الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الموسیقی / إسحاق الموصلي /

فهرس الموضوعات

إسحاق الموصلي

إسحاق الموصلي

تاریخ آخر التحدیث : 1442/9/14 ۱۵:۴۷:۴۵ تاریخ تألیف المقالة

و قد كان‌ يحضر مجلس‌ الرشيد مع‌ أبيه‌ أحياناً، رغم‌ أنه‌ كان‌ مايزال‌ في مطلع‌ الشباب‌ (م‌.ن‌، 15/32-34، 18/300) و مع‌ ذلك فقد حصل‌ على‌ مكانة رفيعة؛ و في المجلس‌ الذي حدثت‌ فيه‌ مشادات‌ بينه‌ و بين‌ أخي الخليفة إبراهيم‌ بن‌ المهدي، دافع‌ الرشيد بصدق‌ عن‌ مغنيه‌ (م‌.ن‌، 5/296-299). و كانت‌ الجوائز التي كان‌ يحصل‌ عليها من‌ الخليفة، تحزن‌ الأصمعي نفسه‌ (م‌.ن‌، 5/322-323؛ قا: المرزباني، نور، 317- 318؛ ياقوت‌، ن‌.م‌، 6/17- 19). ومن‌ جهة أخرى‌، فقد كان‌ على‌ مايبدو يصاحب‌ الخليفة في أكثر أسفاره‌: في طوس‌ (أبوالفرج‌، 5/421)، و تل‌ عزاز (م‌.ن‌، 5/419)، و الرقة (م‌.ن‌، 5/373، 418-419، 18/304)، بل‌ و حتى‌ في السفر للحج‌ (المبرد، 2/ 808؛ ابن‌ عبدربه‌، 6/ 49). و كان‌ هو بدوره‌ يعرف‌ قدر عنايات‌ الخليفة، و يكن‌ له‌ الولاء بإخلاص‌، حتى‌ إنه‌ لم‌‌يغن‌ للفضل‌ البرمكي، رغم‌ إصراره‌، و إعطائه‌ الصلات‌ الضخمة له‌ (أبوالفرج‌، 5/392)، في حين‌ أنه‌ كان‌ يكن‌ الاحترام‌ الكبير للبرامكة. و تربو مجالسه‌ مع‌ الرشيد 20 مجلساً.

و أما علاقاته‌ مع‌ الأمين‌ فقليلة نسبياً. و من‌ مجموع‌ 3، أو 4 مجالس‌ نقلت‌ في هذا المجال‌، هناك مجلسان‌ ذكر فيهما اعتذار ومصالحة (م‌.ن‌، 5/316-317، 405-406، 11/341؛ الخطيب‌، 6/341).

و قد نقل‌ فيما يتعلق‌ بحضوره‌ في بلاط المأمون‌ أكثر من‌ 18 مجلساً، تشير في الغالب‌ إلى‌ قدراته‌ الفنية. و قد كان‌ المأمون‌ في بداية حكمه‌ معرضاً عنه‌ لما يقرب‌ من‌ 20 شهراً (ابن‌ عبدربه‌، 6/32-33)، ثم‌ مالبث‌ أن‌ حظي بالعزة و الحرمة لأنه‌ دخل‌ البلاط بإصرار من‌ علّويه (أبوالفرج‌، 5/383؛ أيضاً ظ: التنوخي، 1/402-403). خاصة و إنه‌ كان‌ قد بلغ‌ الذروة في علمه‌ و فنه‌ في الموسيقى‌، حتى‌ إنه‌ استطاع‌ أن‌ يستخرج‌ من‌ بين‌ الألحان‌ التي كانت‌ تعزفها 20 جارية عازفة على‌ العود، العود الذي لم‌‌يكن‌ أحد أوتاره‌ متناغماً مع‌ البقية (أبوالفرج‌، 5/284-285؛ الخطيب‌، 6/343- 344). و قد كان‌ المأمون‌ يعرف‌ مكانته‌ العلمية و عفته و إيمانه‌، فكـان‌ يقول‌: لو لم‌‌يكن‌ مغنيـاً لجعلته‌ قاضـي البلاط (أبوالفـرج‌، 5/ 268-269، 272-273). و كان‌ يدخل‌ البلاط بإذن‌ المأمون‌ مع‌ طبقات‌ الوجهاء المختلفة، لاالمغنين‌ فحسب‌. و قد كان‌ دخوله‌ في صف‌ الفقهاء جنباً إلى‌ جنب‌ مع‌ القاضي الكبير يحيى‌ بن‌ أكثم‌ يثير دهشة أهل‌ البلاط كلهم‌. و مع‌ كل‌ ذلك، فإن المأمون‌ لم‌‌يأذن‌ له‌ أبداً بأن يرتدي سواد العباسيين‌، و يحضر الجمعة و الصلاة معه‌ (م‌.ن‌، 5/286، 390).

كان‌ إسحاق‌ على‌ علاقة مع‌ المعتصم‌ الذي تولى‌ الخلافة في 218ه‍، منذ ولاية عهده‌، و كان‌ أحياناً يقضي الليل‌ في منزله‌ (م‌.ن‌، 5/305).

و قد روي 14 مجلساً من‌ مجالسه‌ مع‌ المعتصم‌: مرة في سامراء (م‌.ن‌، 5/ 398-399)، و مرة في الزورق‌ إلى‌ جانب‌ الخليفة (م‌.ن‌، 10/171). و أما بقية المجالس‌ فهي أساساً كانت‌ مجلس‌ إنشاد شعر و غناء. و في أحد المجالس‌ نرى‌ هذا النديم‌ الماهر وقد ارتكب‌ خطأ، فأنشد شعراً في الأطلال‌ ليمدح‌ الخليفة التي كان‌ قد بنى‌ قصراً جديداً، فأدخل‌ بذلك الغم‌ على‌ قلب‌ الخليفة (المرزباني، الموشح‌، 272). و أما علاقات‌ إسحاق‌ الودية مع‌ خليفته‌ الواثق‌، فقد بدأت‌ منذ ولاية عهده‌، ذلك لأن‌ الواثق‌ الذي كان‌ هو نفسه‌ موسيقياً و ملحناً و مغنياً ماهراً، كان‌ طبعاً بحاجة إلى‌ مثل‌ هذا الفنان‌ العالم‌. و عندما ولاه‌ المعتصم‌ سامراء متوجهاً إلى‌ عمورية، شكل‌ جمعية من‌ المغنين‌، و عندما امتنع‌ إسحاق‌ عن‌ الغناء، أجبروه‌ ضرباً بالعصا على‌ أن‌ يغني اليوم‌ كله‌ (أبوالفرج‌، 9/ 298).

و تبلغ‌ الروايات‌ التي وصفت‌ مشاهد و أحداث‌ غناء إسحاق‌ في مجالس‌ الواثق‌، 30 رواية. و نحن‌ نرى‌ في الكثير من‌ هذه‌ المجالس‌ أن‌ الواثق‌ يعرض‌ ألحانه‌ على‌ أستاذه‌ كي يصلحها (م‌.ن‌، 5/ 358، 365، 399، 9/281-282). حتى‌ إنه‌ نفي ذات‌ مرة إلى‌ بغداد، عندما انتقد ألحانه‌ (م‌.ن‌، 5/360-361). و مع‌ كل‌ ذلك، فإن‌ أحداً لم‌‌يكن‌ قد وصل‌ إلى‌ رفعة مكانته في بلاط الواثق‌. ففي ذات‌ مرة تعجب‌ المغنون‌ لغيبته‌ و لكنهم‌ رأوه‌ في الصباح‌ و هو يخرج‌ مع‌ قاضي القضاة أحمد بن‌ أبي دؤاد. فما كان‌ من‌ علويه‌ إلا أن‌ بكى على «بخته» لمرافقة «خيناكر» لمثل‌ هذا الرجل‌ (م‌.ن‌، 5/295-296)؛ و قد كان‌ الواثق‌ قد أنس‌ إليه‌ إلى‌ درجة بحيث‌ إنه‌ كان‌ يدعوه‌ بالكنية خلافاً لعادة البلاط (م‌.ن‌، 5/286-287)؛ و في كل‌ مرة كان‌ إسحاق‌ يعزف‌ فيها الموسيقى‌، كان‌ الخليفة يظن‌ أن‌ «مُلْكه‌ قد ازداد» (م‌.ن‌، 5/285)، فإسحاق‌ هو نعمة لم‌‌تمنح‌ لأي ملك (م‌.ن‌، 5/286). و كان إسحاق يحضر بوصفه شيخاً جليلاً، ولم‌يكن معه‌ عود، فلقد كانوا يحضرون‌ إليه‌ عوداً مخصوصاً كلما أراد العزف‌ (م‌.ن‌، 9/286). وكان‌ هذا الفنان‌ يكن‌ بدوره‌ الحب‌ الصادق‌ للخليفة الذي كان‌ يغدق‌ عليه‌ أعظم‌ الصلات‌ (م‌.ن‌، 9/276-277). حتى‌ وصلتنا قطعة من‌ 3 أبيات‌ يعبر فيها عن‌ اشتياقه‌ للواثق‌ (م‌.ن‌، 5/371-372، 9/284؛ ياقوت‌، الأدباء، 6/ 28).

و بالإضافة إلى‌ ذلك، فقد كان‌ إسحاق‌ يمدح‌ الواثق‌ أيضاً (مثلاً أبوالفرج‌، 5/285، 371-372، 9/283-284، مخ‍ (. و قد كانت‌ مقطوعاته‌ القصيرة أثناء الأسفار العديدة مؤثرة: في ميادين ‌الصيد (م‌.ن‌، 5/394-396؛ الحصري، 1/510؛ ابن‌ عبدالبر، 1(1)/222)، في الصالحية (أبوالفرج‌، 5/355-356)، و النجف‌ (م‌.ن‌، 5/356-357، 9/284-285)، و الحيرة (م‌.ن‌، 5/427-428)، و سامراء (م‌.ن‌، 5/283-284، 357، 406-407؛ قا: أبوعبيد، 1/ 209-210؛ ياقوت‌، ن‌.م‌، 6/31-32).

و في عهد المتوكل‌ (حك‍ 232-247ه‍(، كان‌ إسحاق‌ قد بلغ‌ الشيخوخة، فاعتراه‌ العجز، بل‌ و فقد بصره‌ (أبوالفرج‌، 5/415) ولذلك لانراه‌ في مجالس‌ البلاط إلا قليلاً.

و قد تستحق‌ علاقاته‌ بوجهاء العصر، الملاحظة و الدراسة إلى‌ حد كبير. ولاشك في أن‌ إبراهيم‌ ابن‌ الخليفة المهدي كان‌ أكبر شخصية بينهم‌، حيث‌ كان‌ ماهراً في الموسيقى‌، و كان‌ يرى‌ نفسه‌ نظيراً لإسحاق‌ في هذا المجال‌. و من‌ بين‌ حوالي 15 مجلساً وصفت‌ في الأغاني، و كان‌ كل‌ من‌ إسحاق‌ و إبراهيم‌ حاضرين‌ فيها، لانجد مجلساً، إلا و انتهى‌ بالنزاع‌ بينهما. و بالطبع‌ فإن‌ التنافس‌ بينهما كان‌ على‌ مقدرتهما وعلمهما في الموسيقى‌ (ظ: قسم‌ الموسيقى‌ في هذه‌ المقالة)، فعندما كان‌ إسحاق‌ ينظر بعين‌ الاستحقار إلى‌ ألحان‌ إبراهيم‌، تثور ثائرة الأخير، و يتجاوز أحياناً بالنزاع‌ الحد الطبيعي (لهذه‌ المجالس‌، ظ: أبوالفرج‌، 5/283-410، أيضاً 10/110)؛ و مع‌ كل‌ ذلك، فقد كانت‌ الصداقة بينهما متينة في الخلوات‌ (مثلاً ظ: م‌.ن‌، 5/ 319-320، 353).

و فضلاً عن‌ ذلك، فقد كان‌ يمدح‌ البرامكة أيضاً كثيراً (م‌.ن‌، 4/306- 311؛ التنوخي، 3/173-174)، و كان‌ يؤمن‌ كل‌ الإيمان‌ بذكاء و علم‌ جعفر البرمكي (أبوالفرج‌، 4/325)، و يندهش‌ لمروءته‌ و سخائه‌ (م‌.ن‌، 5/407-409)، و قد مدحه ببيتين‌ (م‌.ن‌، 5/423)؛ كما مدح‌ الفضل‌ البرمكي الذي كان‌ متوجهاً إلى‌ خراسان‌، بأشعار جميلة، و أعطاه‌ جائزة بلغت‌ ألـف‌ دينار (م‌.ن‌، 5/301-302).

ذكرت‌ من‌ لقاءات‌ إسحاق‌ مع‌ الفضل‌ بن‌ الربيع‌ 10 مجالس‌ أيضاً كانت‌ في الغالب‌ تمر بإنشاد الشعر، و الغضب و المصالحة (م‌.ن‌، 5/306-347، 15/52، 17/114-115).

و قد كانت‌ علاقاته‌ مع‌ علي بن‌ هشام‌ الوزير ودّية للغاية. والمجالس‌ الثمانية التي نقلت‌ في هذا المجال‌، تنقضي أيضاً في إنشاد الشعر، و المعاتبات‌ (ابن‌ المعتز، 360-362؛ أبوالفرج‌، 5/411، 7/296-297، 300، 17/110-114). و لكن‌ ماهو مهم‌ للغاية في هذه‌ الصداقة الرسائل‌ المفصلة التي كتبها إسحاق‌ إلى‌ الوزير (ظ: قسم‌ النثر في هذه‌ المقالة).

كما كانت‌ له‌ أيضاً علاقات‌ مع‌ آل‌ طاهر: فكان‌ يضمر الحب‌ لعبدالله‌ (أبوالفرج‌، 5/353، 366-367، 413، 12/112) و يمدح‌ طلحة (م‌.ن‌، 5/335). و كان‌ يمزح‌ أحياناً مع‌ سميه‌ الأمير إسحاق‌‌بن‌ إبراهيم‌ المصعبي (م‌.ن‌، 5/330)، و لكنه‌ مدحه‌ بقصائد كبيرة عندما هزم‌ المصعبي الخرميين‌ (الحصري، 2/594-595).

 

إسحاق‌ و الموسيقى‌

عندما نقرأ تراجم‌ الموسيقيين‌، و نقارنهم‌ مع‌ بعضهم‌، نلاحظ أن‌ إسحاق‌ كان‌ النابغة العديم‌ النظير في جميع‌ الأعصار. و يبدو فنه‌ و موهبته‌ من‌ وراء الروايات‌، ولكن‌ للأسف‌ لم‌‌يتبق‌ من‌ كتبه‌ البالغة عشرين‌ و نيفاً و التي ذكرناها في عداد آثاره‌، كما لم‌‌يتبق‌ مما كتب‌ حوله‌ مثل‌ أخبار إسحاق‌ ليحيى‌ ابن‌‌علي‌ المنجم‌ (أبوالفرج‌، 5/376)، أي أثر مطلقاً، و بناء على‌ ذلك، فإن‌ الموضع‌ الوحيد الذي يتبقى‌ لدينا للبحث‌ هو آثار الموسيقيين‌ الآخرين‌ و فيما إذا كانوا قد تأثروا به،‌ أو أشاروا إلى‌ مدرسته‌. وهذه‌ الآثار قليلة أيضاً، و تقتصر على‌ الأغاني لأبي الفرج‌ الأصفهاني، و كمال‌ أدب‌ الغناء للحسن‌ بن‌ أحمد الكاتب‌، والأهم‌ منها كلها رسالة الموسيقى‌ ليحيى‌ بن‌ علي المنجم‌، وإشارات‌ في كتاب‌ الملاهي لابن‌ خرداذبه‌.

و قد أشار أبوالفرج‌ الأصفهاني في أرجاء كتابه‌ إلى‌ الكثير من‌ الألحان‌، و ذكر في تعريفها وتحديدها مصطلحات‌، بقيت‌ مجهولة للجميع‌ منذ قرون‌؛ كما أن‌ جميع‌ الأشخاص‌ الذين‌ خصصوا مقالات‌ مفصلة لإسحاق‌ مثل‌ رفاعي (1/452-472)، و فوك في «دائرة‌المعارف‌ الإسلامية»، و البستاني، و آخرين‌ كثيرين‌، غضوا النظر عن‌ إيضاح‌ مثل‌ هذه‌ الأمور. و هذه‌ المصطلحات‌ تقوم‌ على‌ نظرية إسحاق‌ في الموسيقى‌، و إذا ما اتضحت‌ هذه‌ النظرية، فإن‌ تلك المصطلحات‌ ستكون‌ مفهومة أيضاً. و لذلك، فإننا نشير في البدء إلى‌ فنه‌ و موهبته‌، ثم‌ نعرض‌ نظريته‌ و إبداعاته‌ على‌ أساس‌ ما اكتشفه‌ المتخصصون‌ في هذا الفن‌:

كانت‌ موهبة إسحاق‌ ملفتة للنظر منذ شبابه‌، حتى إن‌ الجميع‌ كانوا يحسدونه‌ على‌ مايقول‌ هو نفسه‌، و يتهمونه‌ بسرقة ألحان‌ أبيه‌ (أبوالفرج‌، 5/332-333)، و لكنه‌ مالبث‌ أن‌ سيطر على‌ الأجواء‌ الموسيقية في البلاطات‌، و كان‌ رأيه‌ هو المقبول‌ عادة دون‌ نقاش‌، وكانت‌ هناك شخصيات‌ كبيرة مثل‌ علويه‌ تستشير «الأستاذ» (م‌.ن‌، 18/ 369)، و يعترف‌ زرزور أنه‌ أمامه‌ كالرصاص‌ الذي يذوب‌ في النار (م‌.ن‌، 5/346)، أو أنه‌ أقل‌ من‌ التراب‌ (م‌.ن‌، 5/403). وكان‌ المغنون الذين‌ كانوا يعتبرون‌ مجالس‌ الموسيقى‌ مجالس‌ طرب‌ يكفون‌ عن‌ أي تهاون و يجدون بمجرد أن‌ يحضر‌ إسحاق‌ (م‌.ن‌، 5/327). و حتى‌ إبراهيم‌ ابن‌ الخليفة الذي كان‌ يتشدد على‌ المغنين‌، كانت‌ أخلاقه تتحسن‌ حتى‌ قيل‌ إن‌ «إسحاق‌ آفة إبراهيم‌» (م‌.ن‌، 5/292)، ذلك لأن‌ أذن‌ إسحاق‌ و حسه‌ كانا مرهفين‌ إلى‌ حد يثير الدهشة؛ و قد اكتشف‌ ذات‌ مرة من‌ بين‌ 80 وتراً، الوتر الذي لم‌‌يكن‌ متناغماً مع‌ الأوتار الأخرى‌ (م.ن، 5/284-285)؛ و في المجلس‌ الذي كان‌ يحضره‌ موسيقي كبير مثل‌ إبراهيم‌ بن‌ المهدي كان‌ هو الذي اكتشف‌ أن‌ إيقاع‌ العود لايتناغم‌ مع‌ إيقاع‌ المغني (م‌.ن‌، 5/277). و قد أدى‌ كل‌ هذا الاعتبار إلى‌ أن‌ ينظر بعين‌ الاستحقار إلى‌ الآخرين‌ (م.ن، 21/57).

و رغم أن‌ إسحاق‌ كان‌ يتجنب‌ تعليم‌ الموسيقى‌ و خاصة ألحانه‌ للآخرين‌ (م‌.ن‌، 5/269، 282، 22/52)، إلا أننا نرى‌ مع‌ ذلك أن‌ الكثير من‌ الجواري الحسنات‌ الغناء تعلمن‌ لديه‌ (م‌.ن‌، 13/347).

لانعلم‌ بالضبط كم‌ من‌ الألحان‌ صنعها إسحاق‌؛ و قد تحدث‌ هو نفسه‌ في رواية عن‌ 200 «لحن‌» و في رواية أخرى‌ عن‌ 400 «لحن‌» (م‌.ن‌، 5/430). و قد كانت‌ ألحانه‌ صعبة للغاية أحياناً فالالتواءات‌ الكثيرة، و خاصة النوتات‌ التزيينية التي لاحصرلها، جعلت‌ من‌ ألحانه‌ مستعصية على‌ التعلم‌. حتى‌ إن‌ الموسيقار الذي كان‌ قد سمع‌ لحنه‌ في مجلس‌ المعتصم‌ 70 مرة، عجز هو الآخر عن‌ تعلمه‌ (م‌.ن‌، 5/315-316)، و قد وقعت‌ حادثة تشبه‌ هذه‌ الحادثة مع‌ آخر في البلاط (م‌.ن‌، 5/417- 418).

و مع‌ كل‌ ذلك، فقد كان‌ الجميع‌ معجباً بألحانه‌ إلى‌ حد بعيد؛ فكان‌ علويه‌ يغني هذه‌ الألحان‌ للوجهاء أحياناً (م‌.ن‌، 5/ 399-400)، وحدث‌ أن‌ سرق‌ حلواني أحدها (م‌.ن‌، 5/422)، و كان‌ خباز قصر الفضل‌ بن‌ الربيع‌ يترنم‌ على‌ ألحانه‌ و يضرب على‌ إيقاع‌ الشوبق‌ (م‌.ن‌، 5/342)، و كان‌ الناس‌ يتهادون‌ بألحانه‌ الجديدة (م‌.ن‌، 5/384).

و قد كانت‌ المشكلة الكبرى‌ التي كان‌ يعاني إسحاق‌ منها ضعف‌ صوته‌ بحيث‌ إنه‌ لم‌‌يكن‌ يستطيع‌ أن‌ يؤالف‌ بينه‌ و بين‌ صوت‌ العود في جميع‌ الأحوال‌. و قد كان‌ ذلك يدفع‌ المغنين‌ الأجمل‌ صوتاً إلى‌ أن‌ يسبقوه‌ في مجالس‌ البلاط. ولكن‌ هذه‌ الأمنية لم‌‌تتحقق‌ أبداً. و قد أوضح‌ زرزور سبب‌ ذلك قائلاً: كان‌ بفضل‌ التجربة و المهارة و اللطافة يضيف‌ إلى‌ الغناء «أشياء» تسقطنا من‌ أعين‌ الآخرين‌ (م‌.ن‌، 5/326). و يبدو أن‌ هذه‌ «الأشياء» هي نفسها التي شرحها أحمد المكي: فمن‌ أجل‌ أن‌ يناغم‌ بين‌ صوته‌ و العود، فقد أبدع‌ أسلوباً سمي «التخنيث‌»، ولم‌‌يكن‌ معروفاً حتى‌ ذلك الوقت‌ في غناء العرب‌ (م‌.ن‌، 5/326-327). ولم‌‌يتضح‌ لنا على‌ وجه‌ الدقة ماهو التخنيث‌ و الذي اقترح‌ البستاني و يوهان‌ فوك (EI2)، هل أن‌ معادله‌ يكونFalsetto، أو Fausset ولكنه‌ يمثل‌ أي نوع‌ من‌ «الصوت العالي الطبقة» (في المصطلح‌ الموسيقي أوروبي)، مع‌ صوت‌ الزير‌ و الخاص‌ بالرجال‌، في حين‌ أن‌ الغناء العربي هو «صوت عالي الطبقة» برمته‌. و بناء على‌ ذلك، ربما كان‌ المقصود من‌ هذا المصطلح‌ نوعاً من‌ «التحرير أو الموال‌» استطاع‌ إسحاق‌ بمساعدته‌ أن‌ يحاكي صوت‌ أوتار العود. و لكن‌ «التحريك» في غنائه‌ و الذي انتقده‌ إبراهيم‌ بن‌ المهدي أيضاً (أبوالفرج‌، 5/287)، هو ليس‌ تحريراً بالطبع‌، ذلك لأن‌ إسحاق‌ قال‌ في الرد على‌ انتقاد إبراهيم‌: التحريك في رأيه‌ أن‌ يتضمن‌ اللحن‌ نغمات‌ كثيرة (ن‌.ص‌).

و يبدو أن‌ عدة مدارس‌ موسيقية كانت‌ شائعة في عصر إسحاق‌: أساليب‌ الغناء الإيرانية، و الأسلوب‌ الرومي (= البيزنطي)، و أساليب‌ الغناء الحجازية القديمة التي كان‌ إسحاق‌ يحافظ عليها؛ و أخيراً مدرسة المحدثين‌ التي كان‌ إبراهيم‌ بن‌ المهدي قد أسسها.

و يروى أن‌ أحد الوجهاء بعث‌ غلامين‌ خراسانيين‌ إلى‌ إسحاق‌ حاملين‌ حقائب‌ محملة بالأقمشة الخراسانية، و10 أسفاط من‌ القماش‌ المصري، و 300 ألف‌ درهم‌، كي يتعلما ألحانه. و عندما بلغا الكمال‌، ذهبا إلى‌ بلاط الواثق‌ و هما يرتديان‌ الزي الخراساني، وغنيا له‌ الغناء الفهلبذي (البهلوي) باللغة الفارسية، حيث‌ أعجب‌ الواثق‌ به‌ بشدة (م‌.ن‌، 5/293-294)؛ و الرواية التي تؤيد وجود اللحن‌ «الرومي» كانت‌ بأن‌ غنى‌ الغلام‌ الرومي مخارق‌ اللحن‌ الرومي بالشعر العربي (م‌.ن‌، 5/ 279).

 

مدرسة إسحاق‌

إن‌ النزاع‌ بين‌ إسحاق‌ و إبراهيم‌ بن‌ المهدي، كان‌ في الحقيقة صراعاً بين‌ المدرستين‌ القديمة و الحديثة. و قد أشار أبوالفرج‌ الأصفهاني مرات‌ إلى‌ هذه‌ الملاحظة، و منها قوله‌ إن‌ الموسيقيين‌ آنذاك كانوا قد انقسموا إلى‌ حزبين‌: حزب‌ إسحاق‌، وحزب‌ إبراهيم‌ بن‌ المهدي (18/300)؛ و يرى‌ الحزب‌ الأول‌ أن‌ من‌ العيب‌ اتباع‌ المدرسة الحديثة؛ و أما أتباع‌ الحزب‌ الثاني مثل‌ مُخارق‌، وشارية، ورَيّق‌، فقد بسّطوا الموسيقى‌، و خفّفوا من‌ أدوارها، و رأوا أن‌ تعلم‌ الغناء القديم‌ عمل‌ صعب‌ و طويل‌. ولكن‌ شيئاً من‌ الغناء القديم‌ لم‌‌يتبق‌ للأسف‌، و قد كان‌ إبراهيم‌ بن‌ ‌المهدي أول‌ من‌ أضاع‌ الغناء القديم‌ (10/ 69-70)؛ و لكنه‌ قال‌ هو نفسه‌ في أول الكتاب‌ (1/4) إن‌ الجميع‌ يتبعون‌ اليوم‌ قول‌ إسحاق‌ (عن‌ فضل‌ المتقدمين‌، ظ: الكاتب‌، 29).

و نحن‌ نرى‌ إسحاق‌ هو المنتصر دوماً في الروايات‌ الكثيرة التي ذكرت‌ قصص‌ إسحاق‌ و إبراهيم‌ (أبوالفرج‌، 10/96). و يقول‌ أبوالفرج‌ إنه‌ شرح‌ الأساس‌ العلمي لهذا الاختلاف‌ (ربما في كتاب‌ آخر)، ولكنه‌ يشير إلى‌ اختلاف‌ في مجال‌ الإيقاع‌: الثقيلان‌ وخفيفهما، فإن‌ إبراهيم و أتباعه سمّوا‌ الثقيل‌ الأول‌ و خفيفه‌ الثقيل‌ الثاني وخفيفَه‌، وسمّوا‌ الثقيل‌ الثاني و خفيفه‌ الثقيل‌ الأول‌ وخفيفه؛ و جرت‌ بينهما مناظرات‌ و مجادلات (10/96-97).

و لاتعود إشارات‌ أبي‌الفرج‌ و إيضاحاته‌ علينا بفائدة كبيرة، ومن‌ الصعب‌ اكتشاف‌ الحقائق‌ على‌ ضوئها. ولكن‌ قسماً كبيراً من‌ آراء إسحاق‌ في مجال‌ الموسيقى‌ القديمة اتضحت‌ منذ أن‌ خضعت‌ رسالة يحيى‌ بن‌ علي المنجم‌ للدراسة و التحقيق‌؛ رغم‌ أن‌ علماء الموسيقى‌ مختلفون‌ في كيفية تفسير مصطلحاتها. و قد حقق‌ يوسف‌ شوقي آخر باب‌ من‌ رسالة ابن‌ المنجم‌ في 1976م‌ (القاهرة). فقدم‌ رسالته‌ المشتملة على‌ 5 صفحات‌ في كتاب‌ يبلغ‌ ألف‌ صفحة. يقول‌ ابن‌ المنجم‌ في بداية الرسالة: «و نصف‌ الآن‌ أمر النغم‌ و عددها،... ونبين‌ ماسماه‌ إسحاق‌ «المجرى‌» في الأصوات‌... و اختلاف‌ مابين‌ أصحاب‌ الغناء العربي مثل‌ إسحاق‌ و نظرائه‌ ممن‌ جمع‌ العلم‌ بالصناعة و العمل‌ و بين‌ أصحاب‌ الموسيقى‌ من‌ الفلاسفة القدماء في عدد النغم‌» «ظ: شوقي، 189-190).

و قد أهمل‌ ابن‌ المنجم‌ كلاً من‌ جانب‌ الإيقاعات‌، و ترتيب‌ النوتات‌؛ و في المقابل‌، فإن‌ إيضاح‌ النغمات‌ وموضوع‌ «المجرى» الذي تكرر بشكل‌ مستمر في الأغاني، من‌ الممكن‌ أن‌ يكونا مفتاح‌ حل‌ الكثير من‌ الإبهامات‌.

و على‌ حد قول‌ ابن‌ المنجم‌، فإن‌ عدد النغمات‌ الأساسية، سواء في العود و المزمار، أو في حلق‌ الإنسان،‌ أو الأدوات‌ الصوتية الأخرى‌، لايتجاوز 10 نغمات‌. في حين‌ أن‌ قدماء الفلاسفة حددوها في 12 نغمة (ن‌.ص‌). و قد كان‌ إسحاق‌ يستخرج النغمات‌ العشر من‌ العود الرباعي الأوتار، و من‌ وترين‌ منه‌ فقط، ذلك لأنه‌، وكذلك الموسيقيون‌ الكبار في ذلك العصر مثل‌ الكندي، لم‌‌يكونوا يعرفون‌ عوداً غير العود الرباعي الأوتار؛ و من‌ الملفت‌ للنظر، أن‌ فكرة إضافة وترخامس‌ إلى‌ العود كانت‌ موجودة: و قد جاء في رواية أبي الفرج‌ الأصفهاني (5/270-271) أن‌ الأمير إسحاق‌ المصعبي عندما سأل‌ إسحاق‌ الموصلي عن‌ سبب‌ عدم‌ إضافته‌ وتراً آخر إلى‌ العود لأكثر النغمات‌ زيراً (النغمة العاشرة في نظام‌ إسحاق‌)، غضب‌ إسحاق‌ بشدة لهذا الرأي. فشرح‌ أولاً‌ للأمير من‌ أي موضع‌ في العود يمكن‌ الحصول‌ على‌ تلك النغمة، ثم‌ يعاتب‌ علياً والد ابن‌ المنجم‌ صاحب‌ الرسالة بأن‌ الأمير لايفهم‌ شيئاً من‌ هذه‌ المسائل‌، بل‌ «إنه‌ قرأ ذلك في كتب‌ الفلاسفة المتقدمين‌، و قد سمعتُ أن‌ فريقاً من‌ المترجمين‌ يترجمون‌ له‌ كتبهم‌ في الموسيقى‌». وقد كانت‌ نغماته‌ العشر كالتالي:

 

و النغمة الأولى‌، هي المثنى‌ مطلقاً (أي المثنى،‌ أو الوتر الثاني إذا ما حسبنا من‌ الزير إلى‌ البَم‌)، يبتدىٔ بها الضارب‌ قدر الطبقة على‌ مايريد من‌ الشدة و اللين‌، ثم‌ يستوى‌ عليها العيدان‌ والمزامير وسائـر الآلات‌. و هـذه‌ النغمـة هـي نفسهـا التـي سماهـا إسحـاق‌ بـ‍ «العماد». و لأن‌ النغمات‌ و الفواصل‌ بينها تتناسب‌ مع‌ بعضها في ترتيب‌ إسحاق‌، فإننا ربما نستطيع‌ القول‌ إن‌ جميع‌ النسب‌ كانت‌ تقوم‌ على‌ أساس‌ نغمة العماد، و من‌ هنا لايُسْتبعد أن‌ تكون‌ تلك النغمة معادلة لنوتة التونيك (الدرجة الأولى‌ من‌ السلم‌ الموسيقي) في الموسيقى‌ المعاصرة (ابن‌ المنجم‌، 192؛ شوقي، 273). وقد كان‌ الاختلاف‌ الرئيس‌ بين‌ الكندي و إسحاق‌ يدور حول‌ نغمة العماد. فالكندي يرى‌ أن‌ العماد هي وتر المثنى‌ مطلقاً لوتر البم‌، و التي تؤدي أكثر النوتات‌ بمّاً في العود (ن‌.ص‌).

 و هذه‌ النوتات‌ كانت‌ تتحصل‌ أيضاً من‌ الوترين‌ الثالث‌ والرابع‌ (المثنى‌ و الزير)، و لكن‌ من‌ البديهي أن‌ بالإمكان‌ الحصول‌ عليهما أيضاً من‌ الوتر الثاني (أي المثلث،‌ أو الوتر الثالث‌ إذا ماحسبنا الأوتار من‌ الزير إلى‌ البم‌) و الأول‌ (أو وتر البم‌ نفسه‌)، سوى‌ أن‌ هذه‌ النغمات‌ تقع‌ في دور أوفى‌. و المسألة المهمة الوحيدة هي النغمة العاشرة (في السلم‌ الأعلى‌)، التي لاتقع‌ بشكل‌ عادي في دساتين‌ العود، و لذلك يقول‌ ابن‌ المنجم‌: «فكرهوا أن‌ يفردوا لها وتراً، فيكونوا قد زادوا في العود وتراً خامساً من‌ أجل‌ نغمة واحدة ولايخرج‌ فيه‌ غيرها، فطلبوها في أسفل‌ الدساتين،‌ فوجدوها في أسفل‌ دساتين‌ الزير بالبنصر» (ص‌ 194-195). أي إذا ما استقر إصبعـا السبابـة و الوسطى‌ علـى‌ «المـي» (موضع‌ نغمة السبابـة) وال‍ـ «فا» بالترتيب‌، فإن‌ إصبع‌ البنصر بإمكانه‌ أن‌ يُحدث‌ النغمة العاشرة في أسفل‌ نوتة الفا، و الفاديز، ثم‌ يكون‌ بإلإمكان‌ العثور على‌ نوتة الصول‌ بإصبع‌ الخنصر، كي يتكامل‌ الدور بذلك (ن‌،ص‌).

إن‌ الموضوع‌ الأهم‌ الذي يمكن‌ اكتشافه‌ في‌ماقام‌ به‌ إسحاق‌، عبارة عن‌ المصطلح‌ الذي تكرر لمرات‌ عديدة في الأغاني، ولم‌‌يبد حتى‌ الآن رأي حاسم‌ في تبريره، و هو «المجرى» الذي نقل‌ أحياناً في تركيب‌ «مجري الوسطى‌» حيناً، و في تركيب‌ «مجرى البنصر» حيناً.

و قد بذلت‌ جهود كثيرة لفهم‌ هذا المصطلح‌، يعرض‌ لها يوسف‌ شوقي في مبحث‌ مفصل‌ للغاية (شمل‌ على‌ الأقل‌ ثلث‌ الكتاب‌). عندما نقول‌ «مجرى الوسطى‌» فإن‌ المراد أننا نسبنا لحناً إلى‌ النوتة التي ترتفع‌ من‌ الإصبع‌ الوسطى‌ على‌ الوتر الثالث‌. و في «مجرى البنصر» إشارة إلى‌ النوتة التي ترتفع‌ من‌ إصبع‌ البنصر إلى‌ نفس‌ الوتر. و هاتان‌ النوتتان‌ على‌ الوتر الثالث‌، لاتتلاقيان‌ أبداً.

و يرى‌ شوقي (ص‌ 375، مخ‍(، أن‌ إسحاق‌ أبدع‌ في ترتيب‌ نوتات‌ اللحن‌ أسلوباً يستطيع‌ العازف‌ و المغني من‌ خلال‌ ذكر مصطلح‌ ما، بسهولة أن‌ يكتشف‌ الفواصل‌، و أوزان‌ اللحن‌، و نوتة البداية، و نوعها و طبقتها. و بعبارة أخرى‌ فقد كان‌ إسحاق‌ أول‌ شخص‌ عين‌ المقامات‌ العربية، و قسمها إلى‌ قسمين‌. و أشار أبوالفرج‌ ‌الأصفهاني إلى‌ ذلك (5/269) و قال‌: «وهو الذي صحح‌ أجناس‌ الغناء وطرائقه‌ و ميّزه‌ تمييزاً لم‌‌يقدر عليه‌ أحد قبله‌ ولا‌تعلق‌ به‌ أحد بعده‌،... إنما كان يقال‌ الثقيل، و ثقيل،‌ الثقيل‌ والخفيف‌... ولايعرف‌ المجاري التي ذكرها إسحاق‌ في كتابه‌... فجعل‌ الثقيل‌ الأول‌ أصنافاً، فبدأ فيه‌ بإطلاق‌ الوتر في مجرى‌ البنصر...». و المراد من‌ «الطرائق‌» المذكور في الأغاني، هو علم‌ «الإيقاع‌» الذي لم‌‌يذكر للأسف‌ في رسالة ابن‌ المنجم‌. ويبدو أن‌ المقصود من‌ «الأجناس‌» هو «المقامات‌». وكل‌ مقام‌ هو قالب‌ مركب‌ من‌ عدة نوتات‌ (نغمات) كانت‌ تتحصل‌ من‌ نغمات‌ إسحاق‌ العشر حسب‌ ائتلافها و اختلافها.

و بعبارة أخرى‌، فإن‌ مراده‌ من‌ هذه‌ المصطلحات‌، لايقتصر فقط على‌ تعيين‌ النوتة و موضعها، بل‌ إنه‌ كان‌ يعين‌ بواسطتها الفواصل‌ والموازين‌ التي من‌ الممكن‌ أن‌ تحصل‌ في «المقامين‌ الرئيسيين‌»، أو كان‌ يعين‌ العلاقة بين‌ النغمات.‌ و هذه‌ التركيبات‌ اللحنية إما أن‌ تنسب‌ إلى‌ نوتة الوسطى،‌ أو نوتة البنصر على‌ الوتر الثالث‌، ولكن‌ من‌ الممكن‌ أن‌ تكون‌ نوتة اللحن‌ الأولى‌، كل‌ واحدة من‌ النوتات‌ المناسبة من‌ مجموع‌ 10 نوتات‌. و على‌ سبيل‌ المثال‌ فإن‌ «المطلق‌ في مجرى‌ الوسطى‌» هو كالتالي:

 

إن‌ هذا النمط يشير في الواقع‌ إلى‌ تركيب‌ خاص‌ من‌ الفواصل‌ اللحنية انتظمت‌ حسب‌ الترتيب‌ (من‌ اليسار إلى‌ اليمين‌) كالتالي: 1/1+ +1/1+ +1. و الآن فإننا إذا حافظنا على‌ هذا النظام‌ وهذا المستوى‌ في النوتات‌ و الفواصل‌، فإن‌ بإمكاننا أن‌ نبدأ ذلك الترتيب‌ بأي نوتة أخرى‌ بالإضافة إلى‌ مطلق‌ الوتر الثالث.

 و إذا بدأناه بمطلق‌ الوتر الثاني فإنه‌ يكون‌ كالتالي (على‌ الوترين‌ الزير والثالث‌):

 

و يلاحظ أن‌ الفاصلة بين‌ الدرجة الثالثة (وسطى‌ الوتر الثاني = فا) و الدرجة السادسة (وسطى‌ الوتر الثالث‌ = سي بمل‌)، هي نفس‌ الفاصلـة الرابعة للتـام‌؛ فإذا بدأنـا بالسبابة علـى‌ الوتر الثانـي، فإنه‌ يكون‌ في تلك الفاصلة بين‌ الدرجة الثالثة (مطلق‌ الوتر الثالث‌ = الصول‌) و الدرجة السادسة (مطلق‌ الزير‌ = دو)، الرابع‌ التام‌ أيضاً...

و نستنتج‌ من‌ هذا التحليل‌ لنغمات‌ إسحاق‌، أننا لانستطيع‌ أن‌ نعتبرها درجة صوتية ثابتة وغير قابلة للتغيير، بل‌ إن‌ كل‌ واحدة منها تشير إلى‌ نمط موسيقي‌ معين‌ مع‌ فواصل‌ محددة، تنسب‌ إلى‌ واحدة من‌ نوتة الوسطى،‌ أو البنصر في أحد المجريين‌ (ظ: شوقي، 387؛ عن‌ المجرى، ظ: شيلوا، 21).

و تنتهي رسالة ابن‌ المنجم‌ ببحث‌ النغم‌ المؤتلفة و المختلفة من‌ وجهة نظر إسحاق‌ (ظ: ص‌ 224 و مابعدها)، و كما سبقت‌ الإشارة، فقد أهمل‌ موضوع‌ «الإيقاعات‌» (عن‌ الإيقاعات‌ و مصادر البحث‌ في هذا الموضوع‌، ظ: شوقي، 91 و ما بعدها).

و يسود الظن‌ عادة أن‌ الخليل‌ بن‌ أحمد استلهم‌ في إبداع‌ علم‌ العروض‌ من الأوزان‌ الموسيقية؛ و لكن‌ محمود محمد شاكر يقدم‌ في مؤلَّفه‌ كتاب‌ الشعر (ظ: م‌.ن‌، 92-93) عكس‌ هذه‌ النظرية، ويرى‌ أن‌ الخليل‌ و بعد أن‌ أبدع العروض‌، اتجه إلى‌ الموسيقى‌، وألف‌ كتابي النغم‌ و الإيقاع‌، و تأثر إسحاق‌ الموصلي في عمله‌ بهذه‌ الآثار بشكل‌ مباشر. و قد صدر هذا الكلام‌ من‌ روايتين‌: ذكر أحدها الزبيدي في طبقات‌ النحويين‌ (ص‌ 26). و نرى‌ حسب‌ هذه‌ الرواية أن‌ إبراهيم‌ بن‌ المهدي عندما يثني على‌ إسحاق‌ بسبب‌ كتاب‌ «النغم‌» يجيب‌ على ثنائه قائلاً: «بل أحسن الخليل؛ لأنه جعل السبيـل إلى الإحسـان». و أما الروايـة الثانيـة فهـي للجاحـظ (ص‌ 186-190) الـذي يقول‌ بعد الإشـارة إلى‌ إبـداع‌ الخليل‌ للعروض‌: ثم‌ تبعه‌ إسحاق‌ بزاد أغنى‌ من‌ علم‌ الموسيقى‌، وكتب‌ آثاره‌ المهمة (ظ: شوقـي، ن‌.ص‌). و مـن‌ الواضـح‌ أن‌ تأثير العـروض‌ في ظهـور عـلـم‌ المـوسيقـى‌، يـرتبـط فـي الـدرجـة الأولـى‌ بـ «الإيقاع‌».

لم‌‌يقتصر تأثير إسحاق‌ على‌ العراق‌، بل‌ امتد أيضاً إلى‌ غرب‌ العالم الإسلامي: فكان‌ زرياب تلميذ إسحاق‌، أكثر تفوقاً منه‌ هو نفسه‌، حسب‌ رواية المقري شبه‌ الأسطورية (4/ 119-122). و قد أجبر إسحاق‌ تلميذه‌ الشاب‌ على‌ الهرب‌ من‌ بغداد خشية أن‌ يسلب‌ منه‌ مكانته‌ لدى‌ الرشيد. فهرب‌ زرياب‌ إلى‌ الأندلس‌، و بلغ‌ أخيراً منصب‌ رئاسة الموسقيين‌ في بلاط عبدالرحمان‌ بن‌ الحكم‌. و رغم‌ أن‌ هذه‌ الرواية تبدو من‌ مختلقات‌ أهل‌ المغرب‌، إلا أنها تكشف‌ بنحو ما عن‌ أهمية إسحاق‌.

 

المصادر

ابن‌ الأنباري، عبدالرحمان‌، نزهة الألباء، تق‍ : إبراهيم‌ السامرائي، بغداد، 1959م‌؛ ابن‌ الجراح‌، محمد، الورقة، تق‍ : عبدالستار أحمد فراج‌ و آخرون‌، القاهرة، 1953م‌؛ ابن‌ خلكان‌، وفيات؛ ابن‌ عبدالبر، يوسف‌، بهجة المجالس‌ و أنس‌ المجالس‌، تق‍ : محمـد مرسـي الخولـي، بيروت‌، 1981م‌؛ ابن‌ عبدربـه‌، أحمـد، العقد الفريـد، تق‍ : أحمد أميـن‌ و آخرون‌، بيـروت‌، 1402ه‍/1982م‌؛ ابن‌ عساكــر، علـي‌، التاريـخ‌ الكبيـر، تق‍ : عبدالقـادر أفندي بدران‌، دمشق‌، 1330ه‍؛ ابـن‌ قتيبة، عبدالله‌، عيون‌ الأخبار، تق‍ : مفيد‌محمد قميحة، بيروت‌، دارالكتب‌ العلمية؛ ابن‌‌المعتز، عبدالله‌، طبقات‌ الشعراء، تق‍ : عبدالستار أحمد فراج‌، القاهرة، 1375ه‍/1956م‌؛ ابن‌ المنجم‌، يحيى‌، «رسالة»، رسالة ابن‌‌المنجم‌ في الموسيقى‌... (ظ: هم‍، شوقي)؛ ابن‌‌النديم‌، الفهرست‌؛ أبوعبيدالبكري، عبدالله‌، سمط‌ اللآلي، تق‍ : عبدالعزيز الميمني، القاهرة، 1354ه‍/1936م‌؛ أبوالفرج‌ الأصفهاني، الأغاني، القاهرة، 1963م‌؛ برهان‌ قاطع‌، محمد حسين‌ بن‌ خلف‌ التبريزي، تق‍ : محمد معين‌، طهران‌، 1361ش‌؛ البستاني؛ البصري، صدرالدين‌، الحماسة البصرية، تق‍ : محمد عبدالمعيد خان‌، حيدرآباد الدكن‌، 1383ه‍/1963م‌؛ التنوخي، محسن‌، الفرج‌ بعد الشدة، تق‍ : عبود الشالجي، بيروت‌، 1398ه‍/ 1978م‌؛ ثعلب‌، أحمد، مجالس‌، تق‍ : عبدالسلام‌ محمد هارون‌، القاهرة، دارالمعارف‌؛ الجاحظ، عمرو، «طبقات‌ المغنين‌»، مجموع‌ رسائل‌ الجاحظ، القاهرة، 1908م‌؛ الحصري، إبراهيم‌، زهر الآداب‌ و ثمر الألباب‌، تق‍ : علي محمد البجاوي، بيروت‌، 1372ه‍/1953م‌؛ خالقي، روح‌‌الله‌، «داستان‌ إسحاق‌»، پيام‌ نوين‌، 1337ه‍، س‌ 1، عد1؛ الخطيب‌ البغدادي، أحمد، تاريخ‌ بغداد، بيروت‌، دارالكتاب‌ العربي؛ رفاعي، أحمد فريد، عصر المأمون‌، القاهرة، 1346ه‍/1928م‌؛ الزبيدي، محمد، طبقات‌ النحويين‌ و اللغويين‌، القاهرة؛ شوقي، يوسف‌، رسالة ابن‌ المنجم‌ في الموسيقى‌ وكشف‌ رمـوز كتاب‌ الأغاني، القاهرة، 1976م‌؛ الصفدي، خليل‌، الوافي بالوفيات‌، تق‍ : محمد يوسف‌ نجم‌، فيسبادن‌، 1391ه‍/1971م‌؛ الطبري، تاريخ‌؛ القاموس‌؛ القفطي، علي، إنباه‌ الرواة، تق‍ : محمد أبوالفضل‌ إبراهيم‌، القاهرة، 1369ه‍/1950م‌؛ الكاتب‌، الحسن‌، كمال‌ أدب‌ الغناء، تق‍ : غطاس‌ عبدالملك خشبة، القاهرة، 1975م‌؛ لغت‌ فرس‌، أسدي الطوسي، تق‍ : فتح‌الله‌ مجتبائي و علي أشرف‌ صادقي، طهران‌، 1365ش‌؛ المبرد، محمد، الكامل‌، تق‍ : محمد أحمد الدالي، 1406ه‍/1986م‌؛ المرزباني، محمد، الموشخ، تق‍ : محب الدين الخطيب، القاهرة، 1385ه‍؛ م.ن، نورالقبس‌ المختصر من‌ المقتبس‌، تق‍ : رودلف‌ زلهايم‌، فيسبادن‌، 1384ه‍/1964م‌؛ المسعـودي، علي‌، مروج‌ الذهـب‌، بيروت‌، دارالأندلس‌؛ المقري، أحمد، نفح‌ الطيب‌، تق‍ : يوسف‌ شيخ‌ محمد البقاعي، بيروت‌، 1406ه‍/1986م‌؛ ياقوت‌، الأدباء؛ م‌.ن‌، البلدان‌؛ أيضاً:

 

EI2; Shiloah, A., introd. & tr. Kitāb Kamāl adab al-ġinā’ of Al-ḥasan ibn Aħmad ibn ‘Ali al-Kātib, Paris, 1972.

آذرتاش آذرنوش/خ.

الصفحة 1 من2

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: