الصفحة الرئیسیة / المقالات / أصول المحاکمات /

فهرس الموضوعات

أصول المحاکمات


المؤلف :
تاریخ آخر التحدیث : 1442/10/12 ۱۳:۴۲:۱۹ تاریخ تألیف المقالة

أُصولُ الْمُحاكَمات، مجموعة المقررات المتعلقة بالمؤسسة القضائية والصلاحيتين الذاتية والنسبية للمحاكم والإجراءات التي يجب أن تراعى من قبل أصحاب الدعوى عند مراجعة المحاكم، ومن جانب القضاة والموظفين التابعين للمؤسسات القضائية عند طرح الدعوى وحتى نهايتها وتنفيذ الحكم (مدني، 1 / 3؛ قا: متين دفتري، 1 / 1؛ شايگان، 11). وقد استخدمت في المصادر الفقهية مصطلحات آداب الحكّام (الطوسي، تهذيب، 6 / 225)، آداب القاضي (المفيد، المقنعة، 111؛ الحر العاملي، 18 / 155)، آداب القضاء (ابن بابويه، 3 / 6)، آداب القضاة (النسائي، 8 / 221)، أدب القاضي (السرخسي ، 59)، أدب القضاء (الغزالي، 2 / 237) وطرق الحكمية (ابن قيم الجوزية، «ح») في مفهوم قريب من أصول المحاكمات. يذكر بعض الباحثين أن مصطلح طرق الحكم في الكتب الفقهية «يعني على وجه الدقة أصول المحاكمات (المدنية والجزائية)» فيما يعني مصطلح طريق القاضي «على وجه الدقة ما يتعلق بأدلة إثبات الدعوى وجريانها في عملية نظر المحكمة في الدعوى» (جعفري، دائرة المعارف...، 2 / 872). 
وتقسم قوانين أصول المحاكمات حسب نوع مراجع النظر فيها وماهية الحق والدعوى المقامة إلى أصول المحاكمات المدنية، الجزائية، التجارية والإدارية (متين دفتري، 1 / 1) ويعد كل قسم من هذه القوانين مع الأخذ بنظر الاعتبار كونه من القواعد الآمرة (النظام العام)، أو المخيرة (القوانين المتضمنة لمصالح الأشخاص) (كاتوزيان، مقدمة ... ، 98-99)، جزءاً من القانون العام، أو الخاص؛  و على هذا الأساس، فإن القوانين المتعلقة بالمؤسسة القضائية وبالصلاحية المحلية للمحاكم وكذلك القوانين المشتملة على المبادئ الكلية للنظر في الدعوى وتنفيذ الأحكام هي من القانون العام، والقوانين المتعلقة  بالصلاحية المحلية للمحاكم وبعض العمليات التنفيذية هى من القانون الخاص (متين دفتري، 1 / 3، 4؛ مدنـي، 1 / 41-43؛ قا: كاتوزيـان، مقدمـة، 47-51، 59-60). 
و من جهة أخرى، فإن هنالك نقاشاً حول ما إذا كان لقوانين أصول المحاكمات مفعول رجعي (القوانين الشكلية)، أم لامفعول لها فيما قبلها (القوانين الماهوية)؛ و قد قيل في هذا المجال إن قوانين أصول المحاكمات بشكل عام والقوانين المتعلقة بالمؤسسة القضائية وصلاحية المحاكم بشكل أخص (في حالة عدم وجود تصريح في القانون) لها مفعول في الدعاوي المطروحة سابقاً، إلا أن قوانين أصول المحاكمات التي تتميز بطابع ماهوي وينال تنفيذها من الحقوق المكتسبة للأفراد ليس لها مفعول رجعي (متين دفتري 1 / 6-7؛ مدني، 1 / 42-43). 
ونحن لانلاحظ في مصادر الحقوق الإسلامية، اختلافاً بين القانون العام و القانون الخاص، وبين أصول المحاكمات والقوانين الماهوية؛ و قد جاء في الكتب الفقهية، باب القضاء ضمن سائر القواعد المدنية دون أي اختلاف (جعفري، تاريخ ...، 182؛ كاتوزيان، كليات...، 279-280). وكانت المحاكم الإسلامية تنظر في كل الدعاوي، سواء المدنية، أو الجزائية (جعفري ن.م، 183) والفرق الوحيد الذي كانت تضعه بين الدعاوي كان على أساس حق الله و حق الناس. 

مصادر أصول المحاكمات في الإسلام

تعد آيات القرآن الكريم أول قواعد أصول المحاكمات في الإسلام. فقد أقام القرآن، النظر في الدعاوي على مبدئي إحقاق الحق واجتناب هوى النفس: «ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحقّ و لاتتبع الهوى» (ص / 38 / 26)، وقال حول القضاء والحكم بين غير المسلمين: «... فإن جاءوك، فاحكم بينهم، أو أعرض عنهم... و إن حكمت، فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين» (المائدة / 5 / 42). 
وتمثل سنّة النبي (ص) المصدر الآخر للنظر في الدعاوي. فقد قال (ص) عند إرسال الإمام علي (ع) إلى اليمن «... إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حتى تسمع من الآخر» (ابن بابويه، 3 / 7؛ الترمذي، أحكام، 5 / 1331). كما سأل (ص) معاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن: «كيف تقضي إذا عرض لك القضاء ؟قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله (ص)، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله (ص) و لا في كتاب الله؟ قال: اجتهد رأيي و لاآلو، فضرب رسول الله (ص) صدره و قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» (أبو داود، القضاء، 7 / 3592؛ الترمذي، أحكام، 3 / 1327). كما أوصى النبي (ص) بتجنب القضاء عند الغضب عندما يضطر المسلم للقضاء والحكم بين المسلمين (ابن بابويه، 3 / 6؛ الشافعي، 3 / 214) و أن تراعى المساواة والعدالة في النظر والإشارة وإفساح المجال للمتخاصمين (ابن بابويه، 3 / 8؛ المتقي، 6 / 102). 
كما تصادفنا في كتب الحديث، الكثير من نماذج القضاء للنبي (ص) نفسه، حيث يعد كل منها بمثابة قاعدة من أصول المحاكمات: اقتراح الصلح والتساوم؛ الإقدام على الاقتراع على القضايا المعقدة (أبو داود، القضاء، 7 / 3584؛ ابن قيم الجوزية، 
339؛ قا: الحر العاملي، 18 / 187 وما بعدها)؛ تجنب تنفيذ الحدود في حالة وجود مفر؛ الاستفادة من تخصص الخبراء، التفتيش، شواهد الحال والأمارات القانونية (ابن قيم الجوزية، 10-12، 253). 
وفضلاً عن المصدرين المذكورين ( القرآن وسنة النبي (ص))، فقد اعتبركتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري (قاضي الكوفة، أو البصرة) وعهد الإمام علي (ع) إلى مالك الأشتر، من مصادر أصول المحاكمات الإسلامية (مدكور، 26، 27؛ ساكت، 72-73، 80). ورغم أن كتاب عمر مشكوك فيه (ظ: ساكت، 74- 78)، ولكن ولأن بعض كبار العلماء المسلمين أولوا أهمية كبيرة لهذا الكتاب، واعتبر أساساً لتدوين أصول المحاكمات (الماوردي، 91؛ ابن خلدون، 1 / 397- 398؛ مدكور، 27) فلذا نورد نص الكتاب: 
«أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لاينفع تكلم بحق لانفاذ له، و آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لايطمع شريف في حيفك ولاييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر؛ و الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحلّ حراماً، أو حرم حلالاً؛ و لايمنعك قضاء قضيته أمس، فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله تعالى و لاسنة نبيه، ثم اعرف الأمثال والأشباه؛ و قس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً، أو بينة أمداً ينتهي إليه، فمن أحضر بينة أخذت له بحقه، وإلا استحللت القضية عليه، فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء، أو نسب، فإن الله عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات. وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم، فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر، والسلام» (الماوردي، 91؛ قا: ابن عبدربه، 1 / 79-80؛ ابن بابويه، 3 / 8). ويطالعنا في هذا الكتاب وكتاب عمر الآخر (إلى معاوية) والذي يدور هو أيضاً حول أصول المحاكمات (ابن عبدربه، 1 / 78)، تأثير وصايا النبي (ص) بوضوح، حتى إن بعض بنود هذين الكتابين تكرار لنفس كلمات النبي (ص). 
وأما عهد الإمام علي (ع) إلى مالك الأشتر، فإنه وفضلاً عن تضمنه لبعض قواعد أصول المحاكمات، يشتمل أيضاً على ملاحظات بشأن اختيار القضاة، حيث إن هذه الملاحظة تتمتع بأهمية كبيرة من حيث تاريخ القضاء في الإسلام، ويبدو من هذه الوثيقة أن العمال المنصوبين من جانب الخليفة كانوا من وجهة نظر أمير المؤمنين علي (ع) على الأقل، مخولين في أن يعينوا القاضي ضمن نطاق إمارتهم و هو بطبيعة الحال تأييد للفصل بين السلطتين القضائية والتنفيذية على الأقل في الولايات الإسلامية. وفيما يلي ننقل قسماً من هذا العهد والذي يتعلق بأصول المحاكمات: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولاتمحِّكه الخصوم، ولايتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه؛ و لاتُشرف نفسه على طمع، و لايكتفي بأدنى فهم دون أقصاه؛ وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لايزدهيه إطراء، ولايستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس. وأعطه من المنزلة لديك ما لايطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك...» (نهج البلاغة، الكتاب 53). 
وبناء على ذلك، يجب البحث عن قواعد القضاء الإسلامي في القرآن الكريم، تفاسير القرآن المأثورة، كتاب القضاء، أو أدب القضاء وغيرها والمدرجة في مجاميع الحديث والمصادر الفقهية وكذلك الكتب التي تناولت هذا الموضوع بشكل مستقل بأسماء مثل أدب القاضي، أدب القضاء، طرق الحكم وغيرها. 

أصول المحاكمات في عهد النبي

يعد منصب القضاء جزءاً من الرئاسة العامة والخاصة للنبي (ص) وخلفائه الشرعيين (الطباطبائي، 2؛ قا: ابن خلدون، 1 / 397). وتدلّل آيات مثل: «فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً» (النساء / 4 / 65) و«فاحكم بينهم بما أنزل الله» (المائدة / 5 / 48) و«إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله» (النساء / 4 / 105)، على مشروعية اختصاص حق القضاء بالنبي.
و لم يكن يوجد في هذا العصر شيء يمكن أن نطلق عليه عنوان المؤسسة القضائية. فقد كان النبي (ص) الذي هو المظهر الكامل للسلطات الثلاث التشريعية، القضائية والتنفيذية، يبادر بنفسه إلى القضاء؛ كما أن المجتمع البسيط والمحدود للمدينة آنذاك لم يكن يقتضي غير ذلك. وهنالك أيضاً روايات تؤيد هذه الحقيقـة، فقد روى ابـن شهاب عـن سعيد بن المسيب أن أحـداً لم‌ يختر شخصاً باعتباره قاضياً، لارسول الله (ص) ولا أبا بكر ولاعمر سوى أن عمر قال في أواسط خلافته ليزيد ابن أخت النمر: قم ببعض الأمور، أي صغار الأمور بدلاً عني (المتقي، 5 / 814). كما كتب ابن خلدون: لم يوكل القضاء إلى الأشخاص الآخرين، إلا اعتباراً من عهد الخليفة الثاني على أثر تزاحم الأعمال (1 / 423). 
إلا أننا نصادف مقابل هذه الطائفة من الروايات، روايات أخرى اختار فيها النبي (ص) أشخاصاً باعتبارهم قضاة؛ فقد نقل الشيخ الطوسي في رواية عن الإمام علي (ع): «بعثني رسول الله إلى اليمن قاضياً» ( المبسوط، 8 / 82؛ قا: ابن بابويه، 3 / 7؛ الترمذي، أحكام، 5 / 1231). كما أن النبي (ص) يبعث في بعض الحالات أشخاصاً في مهمات قضائية خاصة وموقتة، مثل إرسال حذيفة بن اليمان لتفقد الموضع وتقديم تقرير حول صحة الدعوى المقامة، أو سقمها (ابن عبد البر، 1 / 228). وعلى فرض صحة الروايات الأخيرة، يمكن أن نحتمل أن القضاء في المدينة كان في عهدة النبي نفسه؛ و جزءاً من مسؤوليات الممثلين الخاصين، أو الوالي المنصوب من قبل النبي (ص) في المناطق الأخرى مثل اليمن، وكانوا يقومون أيضاً بالقضاء إلى جانب مسؤوليات أخرى مثل التعليم والتبليغ، أو الإمارة وجباية الجزية والخراج. ومما يؤيد هذا الادعاء، إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن و إمارة عتّاب بن أسيد على مكة (مدكور، 23، 24؛ قا: السرخسي، 16 / 67). 
وفضلاً عن ذلك، فقد وصلتنا روايات تدل على تفكيك بعض الوظائف الحكومية في عهد النبي (ص): «واستعمل رسول الله (ص) على مكة عتّاب بن أسيد وخلف معاذ بن جبل و أبا موسى الأشعري يعلِّمان الناس القرآن والفقه في الدين» (الواقدي، 3 / 889، 959). و قد ذكر الواقدي نفسه: «وأقام للناس الحج عتّاب بن أسيد تلك السنة ــ و هي السنة الثامنة ــ بغير تأمير من رسول الله (ص) على الحج... ويقال إن رسول الله (ص) استعمله على الحج» (3 / 959-960). و من شأن هذه الروايات أن تعزز من احتمال أن النبي قد يكون ولى من جانبه أشخاصاً للقضاء في الولايات. و مع ذلك، فإن بعض الباحثين يرون أن منصب القضاء في عهد النبي لم يكن منفصلاً عن الوظائف الأخرى بأي حال من الأحوال و أن النبي لم يعين و لم يبعث أي شخص للقضاء بشكل مستقل (ساكت، 66؛ قا: السرخسي، ن.ص). 
ويؤيد مدكور الرأي الأخير استناداً إلى رواية عن علي (ع) تفيد بأن النبي بعث علياً الذي كان شاباً إلى اليمن كي يحكم بين أهلها... و قد روي أن دعوى عرضت عليه، فقال: سأقضي بينكم، فإن رضيتم، فهو القضاء، وإلا منعتكم عن بعضكم البعض، حتى تفدوا على النبي، و هو يحكم بينكم. وعندما انتهى من قضائه لم يرضوا بحكمه، فجاؤوا إلى النبي في موسم الحج... فأيد النبي حكم علي وقال: هو ما حكم به. 
ويشير مدكور من خلال هذه الرواية إلى خصوصيتين من أصول المحاكمات في عهد النبي (ص) قائلاً: الأولى أن القضاء والحكم كانا كلاهما بيد شخص واحد، وبعبارة أخرى، فإن السلطة التنفيذية لم تكن منفصلة عن السلطة القضائية؛ والأخرى أن الاعتراض على حكم القاضي كان شيئاً معروفاً ومتداولاً و لم يكن الرجوع إلى النبي (ص)، بعد رفض حكم القاضي، من حيث إن النبي (ص) كان يتولى المنصب التشريعي والتنفيذي، بل باعتبار منصبه في القضاء و هو ما يسمى اليوم في عصرنا مرحلة الاستئناف (ص، 22-23). 
وأما طرق إثبات الحق في هذا العهد، فقد كانت عبارة عن: الإقرار، البينة، اليمين، القسامة، الفراسة، القرعة وغير ذلك، فقد روي عن النبي (ص) أنه قال: «أمرت أن أحكم بالظاهر و الله يتولى السرائر» (الشافعي، 215-216؛ مدكور، 22). 
و قد قال بعض الباحثين استناداً إلى روايات وردت حول اعتقال المتهمين والمجرمين بأمر النبي، إن السجن كان موجوداً في عهد النبي أيضاً (ساكت، 66، نقلاً عن ابن الطلاع القرطبي)، إلا أن البعض الآخر يـرى أن «الحبس» في عهد النبي لم يكن يتجاوز أن يجبر المتهم على البقاء في مسجد، أو بيت، ثم يقوم طرف الدعوى، أو نائبه بمراقبته كي لايكون بمقدوره الاتصال بالناس (مدكور، 29، ها 2). 

عهد الخلفاء الراشدين

كان التغيير الوحيد الذي حدث في عهد أبي بكر في المؤسسة القضائية بالنسبة إلى العهد الذي سبقه، تعيين القاضي للمدينة، و قد ذُكر أن أحداً لم يكن يرجع إلى عمر خلال السنتين اللتين تولى فيهما هذا المنصب، إلا نادراً، ذلك لأن تقوى الناس وعفوهم عن بعضهم البعض كان من جهة يحولان دون حدوث الاختلافات بينهم، وكانوا من جهة أخرى يخشون من تشدد عمر. والملاحظة المهمة أن عمر لم يعرف كقاض من قبل الناس خلال هاتين السنتين (حسن، 331). 
و قد أدى اتساع نطاق الفتوح الإسلامية في عهد عمر وازدياد مسؤوليات الحكومة إلى أن ينفصل القضاء بشكل رسمي عن الحكومة والإمارة و أن يولى قاض على كل مدينة. ويذكر الطبري في نهاية وقائع كل سنة وبعد ذكر أسماء عمال عمر في المدن والمناطق المهمة مثل مكة، اليمن، اليمامة، البحرين، الشام، الكوفة والبصرة، قضاة بعض هذه المدن أيضاً، فقد كتب على سبيل المثال في ختام سنة 18ه‍ / 639م قائلاً: «كان عامل الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقّاص وعلى قضائها أبو قرة» وذكر في نهاية أحداث سنة 21ه‍ قائلاً: «وأما الكوفة، فإن عامله عليها كان عمّار ابن ياسر وكان إليه الأحداث، وإلى عبد الله بن مسعود بيت المال وإلى عثمان بن حُنيف الخراج وإلى شريح ــ فيما قيل ــ القضاء» كما ولي أبو الدرداء على قضاء المدينة كي يعين الخليفة في هذا الأمر (ابن خلدون، 1 / 397). ونحن نصادف فضلاً عن هذه الأخبار، روايات تنفي أساساً تعيين القاضي من جانب أبي بكر و عمر (الطبري، حوادث سنة 23ه‍(. و من المحتمل أن وجود روايات من هذا القبيل كان قد أقنع بعض الباحثين الغربيين بأن فصل القضاء عن الحكومة حدث في العهود الأكثر تأخراً، أي في العصر العباسي (شاخت، 191؛ متز، 1 / 397)، علماً أن هذا الرأي ليس صحيحاً وسوف نجيب عليه في موضعه (ظ: هذه المقالة، العصر العباسي). 
وبما أن القضاء كان جزءاً من الولاية العامة (الماوردي، 24)، فقد كان بإمكان المتولي الحقيقي لهذا المنصب أن يفوض النظر في قسم من الدعاوي إلى شخص آخر فقط، ولذلك فقد كان عمر يقتصر على إيكال القضاء في الأمور المالية (الحقوقية) عندما كان يولي بعض الأشخاص على القضاء، ولذلك فقد ظلت الأمور الجزائية، أي ما كان على علاقة بالقصاص، أو الحدود، في نطاق صلاحية الخليفة وولاة المدن (مدكور، 26). 
وكانت طرق إثبات الحق في هذا العصر، الكتاب وسنة رسول الله والأساليب التي كان المسلمون قد تعلموها من النبي. وكان عمر وعثمان يعمدون بالإضافة إلى ذلك في القضاء و حل القضايا المشكلة إلى استشارة الصحابة وخاصة علي (ع) (المفيد، الإرشاد، 110، 113؛ ابن قيم الجوزية، 64-65؛ مدكور، 28). و قد أصبحت الاستشارة في القضاء والتي ظهرت اعتباراً من هذا العهد، سنة متبعة للقضاء في العهود اللاحقة (مدكور، 30). 
و في هذا العصر كان القضاة يفتقرون إلى الموضع الخاص للنظر في الدعاوي، كما كانوا يفتقرون إلى الكاتب والدفتر (السجل) لتسجيل الأحكام، ذلك لأنهم كانوا هم أنفسهم يبادرون إلى تنفيذها على إثر صدور هذه الأحكام. وكان القاضي مسموحاً بأن يزاول القضاء أينما أراد. وكان البعض ينظرون في الدعاوي في منازلهم والبعض الآخر في المساجد. و قد أوصى علي (ع) شريحاً بأن يتجنب القضاء في البيت، ذلك لأنه يؤدي إلى وهن القاضي ويوصي بأن القضاء في المسجد أكثر عدلاً (السرخسي، 16 / 82؛ صاحب الجواهر، 40 / 81). 

العصر الأموي

كانت الظاهرة الجديدة التي تطالعنا في المؤسسة القضائية للأمويين، هي تعيين قضاة المدن على يد عمال الخليفة في حواضر الولايات، وعلى سبيل المثال، فإن الحجاج بن يوسف (تـ 95ه‍ / 714م) ولى شخصاً آخر بدلاً من شريح بعد استقالة الأخير، ولكن يبدو أن ذلك لم يكن قاعدة عامة، ذلك لأن بعض الخلفاء الأمويين مثل عمر بن عبد العزيز وهشام عيّنوا هم أنفسهم قاضياً لمصر (مدكور، 29-30). 
وكان القضاة مجتهدين غالباً و لم يكونوا يلتزمون برأي معين، فإذا ما لم يجدوا نصاً صريحاً (في الكتاب والسنة)، أو إجماعاً، فقد كانوا يحكمون برأيهم واجتهادهم، فإن واجهوا إشكالاً كانوا يستعينون بالفقهاء الحاضرين في المدينة، أو يرجعون إلى الخليفة والوالي. و مع ذلك، فقد كان القضاة يتمتعون بالاستقلال القضائي وكانت أحكامهم نافذة حتى على الولاة (ن.ص؛ ساكت، 89-91). 
و قد قُدم في هذا العصر نموذج من تسجيل الأحكام: فقد بادر سليم بن عتر الذي كان قاضي مصر قبل معاوية حتى سنة 60ه‍ / 680م، إلى إصدار الحكم وتسجيله بعد أن أنكر الخصوم، الحكم الصادر من جانبه؛ وذلك بأن كتب الحكم بنفسه و وقع عليه بعض الأشخاص كشهود (الكندي، 310). وكانت جلسة القضاء تقام في هذا العهد غالباً وكالسابق في المسجد (للمسلمين)، أو عند عتبة المسجد (لأهل الكتاب) (م.ن، 351). 

العصر العباسي

هنالك الكثير من مصادر الدراسة حول أصول المحاكمات في العصر العباسي. وفضلاً عن مجاميع الحديث، فقد وصلتنا الكتب الفقهية والمصادر التاريخية والأدبية وغيرها، وأكثر من 40 كتاباً باسم أدب القاضي، أو أدب القضاء، تم تدوينها على أساس مذاهب أهل السنة الأربعة (الحنفي، الشافعي، المالكي والحنبلي) (الزحيلي، 672-679)، وتكمن أهمية هذه الطائفة من المصادر في أن يقرب في ثلاثة أرباعها تم تأليفه في العصر العباسي (خلال سنوات 132-656ه‍ / 750- 1258م). 
و قد أدى اتساع رقعة الحكم، تنوع الأمم والشعوب المحكومة وتعددها، ازدهار الثقافة والحضارة، بلوغ النشاطات العلمية، الاقتصادية والاجتماعية لذروتها، ظهور الفرق والمدارس الفقهية، الكلامية والفلسفية والعوامل السياسية والمذهبية الأخرى، إلى اتساع المؤسسات السياسية ـ الإدارية، العسكرية و من بينها المؤسسة القضائية في العصر العباسي. وكان أوضح ظاهرة، أو تغيير قضائي في هذا العصر بالنسبة إلى العصور السابقة هو اختلاف أحكام القضاة على أساس المذهب الفقهي للمتخاصمين: فقد كان القضاة في العراق يصدرون الأحكام على أساس مذهب أبي حنيفة، في الشام والمغرب على أساس المذهب المالكي، وفي مصر على أساس المذهب الشافعي؛ وكلما كان طرفا الادعاء على مذهب غير المذهب الشائع في المدينة، فقد كان قاضي المدينة يكلف قاضياً آخر كان على مذهب الخصمين، النيابة عنه كي يقضي بينهم (مدكور، 30؛ ساكت، 104). والظاهرة الأخرى التي تطالعنــا في العصـر العباسي مرة أخـرى في الجهـاز القضائـي ولم تكن عديمة السابقة بالنظر إلى ما قيل فيما سبق (العصر الأموي)، تعيين قضاة الولايات من قبل الخليفة. و مع ذلك، فقد ذكر بعض الباحثين هذه الظاهرة باعتبارها «تطوراً كبيراً» (ساكت، 93). وذكر متز في هذا المجال: كان من جملة تأثيرات القضاة على كيفية إدارة شؤون البلاد في العصر العباسي أن القاضي خرج من تحت سلطة الوالي وكان تعيينه يتم من جانب الخليفة مباشرة، أو كان متوقفاً على تأييده ومصادقته على الأقل (1 / 397)؛ ويضيف أن المنصور أول خليفة ولى من جانبه القضاة على المدن (ن.ص). ومستند متز في هذا المجال هو تاريخ اليعقوبي، واعتبر استناداً إلى هذا القول (ن.ص، الهامش)، تعيين القضاة من جانب خلفاء الإسلام الأوائل «حكايات موضوعة»، بل إن تعليمات عمر إلى القضاة منتحلـة هي أيضـاً. وإذا كان مستند متـز، تاريـخ اليعقوبـي فقط ــ والظاهر أنه كذلك ــ فيبدو أنه وقع في خبط ناجم عن عدم الدقة، ذلك لأنه رأى هذه الجملة من اليعقوبي وأخذ بها: «وكان المنصور أول من ولّى القضاة الأمصار من قِبله» (2 / 389)، ولكنه ترك تكملتها، أي هذه الجملة «وكان يولّيهم أصحاب المَعاوِن» (ن.ص). و لايبدو من هذا المستند بأي حال أن القضاة لم يكونوا يُرسلون قبل المنصور إلى المدن (الأمصار) من جانب جهاز الخلافة، بل إنه يصرح على العكس من ذلك بأن «أصحاب المعاون» كانوا هم الذين يعينون هؤلاء القضاة. وعلى أي حال، فقد كان بعض القضاة يعينون بشكل مباشر أحياناً وغير مباشر أحياناً أخرى على المدن (الأمصار)، سواء استناداً إلى المصادر الأخرى التي سبقت الإشارة إليها، أم كلام اليعقوبي ذلك، وذلك في عهد الخلفاء الراشدين والعصر الأموي و في هذه الحالة لايبدو صدور تعليمات لهم غير معقول. 

الصفحة 1 من2

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: