأمر الذي أدی إلی أن یستاء هارون من تصرف الشاعر هذا و یضربه بالسوط و یلقي به في السجن، بل و یعیّن أشخاصاً لإیذائه، لعله «یثوب إلی رشده»، ویعود فی نظم غزلاً للخلیفة، وإن قسوة هذه العقوبة مثیرة للعجب بطبیعة الحال، ومثیرة للشکوک بشأن کیفیة و تفاصیل الوقائع. و من جهة أخری، فإن الروایات المتعلقة بهذه الحوادث لیست متعددة فحسب، بل متباینة أیضاً. فقد وردفي بعضها مثلاً أنه سجن لوحده (ظ: ن.ص)، وفي البعض الآخر برفقة صدیقه إبراهیم الموصلي (ظ: م.ن، 4/73- 74)، بل حتی نراه یوضع في سجن واحد مع سجین سیاسي محکوم علیه بالموت من دعاة عیسی بنزید الثائر العلوي (ظ: م.ن، 4/92- 93)، مما یشکل بدوره أیضاً أمراً باعثاً علی العجب، ذلک أن شاعر البلاط أصبح في زمرة المعارضین العقائدیین و السیاسیین، ولذا یتعزز التصور أن غضب الخلیفة من أبي العتاهیة لم یکن ناجماً عن خلاف بشأن الأدب والفن فقط. إلا أن مضمون هذه الروایة جدیر بالدراسة، ذلک أنه طُلب إلی ذلک الداعي السجین أن یبوح باسم المکان الذي یختبئ فیه عیسی بن زید. ومع الدخذ بنظر الاعتبار أن عیسی توفي سنة 168هـ، فینبغي أنتکون هذه الواقعة قد حدثت قبل هذا لاتاریخ، وبطبیعة الحال ینبغي أن تکون علی عهد خلافة المهدي و لیس هارون؛ کما أن بعض المصادر قد ذکرت بشکل صریح حدوث هذه الواقعة علی عهد المهدي (ظ: التنوخي، 2/116- 117؛ ابن خلکان، 1/224- 225؛ الیافعي، 2/51- 52). وفي هذه الحالة ینبغي القبول بأن المشاکل المتعلقة بعقیدة الشاعر بدأت قبل 181هـ بکثیر (أیضاً ظ: بحث زندقة الشاعر في بقیة المقالة). وبطبیعة الحال فإنه لیس واضحاً ما إذا کان هذا التعدد و التنوع في الروایات دالاً علی تکرار عملیة اعتقال الشاعر، أم ناجماً عن خلط روایة هذه الواقعة بحکایات مختلفة. ومهما یکن فإن کانت هذه الروایات – کما یستفاد من کثرتها – موثوقة، أو علی الأقل متضمنة بشکل ما لحقیقة تاریخیة، فینبغي القبول لامحالة بأن أبا العتاهیة کان حال استثنائیة بین شعراء البلاط، ذلک أنه مهما کانت دوافعه، فإن حُرم لفترة علی الأقل – رغبةً أو رهبة – من حیاة البلاط المترفة، ومن ثم مهّد لنفسه تحمل العقاب الذيأراده.

الصفحة 1 من3

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: