الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الادب العربی / أبو الأسود الدؤلي /

فهرس الموضوعات

أبو الأسود الدؤلي

أبو الأسود الدؤلي

تاریخ آخر التحدیث : 1442/12/19 ۲۳:۱۷:۰۴ تاریخ تألیف المقالة

وتجدر الإشارة هنا إلی أن مدینة البصرة لم تکن قاعدة مشجِّعة لمحبي أهل البیت (ع)، کماکان علیه الحال بالنسبة لمدینة الکوفة. وإن أي دعم للسلطة المرکزیة کان یترک أثره علی المصالح السیاسیة للقبائل المقیمة فیها (ظ: پلا، 194-195). إضافة إلی أن أبا الأسود قد أقحم في النزاعات الکلامیة بمدینة البصرة: فقد نسب البغدادي مثلاً (ص 316) لأبي الأسود رسالة في ذم القدریة – الاسم الذي کان یطلق علی المعتزلة الأوائل للطعن بهم – بینما اعتبر المعتزلةُ أنفسُهم أبا الأسود في طبقات المعتزلة في عداد القائلین بالعدل والتوحید الذي کان معتقدهم (ظ: القاضي عبدالجبار،31؛ ابن المرتضی، 16). ومن الواضح أن النسبتین ترجعان إلی ظهور القدریة ومن ثم المعتزلة في مدینة البصرة، الذي ألقت روح العقلانیة وأسلوب تقسیم المعارف والتنسیق والنظر في الاستنتاجات العقلیة والکلامیة بظلالها علیه (ظ: پلا، 195).

 

المصادر

في نهایة المقالة.

علي بهرامیان

 

نحو أبي الأسود

امتزج اسم أبي الأسود بتاریخ ظهور النحو العربي بحیث یمکن القول إنه مدین بشهرته الواسعة لممارسته النحو أکثر من أن یکون مدیناً لأیة منقبة أخری. وقد ملأت الروایات الخاصة بهذا لاشأن آلاف الصفحات من المصادر، کما کتب المعاصرون مقالات عدیدة في تأییدها أو دحضها یؤدي تکرار المعلومات فیها إلی سأم أي قارئ. ومع کل هذا، فإن تلک الروایات لم تبحث حتی الآن بالشکل اللائق ولم یُستَفد منها. و من المناسب ولأجل تحدید أُطر البحث أن نوضح الأمر:

في منتصف القرن 2 هـ، ألف سیبویه کتاباً یحتوي علی جمیع قواعد النحو العربي تقریباً. وکان ظهور الکتاب المعقد جداً و الشامل في بدایة ظهور الثقافة الإسلامیة، مفاجئاً ومثیراً للدهشة. ولذا طرق العلماء المعاصرون کل الأبواب بحثاً عن أسسه واتجهوا أکثر ما اتجهوا إلی تأثیر العوامل الأجنبیة من هندیة وإیرانیة و سریانیة و یونانیة، لکنهم لم یصلوا حتی الآن في هذا البحث إلی نتیجة واضحة وحاسمة.ومن جهة أخری آراد العلماء القدماء الذین لم یکونوا مهتمین بالعوامل الأجنبیة في هذا المضمار أن یعثروا علی جذور هذا العلم الجدید في أعماق التاریخ العربي، ولهذا وجدوا سلسلة من علماء النحو تنتهي إلی أبي الأسود، لکنها تتجاوز في بعض الروایات أبا الأسود لتصل إلی الإمام علي (ع). وفي روایة أخری، لاتنتهي بأبي الأسود لتصل إلیالإمام علي (ع). وفي روایة أخری، لاتنتهي بأبي الأسود، بل بنصر بن عاصم وعبدالرحمان بن هرمز و أحیناناً بیحیی بن یعمر. ولم یبق من هؤلاء النحوینی أي أثر، وقد نسب إلی أحدهم کتاب أو اثنان لانعرف شیئاً عن مضمونه أو مضمونیهما. ویسأل النحویون أنفسهم الآن کیف یمکن لهذه الخمیرة الصغیرة أن تتحول بأیدي هؤلاء النحاة المجهولین الاثنین أو الثلاثة في الفاصل الزمني القصیر الذي یقرب من 80 سنة بین أبي الأسود و سیبویه، إلی هذه الدرجة من السعة والنضج بحیث انتجت الکتاب؟ وکیف یمکن لهذا المقدار الضئیل الذي نسب لأبي الأسود أن یُکتشف فجأة بواسطة أبي الأسود خلافاً لقانون ظهور العلوم و تطورها؟ ثم إن نسبة هذا العلم لأمیر المؤمنین علي (ع) عن طریق أبي الأسود لیس بالأمر الهین، لأن الأنبیاء و الأئمة عارفون بطبیعة الحال و بالقدرة الإلهیة بهذه العلوم، إلا أنه لیس من شأنهم أن یخترعوا علماً ویسلموه للأجیال التالیة. وهذا القول ربما ینطبق بشکل أکبر علی الإمام علي (ع) الذي عاش في ظروف سیاسیة خاصة.

وعلی هذا فإن هذا المحذور یبقی قائماً و هو أن ینسب محبو ذلک الإنسان العظیم و انطلاقاً من إخلاصهم وإیمانهم الراسخ، إلیه أموراً لیس لها حقیقة تاریخیة. وفضلاً عن هذا فإننا نعرف تقالید العرب الذین ینسبون بکل إصرار کل علم أو ظاهرة ثقافیة وفنیة لشخصٍ ما و یعتبرونه هو المؤسس. وانطلاقاً من کون عبارة «أول من…» قد وردت آلاف المرات في کتب الأدب العربي: أول من استخدم الخط العربي، أو تکلم العربیة، أو نظم قصیدة…، فإن لدینا عن «الأوائل» عدة کتب تحت هذا العنوان تضم فهرساً بأسماء هؤلاء. ففي هذه الکتب ورد اسم أبي الأسود بوصفه أول من وضع الإعراب (مثلاً ظ: أبو هلال العسکري، 1/296-297). وعلی هذا فلیس من المستبعد أن تکون الرغبة في العثور علی أول واضع للنحو قد أدت إلی أن یتصدر أبو الأسود قائمة النحویین، ثم أوصلوا السلسة إلی الإمام علي (ع) إیماناً منهم بعلمه الواسع.

وقد نظر المستشرقون و منذ أواخر القرن 19 م إلی الروایات المتعلقة بأبي الأسود علی أنها أساطیر، ولذلک اعتبر النحو مرةً – کما زعم فریق من أمثال فولرس وبروکلمن – ولید تأثیر پانیني علی قواعد اللغة السنسکریتیة، وظنوه مرة کما تصوره البعض أمثال مرکس متأثراً بقواعد اللغة الیونانیة، أما موضوع إضافة التأثیر السریاني وأحیاناً الفارسي فقد أضیف فیما بعد إلی تلک النظریات التي لم یصل أي منها إلی درجة من الثبات تمکننا من اعتبار البحث منتهیاً. ویعتبر فلیش (I/27) الذي لایعتقد بأي من تلک الآراء، أن النحو هو من أکثر العلوم العربیة أصالة رغم أنه لاینفي تأثیر المنطق الأرسطي فیه. وهو بطبیعة الحال لایؤمن بالروایات الخاصة بأبي الأسود ویعتقد أن أول نحوي عربي کان عبدالله ابن إسحاق (تـ 117هـ). واعتماده في الواقع علی شارل پلا الذي یقول في هامش کتابه إنه لم یعد یؤمن بأسطورة أبي الأسود، إلا أنه لم تُدحض حتی الآن وبأسلوب علمي الروایات الخاصة بهذه الشخصیة، لهذا قرر مقارنة جمیع الروایات و سلاسل أسانیدها و إثبات عدم صحتها. إلا أن عمله هذا ذهب أدراج الریاح بعد تأکید إبراهیم مصطفی القاطع القائل بأن أول نحوي عربي کان في الأصل عبدالله بن إسحاق (پلا، 130). وقد اکتسب رأي إبراهیم مصطی (ص 278-279) الذي طُرح في المؤتمر الحادي والعشرین للمستشرقین، أهمیة بسبب کونه قد بحث في جمیع جوانب الکتاب عن مصادر علم سیبویه ولاحظ أن إمام النحویین العرب أشار في کتابه الضخم إلی عبدالله و حسب ولم یشر إلی أبي الأسود علی الإطلاق (بینما استشهد سیبویه بشعره عدة مرات، ظ: 1/142-169، 296).

وکان علماء عرب آخرون قبل إبراهیم مصطفی أیضاً قد شککوا في هذه الروایات، حیث یری زکي مبارک الرأي القائل بأن أبا الأسود کان أول من وضع علم النحو، أمراً مضحکاً، حیث یعتقد أن العرب کانوا حتی في العصر الجاهلي عارفین بعلم النحو، وعلی هذا الأساس اعتبر أولاً في 1931م في «النثر العربي» (ظ: پلا، ن. ص)، ومن ثم في 1934م في النثر الفني (1/63-64)، الروایات المتعلقة بأبي الأسود مختلقة. ومن بعده شکک أحمد أمین في تل الروایات مستنداً إلی أن زمن أبي الأسود لم یکن زمن قیاس و تقسیم للعلوم، واحتمل أن یکون بعض الشیعة قد نسبوها له أولاً ثم إلی الإمام علي (ع) (2/285)، إلا أنه یخلص إلی نتیجة مفادها مایلي: أولاً إنه یعتبر وضع علامات للقرآن بواسطة التنقیط کان حقاً من أعمال أبي الأسود، ثم یحاول إظهاره علی أنه أساس النحو والدافع الرئیس للنحویین (م.ن، 2/286).

ومع کل هذا فإن کافة الکتّاب العرب المعاصرین یعتبرون الروایات القدیمة بدیهیة ولاتقبل النقاش، ثم یقدمون أبا الأسود – دون الإشارة إلی صعوبات الأمر – بوصفه أول نحوي عربي، حیث لایکتفون بعدم التشکیک في نسبة الروایات إلی أبي الأسود و حتی الإمام علي (ع) فحسب، بل یحاولون إثباتها.

وعلی أیة حال، فإن أوسع عمل تم القیام به في هذا المضمار هو تألیف کتاب أبوالأسود الدؤلي لتحي عبدالفتاح الدجني الذي انبری في القسم الأول منه لدراسة کیفیة ظهور النحو والنظریات المختلفة، ثم أورد في القسم الثاني ترجمة حیاة أبي الأسود. و قد قمنا بدورنا بمناقشة جمیع المصادر القدیمة منذ البدایة و حتی القرن 19م واطلعنا علی سلاسل الأسانید، حیث تستخلص من کثرة تلک الروایات و تناقضها خاصة فیما یتعلق بشخصیات الرواة السنة والشیعة و من المؤیدین للعرب و المعادین لهم (الشعوبیة)، ملاحظات مثیرة للانتباه جداً یجب مناقشتها بدراسة تاریخیة شاملة للنحو. ونقدم فیما یلي عرضاً لتلک الروایات بالقدر المتعلق منها بأبي الأسود و بدایة ظهور النحو:

لدینا معرفة بعدة کتب من أواخر القرن 2هـ حیث ظهرت الروایات العربیة القدیمة بشکل مکتوب، مما کان ینبغي لها إما أن تتحدث عن نح أبي الأسود، أو أنها لو فعلت ذلک لما تعارض مع الأسلوب الطبیعي للکتاب. وأول تلک الکتب هو الکتاب لسیبویه (تـ 177هـ). فاستشهاد سیبویه بعدة أبیات لأبي الأسود والتزامه الصمت في باب روایاته النحویة یثیر الاضطراب و الشک لدی المحققین أکثر من أي شيء آخر. وبعد سیبویه ذکره کتّاب آخرون أمثال الکلبي (تـ 204هـ) ونصر بنمزاحم (تـ 212هـ) والدخفش (تـ 215هـ) و ابن هشام (تـ 218هـ) و ابن سعد (230هـ)، إلا أنه وإلی عصر ابن سلّام (تـ 231هـ) لم یشر أحد إلی نحه، یقول ابن سلام في طبقاته (1/12) وبعد إشاراته إلی کون البصریین هم الروّاد في النحو واللغة: «کان أول من أسس العربیة (النحو) وفتح بابها وأنهج سبیلها ووضع قیاسها، أبو الأسود الدؤلي»؛ لقد تکررت هذه العبارة بعد ذلک في المصادر مئات المرات. إلا أن ابن سلام یضیف مکملاً أن أبا الأسود دوّن أبواب الفاعل و المفعول به والمضاف والمضاف إلیه و حروف الجر و لانصب و الجزم والرفع. وهنا یُلاحظ أننا إذا أنعمنا النظر في الروایات المکتوبة، نجد أنه لم یرد منذ قرن و نصف تقریباً کلام عن علم أبي الأسود بالنحو.

ففي زمن ابن سلام أو بعده بقلیل یلفت انتباهنا صمت کتّاب مثل خلیفة بن خیاط و ابن حبیب و حتی أبي حاتم السجستاني (ص 147-148) الذین هم في عداد رواة أخبار أبي الأسود، إلا أن الجاحظ یشیر بعد ذلک بقلیل إلی أنه کان رأس النحویین (البرصان، 122) و رئیس الناس في النحو (ن.م، 279). ومع کل هذا فإن الجاحظ هذا لم یقل شیئاً عن علمه بالنحو في أي من کتبه الرئیسة رغم أنه ذکر لمرات عدیدة أشعاره أو روایات متعلقة به (ظ: الحیوان، 3/301، 3/50، البخلاء، 1/44، 2/89، 142، البیان، 1/104، مخـ).

وجاء العجلي (تـ 261هـ) بعد ذلک فوصفه بعبارة قصیرة بأنه أول واضع لعلم النحو (ص 238). ولاتتعدی إشارة ابن قتیبة بهذا الشأن روایة العجلي کثیراً. فهو مرةً (الشعر، 2/615) یقول إنه کان من النحاة لأنه ألّف کتاباً في النحو، ویقول مرة أخری (المعارف، 434) إنه أول من وضع العربیة. وروایته الأولی غریبة و فریدة لأن أحداً لم یدّع أنه ألف أیضاً کتاباً في النحو. وما یلفت النظر فیما ذکره ابن قتیبة أنه رغم کونه خصص لأبي الأسود ترجمتین (الشعر، المعارف، ن.صص) و نقل في عیون الأخبار جمیع روایاته و نوادره تقریباً و استشهد بشعره عدة مرات، لم ینقل شیئاً عن علمه بالنحو سوی هذه الروایة المختصرة.

وتظهر في کتاب الفاضل (ص 5) للمبرد حکایة شهیرة جداً وذات علاقة أیضاً بارتباط النحو بعلی (ع)، إلا أنها تخلو من أي إسناد، وهي: «إن ابنة أبي الأسود الدؤلي قالت: یا أبت ما أشدُّ الحرِّ! قال: والحَصباء بالرَّمضاء، قالت: إنما تعجبتُ من شدته، قال: أوَقَد لَحنَ الناس؟ فأخبر بذلک علیاً- رحمة الله علیه-فأعطاه أصولاً بنی منها، وعَمل بعده علیها».

وبشأن هذه الحکایة وردت روایتان أخریان تتمتعان بأهمیة خاصة في حیاة أبي الأسود و تاریخ النحو و خط القرآن الکریم: الأولی، إن أبا الأسود کان أول من نقط القرآن (أي وضع علامات الإعراب بنقاط ملونة)، والأخری، إن علم النحو وصل إلی سیبویه عن الطریق التالي: أبوالأسود  عنبسة (أعجمي من أهل میسان تـ ح 95هـ) میمون الأقرَن (للاطلاع علی ترجمته، ظ: یاقوت، 19/209) عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي (تـ 117هـ أو 127هـ) عیسی بن عمر (تـ 145 أو 149هـ) الخلیل بن أحمد (تـ 175هـ) سیبویه. ولم یکن عدد الروایات في النصف الأول من القرن 4 هـ لیتجاوز هذا المقدار القلیل. کما أن ابن عبد ربه رغم الروایات العدیدة التي نقلها حول أبي الأسود (یمکن مقارنة العقد الفرید مع عیون الأخبار لابن قتیبة في هذا المجال)، لم یذکر شیئاً عن نحوه. بینما اکتفی ابن أبي حاتم الرازي في کتابه الجرح والتعدیل (2(1)/503) بالعبارة القصیرة التالیة: و هو أول من تکلم في باب النحو.

أما محمد بن القاسم ابن الأنباري، فقد ناقش في الأضداد (ص 245-246) موضوع شیوع اللحنو حکایة ابنة أبي الأسود فحسب، من غیر أن یشیر إلی کون تلک الحکایة سبباً في ظهور النحو. وأورد البیهقي (ص 422-423) أولاً نص عبارة ابن سلام، ثم نسب إلی أبي الأسود الحکایة التي وقعت بین الحجاج و یحیی بن عمر (ظ: الزبیدي، 28)، وبذلک قلل من قیمة کلامه. ومنذ منتصف القرن 4هـ، وعلی إثر مقالات أبي الطیب اللغوي وأبي الفرج الأصفهاني و السیرافي انهالت فجأة علی کتب الأدب والطبقات أکداس الروایات المختلفة و امتناقضة جداً أحیاناً . وقد نسب فیها وضع النحو لعدة أشخاص نورد أسماءهم في الشکل التوضیحي التالي:

 

إن الدافع إلی تدوین النحو بواسطة أمیر المؤمنین (ع)، أو أبي الأسود، أو بأمر من زیاد و عبیدالله و عمر هو أمر واحد: اللحن أو الخطأ الإعرابي بواسطة الأجانب (الذین هم إیرانیون دائماً).

فقد کان المجيء المفاجئ لأعداد غفیرة من الإیرانیین إلی العراق والجزیرة العربیة و خاصة إلی مدینتي البصرة والکوفة وتزوج کثیر من أشراف و أمراء العرب فتیات إیرانیات، وولادة أشخاص کانت أمهاتهم إیرانیات تسنّموا فیما بعد مناصب عالیة (مثل عبیدالله الذي ولد من زواج زیاد و مرجانة)؛ و تولي کثیر من المناصب الإدرایة أو حتی‌الدینیة من قبل إیرانیین أسلموا حدیثاً أو «موالي»، مع عدة عوامل صغیرة أخری، کان یثیر قلق العرب الأقحاح و الفصحاء بشأن سلامة وانسجام اللغة العربیة. وکانت تظهر – خاصة في مدن العراق الحافلة بالضجیج والنشاط التي کانت تتحول تدریجیاً إلی مراکز أصیلة للثقافة العربیة والتي کانت في نفس الوقت مراکز للنشاطات التجاریة الواسعة – لغة خالیة من الإعراب، مبتعدة عن التراکیب العربیة الأصیلة، وممتزجة أیضاً بمجموعة ضخمة من الکلمات الإیرانیة. وإن محادثة التاجر الأهوازي مع الحجاج بتلک اللغة والتي رواها الجاحظ (البیان، 1/145) وابن قتیبة (عیون، 2/160) مثیرة للانتباه جداً (أیضاً ظ: فوک، 10).

وأدت هذه الأوضاع إلی أن یعتبر الجمیع سواء أکانوا کتّاباً قدماء أو معاصرین أو مستشرقین أو عرباً، الأجانبَ هم الدافع الأصلي وراء تدوین النحو. وجمیع الروایات المتعددة وامتناقضة أحیاناً التي نسقلت بهذا الصدد، تنتهي أخیراً وبشکلٍ ما إلی «عاصم». إلا أن هذا الموضوع کما سنری (خاصةً ظ: تتمة المقالة، موضوع إعراب القرآن) لایصدق دائماً، وإن وجود الأجانب – علی ماله من الأهمیة – ینبغي أن لایعتبر العامل الوحید، ذلک أن القبائل التي لم تکن تعیش ضمن حدود اللغة الوحیدة و الموحدة للعرب (العربیة الفصحی) وکان الذعراب قد ضعف لدیها أو انعدم، عندما کانت تختلط بعرب قلب الجزیرة إثر الفتوحات الإسلامیة، یحتمل أنه کان یظهر في کلامها آثار من لعاتها. وظواهر اللغات تلک کانت تُعدّ لحناً قیاساً إلی العربیة الفصحی ولیس لغة.

وعندما یعتبر الرسول الأکرم (ص) اللحن في کلامه أمراً مستحیلاً (أبوالطیب، 5-6) فإن ذلک یشکل دلیلاً علی ظهور أخطاء لغویة خلال حیاته (ص)؛ أو أن ظهور اللحن علی ألسن فصحاء أمثال الحجاج (ظ: فوک، 28-29) أو في شعر مشاهیر مثل الفرزدق (م.ن، 47) لایمکن أن یفسر إلا بالخصائص المعقدة جداً للبناء الإعرابي في اللغة العربیة.

وفي الروایات التي سنصنفها الآن، اختلط أمران مع بعضهما في الواقع، أحدهما ظهور النحو، والآخر تنقیط القرآن الکریم. ویبدو أن هذین الموضوعین لم یُفصلا عن بعضهما في روایاتنا علی الإطلاق. وسنبحث بعد الانتهاء من روایات النحو، تنقیط القرآن أیضاً:

 

ألف- الإمام علي (ع)

1. حسب معلوماتنا فإن أقدم أثر نسب ظهور النحو إلی الإمام (ع)، هو للمبرد. وهذه الروایة التي لاسند لها، في الأغاني (أبوالفرج، 12/297-298)، اکتسبت بعد ذلک سنداً طویلاً واتسعت: عندما هرع أبو الأسود إلی الإمام (ع) قال له: ذهبت لغة العرب لما خالطت العجم. فأمره الإمام (ع) فاشتری صُحُفاً ثم أملی علیه: الکلام کله لایخرج عن اسم و فعل و حرف. فدوّن أبوالأسود النحو علی أساس ذلک.

وفي روایة أبي الفرج هذه عدة نقاط جدیرة بالذکر: أولها سندها الذي بدأ بابن رستم الطبري و مروراً بالأخفش و سیبویه و الخلیل ثم وصل إلی أربعة نحاة لم تُنقل عنهم روایة من جهة، ومن جهة أخری لیس معلوماً تسلسلهم واحداً بعد الاخر زمنیاً (مثلاً ظ: السیرافي، 25)، أو أنهم کانوا في نفس الزمن وأخذوا جمیعاً عن أبي الأسود (مثلاً ظ: ابن الأنباري، عبدالرحمان، 6). وثانیها، یبدو أن أبا الفرج لم یکن علی ثقة تامة من مضمون روایه إذ یقول: «هذا حفظته عن أبي جعفر وأنا حدیث السن». وثالثها، أنه یقول: إن مانسب إلی الإمام علي (ع) هو أول جملة في الکتاب لسیبویه.

2. أورد أبوالطیب اللغوي في مراتب النحویین (ص 6، 8) روایة أخری تقوم علی سندین أحدهما ینتهي بأبي حاتم السجستاني، والآخر ینتهي بالجرمي ثم الخلیل. و موضوع الروایة کالآتي:

کان أول من وضع النحو أبا الأسود الذي أخذه عن الإمام علي (ع)، وسبب ذلک أن الإمام (ع) سمع من أحهم لحناً، ثم أمر أبا الأسود أن یضع للناس «حروفاً»، وأشار له حینها إلی الرفع والنصب والجر. وکان أبوالأسود إلی فترة یخفي ماکان قد تعلمه (وهنا تنتهي الروایة الأولی). ویکمل السندُ الثاني هذه الروایةَ علی الشکل التالي: لاحظ أبو الأسود وزیاد لحناً في کلام رجل، فقال زیاد لأبي الأسود لقد ذهبت اللغة. وعلی إثر ذلک الکلام، وضع أبو الأسود النحو.

الصفحة 1 من4

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: