الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الموسیقی / إسحاق الموصلي /

فهرس الموضوعات

إسحاق الموصلي

إسحاق الموصلي

تاریخ آخر التحدیث : 1442/9/14 ۱۵:۴۷:۴۵ تاریخ تألیف المقالة

إسْحاقُ الْموصِليّ، أبومحمد إسحاق‌ بن ‌‌إبراهيم‌ بن ‌‌ماهان‌ (حيث‌ تغير إلى‌ ميمون‌ بعد أن‌ اعتنق‌ الإسلام‌) بن‌ بهمن‌ بن‌‌نسك (ح‌ 150-235ه‍/767-849م‌)، أكبر موسيقي عربي (على رأي المؤلفين‌ القدامى‌) و شاعر و أديب‌ و عالم و نديم‌ لخمسة من‌ الخلفاء العباسيين‌.

 

دراسة المصادر

ذكر أبوالفرج‌ الأصفهاني الذي كانت‌ تفصله‌ عن‌ إسحاق‌ أكثر من‌ 100 سنة و نيف‌، أوفر المعلومات‌ حوله‌. و‌بالطبع‌ فإن‌ أبا‌الفرج‌ لم‌‌يكن‌ ليجد في تأليف‌ الكتاب‌ الذي سماه‌ الأغاني، شخصية أكبر من‌ إسحاق‌، و موضوعاً أهم‌ من‌ موضوع‌ أغانيه؛ و فضلاً عن‌ ذلك، فإن‌ كتاب‌ الأغاني (ن.ع‌) تم‌ تأليفه‌ على‌ أساس‌ 100 لحن‌، ألفها إسحاق‌ نفسه‌، كما يبدو أنه‌ كان‌ له‌ كتاب‌ يحمل‌ اسم‌ كتاب‌ الأغاني الكبير، و يبدو أن‌ أباالفرج‌ اقتبس‌ عنوان‌ كتابه‌ من‌ عنوان‌ هذا الأثر نفسه‌. ولذلك، فإن‌ نصيب‌ إسحاق‌ في كتاب‌ الأغاني لأبي‌الفرج‌ أكبر من‌ نصيب‌ أي شخص‌ آخر، ذلك لأن‌ مجموع‌ الروايات‌ المتعلقة به‌ تتجاوز المجلد الكامل‌؛ و ربما كان‌ أبونواس‌ الوحيد الذي تمكن‌ مقارنته‌ به.‌ و مع‌ كل‌ ذلك، فإن‌ أباالفرج‌ و كما يقول‌ هو نفسه‌ (5/434)، غض‌ النظر عن‌ كثير من‌ الروايات‌ المتعلقة به‌ خوفاً من‌ الإطالة‌.

و بذلك، فإن‌ أباالفرج‌ يمثل‌ أكثر المصادر شمولاً، و منبع‌ العشرات‌ من‌ المصادر في القرون‌ التالية، و هذه‌ المصادر المتأخرة لاتنفع،‌ إلا في تأييد روايات‌ الأغاني و بعض‌ الإصلاحات أحياناً. والملاحظة الملفتة للنظر أن‌ المصادر المتأخرة، لم‌‌تتلاعب‌ كثيراً بالروايات‌، و لم‌‌تخلطها بالأساطير العجيبة و ذلك فيما يتعلق‌ بإسحاق‌، و خلافاً لأكثر الشخصيات‌ الكبيرة. و لعل‌ الأسطورة الوحيدة هي تلك التي ترجمها الخالقي‌ إلى الفارسية (ص‌ 24-31). و هذه‌ الحكاية خيالية إلى‌ درجة بحيث‌ لايمكن‌ درجها، إلا في ألف‌ ليلة و ليلة، لا في الوثائق‌ التاريخية.

و قد كانت‌ مصادر روايات‌ الأغاني، عبارة عن‌ رواة كبار، يمكن‌ الاعتماد عليهم‌ نسبياً، و لكن‌ الأهم‌ منهم‌ كلهم‌ حماد بن‌ إسحاق‌ الذي كان‌ من‌ أهل‌ الأدب‌ و الموسيقى‌ في نفس‌ الوقت‌، كما كان‌ رجلاً أميناً، و لكن‌ يبدو أنه‌ لم‌‌يكن‌ يتمتع‌ بمهارة كبيرة في فن‌ الموسيقى‌. و لذلك تجب‌ في هذا المجال‌ مراجعة أثر عالم‌ آخر يدعى‌ علي بن‌ يحيى‌ المنجم‌ (رسالته‌ في الموسيقى‌) ــ بسبب أن‌ أيـاً من‌ آثـار إسحاق‌ لم‌‌يصلنـا ــ لأنـه‌ وصلنا لحسن‌ الحظ. وهذا الكتاب‌ يسلط الضوء إلى‌ حدما على‌ روايات‌ الأغاني المبهمة و الفنية، كما يقدم‌ معلومات‌ حول‌ تطور فن‌ الموسيقى‌.

 

حياته‌ و دراسته‌

كان‌ إسحاق‌ من‌ أصل‌ إيراني. و كان‌ هو نفسه‌ يقول‌: نحن‌ فرس‌ من‌ أهل‌ أركان‌ (أرجان‌) (ابن‌ النديم‌، 157؛ المرزباني، نور...، 317؛ عن‌ نسبه، ظ: ن‌.د، إبراهيم‌ الموصلي). لم‌‌يذكر تاريخ‌ ولادته‌ في الأغاني، ويبدو أنه‌ كان‌ سنة 150ه‍، أو بعدها بقليل‌ (ابن‌ النديم‌، ن‌.ص‌؛ الخطيب‌، 6/ 338؛ ابن‌ عساكر، 2/416). كان‌ نسبه هو و أبوه‌ إبراهيم‌ «الموصلي‌» مثار نقاش‌ دوماً، و قد رأى‌ المؤرخون‌ أن‌ سفر إبراهيم‌ إلى‌ الموصل‌ و الذي استغرق‌ بضعة شهور، هو السبب‌ الرئيس‌ لهذا الاسم‌ (المرزباني، ن‌.ص‌؛ أبوعبيد، 1/ 138). و لكن‌ هناك روايتين‌ ذكرتا في الأغاني تثيران الشك في هذه‌ الرواية: ففي الرواية الأولى‌، لقب‌ أحد الأشخاص‌ إبراهيم‌ بـ «ابن‌ الجُرمُقانية» من‌ باب‌ الهجاء (أبوالفرج‌، 5/207)، و فـي الرواية الثانيـة، لقب‌ ابنه‌ إسحـاق‌ بـ «الجرمقاني» (م‌.ن‌، 5/ 289). و استناداً إلى‌ القاموس‌ (مادة‌ جرمق‌)، فإن‌ الجرامقة كانوا قوماً من‌ العجم‌ هاجروا إلى‌ الموصل‌ في أوائل‌ الإسلام‌. و إذا ماصحت‌ هذه‌ الرواية و هذه‌ النسبة، فإننا مضطرون‌ إلى‌ أن‌ ننظر بتحفظ إلى‌ موضوع‌ مجيء جدّ إسحاق‌ من‌ أرجان‌ إلى‌ الكوفة؛ ولكن‌ لاشك في أن‌ إبراهيم‌ كان‌ في البدء في الكوفة مولى‌ آل‌ خزيمة التميمي، لأن‌ إسحاق‌ تعرض‌ بعد ذلك بسنوات‌ لهجوم‌ المنافسين‌ بسبب‌ أصله‌ غير العربي، و قد نظم‌ بيتين‌ جميلين‌ للغاية في ولائه‌ لخزيمة بن‌ خازم‌ (أبوالفرج‌، 5/ 278).

كان‌ إبراهيم‌ متزوجاً من‌ امرأتين‌ إيرانيتين‌ مغنيتين‌ تدعيان‌ دوشار و شاهك. و يؤكد أبوالفرج‌ (5/271) أن‌ دوشار لم‌‌تنجب‌ صبياً أبداً، و لذلك فإن‌ شاهك لابد أن‌ تكون‌ والدة إسحاق‌ (ظ: ن‌.د، إبراهيم‌ الموصلي). و هذا مايدل‌ على‌ أن‌ إسحاق‌ كان‌ يجيد اللغة الفارسية دون‌ شك، و نحن‌ نلاحظ في آثاره‌ إشارة إلى‌ ذلك (ظ: أبوالفرج‌، 5/ 338).

كانت‌ مسيرة إسحاق‌ في الدراسة و العمل‌ بشكل‌ بحيث‌ مالبثت‌ أن‌ جعلته‌ من‌ أكبر الشخصيات‌ العربية ـ الإسلامية. و قد روى‌ هو نفسه‌ أنه‌ كان‌ يتردد لفترة كل‌ يوم‌ على‌ هُشَيم‌، و يتلقى‌ الحديث‌؛ ثم‌ كان‌ يتردد على‌ الكسائي و الفراء و ابن‌ غزالة، و يتلقى‌ دروس‌ القرآن‌؛ و كان‌ يسارع‌ بعد ذلك إلى‌ منصور زلزل‌ (زوج‌ عمته‌؟)، ويعزف‌ بعض‌ الألحان‌ عنده‌؛ ثم‌ كان‌ يستمع‌ لدى‌ عاتكة بنت‌ شهدة إلى‌ بعض‌ الأصوات‌؛ و بعد ذلك كان‌ يذهب‌ إلى‌ الأصمعي وأبي‌عبيدة، و يقرأ الشعر و الرواية، و يتلقى‌ الدروس‌ منهما، وأخيراً كان‌ يعرض‌ كل‌ ما كان‌ قد تعلمه‌ على‌ أبيه‌، و يتناول‌ العشاء معه‌، ثم‌ يذهب‌ مسرعاً إلى‌ بلاط هارون‌ (م‌.ن‌، 5/271-272؛ الخطيب‌، 6/340؛ الحصري، 2/593؛ عن‌ دراسته‌، أيضاً ظ: أبوالفرج‌، 5/ 269؛ الخطيب‌، 6/ 338)؛ و لكن‌ يبدو أن‌ هذا البرنامج‌ لم‌‌يكن‌ ليكفيه‌، فكان‌ يطلب‌ من‌ يحيى‌ البرمكي أن‌ يحث‌ ابن‌ عيينة على‌ تعليمه‌ الحديث‌ (م‌.ن‌، 6/ 339)، أو يذهب‌ إلى‌ أبي‌معاوية الضرير بمائة حديث‌ كي يؤيد علمه‌ (م‌.ن‌، 6/ 338).

و قد تكللت هذه‌ الجهود أخيراً بأن‌ أصبح‌ إسحاق‌ اكبر موسيقي‌ عربي، و أفضل‌ مثال‌ ل‍ «النديم‌ الأديب‌» في نفس‌ الوقت‌ (ظ: ن‌.د، الأدب‌)، ذلك لأنه‌ كانت‌ له‌ يد في جميع‌ علوم‌ عصره‌، ولكنه‌ لم‌‌يكن‌ متخصصاً في أي منها سوى‌ الموسيقى. و تبدو هذه‌ الملاحظة بوضوح‌ من‌ خلال‌ الحادثة التي وقعت‌ في حضور القاضي الكبير يحيى‌ بن‌ أكثم‌. فقد ناظر في ذلك المجلس‌ ممثلي جميع‌ الفئات‌ العلمية اعتباراً من‌ المتكلم‌ و الفقيه‌، و حتى‌ الشاعر واللغوي، و تغلب‌ عليهم‌، و عندما سأل‌ عن‌ سبب‌ شهرته‌ في الغناء فقط، أثبت‌ له‌ العطوي الشاعر في احتجاج‌ مفصل‌، أنه‌ اكتسب‌ بالطبع‌ علماً غزيراً في جميع‌ العلوم‌، ولكنه‌ تخصص‌ في الموسيقى‌ (م‌.ن‌، 6/342-343). كما يغلب‌ جانب‌ «الأدب‌» على‌ الكثير من‌ الإشادات‌ التي قيلت‌ في حقه‌. و قد اعتبره‌ أحد العلماء الكبار وحيد زمانه‌ في العلم‌ و الفقه‌ و الأدب‌ و الوقار و الوفاء و السخاء وجودة‌ الرأي و صحة المودة (أبوالفرج‌، 5/340). و من‌ أجل‌ أن‌ يبلغ‌ إسحاق‌ الكمال‌ في «الأدب‌»، فقد كان‌ يدعي الفروسية والبطولة أيضاً، و قد اشترك بالفعل‌ في إحدى الحروب‌، وجرح‌ فيها (م‌.ن‌، 5/385). و قـد قال‌ له‌ محدث‌ البصـرة و راويها الكبير ابن‌ عائشة (تـ‍ 228ه‍( إنه‌ قد قرب‌ بين‌ «آداب‌» هذين‌ الفنين‌ (م‌.ن‌، 5/301). وعلى‌ أي حال‌، فقد كان‌ الشعر و الأخبار و علمه‌ في العربية هي الغالبة عليه‌ بعد الموسيقى‌، و قد تحدث‌ الجميع‌ عن‌ علمه‌ في رواية الشعر و الأخبار و معرفته بلغة العرب‌ (ابن‌ النديم‌، 158؛ المرزباني، نور، 316). و تدل‌ علاقاته‌ الودية مع‌ علماء كبار مثل‌ الأصمعي و ابن‌ الأعرابي على‌ اهتمامه‌ الخاص‌ باللغة العربية. فقد رويت‌ 8 مجالس‌ على‌ الأقل‌ في باب‌ الأحداث‌ التي وقعت‌ بينه‌ وبين‌ الأصمعي: فكانت‌ تودداً حيناً (مثلاً م‌.ن‌، الموشح‌، 268)، وعتاباً و هجاء حيناً آخر (أبوالفرج‌، 5/ 318، 387)، أو معارضة في حضـور هارون‌ (مثـلاً م‌.ن‌، 5/386- 388)، و حيناً مزاحـاً (ثعلب‌، 1/ 129).

و قد كان‌ ابن‌ الأعرابي يشيد بعلمه‌ اللغوي و الأدبي الواسع‌ (أبوالفرج‌، 5/332). و يدعي ثعلب‌ أنه‌ كان‌ قد استمع‌ إلى‌ ألف‌ جزء من‌ لغات‌ العرب‌، و بذلك فقد كان‌ أغنى‌ من‌ ابن‌ الأعرابي نفسه‌ (المرزباني، نور، 317). كان‌ إسحاق‌ يمنح‌ ابن‌ الأعرابي 300 دينار سنوياً، كما قدم‌ له‌ الأخير بدوره‌ قسماً من‌ كتاب‌ النوادر بخطه (أبوالفرج‌، 5/274؛ قا: ياقوت‌، الأدباء، 6/44). و يبدو أنه‌ كان‌ يرعى أبا‌الحسن‌ المدائني أيضاً، ذلك لأنه‌ قال‌ لجماعة في الطريق‌ إنه‌ يذهب‌ إلى‌ شخص‌ سيملأ أذنيه بالعلم‌، و كمه‌ بالمال‌ (المرزباني، ن‌.ص‌)؛ و قد توفي أخيراً في بيت‌ إسحاق‌ (الطبري، 9/124؛ ابن‌النديم، 113).

كانت‌ دقة إسحاق‌ العلمية تثير الدهشة. حتى‌ إنه‌ كان‌ يُختبر بطرح‌ أسئلة واحدة في زمانين‌ مختلفين‌، و لوحظ أنه‌ كان‌ يكرر في المرة الثانية أيضاً نفس‌ أجوبة المرة الأولى‌ (أبوالفرج‌، 5/350؛ الخطيب‌، 6/340). و بسبب‌ هذه‌ الدقة العلمية، فقد كان‌ يعتبر «ثقة» في رواية الأخبار (م‌.ن‌، 6/343)، و قد روي عنه‌ بالفعل‌ حشد من‌ الأخبار (مثلاً أبوالفرج‌، 3/344، 17/162 و مابعدها؛ أيضاً ظ: ابن‌ قتيبة، 4/37، 39، 98؛ ثعلب‌، 1/31؛ ابن‌ الجراح‌، 68؛ ابن‌‌عبدربه‌، 6/32-33).

 

شعره‌

كان‌ إسحاق‌ شاعراً ماهراً، و ناقداً ثاقباً في ذات‌ الوقت‌. وشعره‌ هو شعر الندماء المثقفين‌ الظرفاء. وهو لاتناسبه‌ القصيدة والغزل‌ المستقلان،‌ لأنه‌ ينشد الشعر دوماً بمناسبة، و بدافع‌ خاص‌، ولذلك، فإن‌ مجموعة شعره‌ تتألف‌ في الغالب‌ من‌ مقطوعات‌ من‌ بضعة أبيات‌.

و يبدو شعره‌ أحياناً فنياً حقاً، فقد أعجب‌ الأصمعي ببيتيه حول ولائه‌ لخزيمة بن خازم (أبوالفرج‌، 5/ 278؛ الحصري، 2/593؛ ياقوت‌، ن‌.م‌، 6/ 8؛ أيضاً ظ: أبوالفرج‌، 5/ 369، حيث‌ جعل‌ هنا مروان‌ بن‌ أبي‌حفصة بدلاً عن‌ الأصمعي؛ قا: الخطيب‌، 6/342)، وقـد وصف‌ بيتين آخرين له بأنهما «الديباج الخسرواني» (أبوالفرج‌، 5/ 318؛ الخطيب‌، ن‌.ص‌؛ ابن‌ الأنباري، 118).

و قد أثنى‌ الأدباء الآخرون‌ أيضاً على‌ شعره‌. فاعتبره‌ الصفدي ممتازاً (8/391-392)، و ضمّن‌ صدرالدين‌ البصري عدداً من‌ مقطوعاته‌ في مختاراته‌ (2/ 19، 126، 385). و نسب‌ ابن‌ خلكان‌ (1/203) ديوان‌ شعر إليه‌، و وصفه‌ بأنه‌ حسن‌، و لكن‌ لم‌‌يشر شخص‌ آخر إلى‌ ديوانه‌. و يصل‌ الآن‌ ما عثرنا عليه‌ من‌ أشعاره‌، 371 بيتاً (عن هذه‌ الأشعار، مثلاً ظ: أبوالفرج‌، 5/ 289، مخ‍؛ أيضاً المبرد، 2/845، 947؛ ابن‌ المعتز، 361-362؛ المرزباني، نور، 317-318؛ المسعودي، 4/270-271؛ ابـن‌ النديم‌، 157؛ ياقوت‌، الأدباء، 6/ 8 - 58، البلدان‌، 4/760-761).

كان‌ إسحاق‌ قديراً في نقد الشعر أيضاً، حتى‌ حظي باستحسان‌ الجاحظ، و قد رأى‌ الجاحظ إسحاق‌ في أحد المجالس‌ حيث‌ لم‌‌يكن‌ قد رآه‌ حتى‌ ذلك اليوم‌، و أعجب‌ بآرائه‌ في باب‌ الشعر (المرزباني، الموشح‌، 178-179). حتى‌ إنه‌ كان‌ يجرؤ على‌ إصلاح‌ شعر كان‌ الخليفة قد قرأه بشكل غير صحيح (أبوالفرج‌، 5/401).

و نحن‌ نلاحظ في أحوال‌ إسحاق‌ أنه‌ كانت‌ له‌ معارضات‌ شعرية مع‌ بعض‌ شعراء عصره‌ مثل‌ ابن‌ أبي‌عيينة (م‌.ن‌، 5/411)، ولكنه‌ كان‌ يعرض‌ عن‌ شعراء كبار مثل‌ أبي‌نواس‌ الذي كان‌ يلاقيه‌ ولاشك في البلاطات‌، بل‌ إنه‌ كان‌ أيضاً يتعصب‌ في مخالفته و نقد شعره‌، حتى‌ إن‌ هارون‌‌الرشيد كان‌ يحيط علماً بذلك (م‌.ن‌، 18/221). وقد عزي دافع‌ هذه‌ المعارضة في إحدى‌ الروايات‌ إلى‌ «الحادثة التي كانت‌ قد وقعت‌ بينهما» (ن‌.ص‌)، و لكننا نلاحظ أن‌ رأيه‌ كان‌ نقدياً، و مبالغاً فيه‌ أحياناً ليس‌ فيما يتعلق‌ بأبي‌نواس‌ ‌وحسب،‌ بل‌ جميع‌ الشعراء المحدثين‌: فلم‌‌يكن‌ يستحسن‌ بشاراً بأي حال‌ من‌ الأحوال‌ (م‌.ن‌، 3/155)، و قد حمل‌ عليه‌ بشدة في حوار طويل‌ مع‌ علي بن‌ يحيى‌ المنجم‌ (م‌.ن‌، 3/155-156)، و كان‌ ينتقد أبا العتاهية، حتى‌ إنه آذى الخليفة هارون‌ (المرزباني، ن‌.م‌، 233). ولذلك، ربما كان‌ كلام‌ المرزباني صحيحاً عندما قال‌ إنه‌ كان‌ يعرض‌ عن‌ أشعار المحدثين‌ لأنه‌ كان‌ يهتم‌ بالمتقدمين‌ (ن‌.م‌، 238). ويشير أبوالفرج‌ الأصفهاني الذي كان‌ يعرف‌ هذا الإعراض‌ إلى‌ أنه‌ كان‌ لم‌‌يكن‌ يستحسن‌ من‌ شعر المحدثين‌ سوى‌ شعر العباس‌‌بن‌‌الأحنف‌ (8/ 358).

 

نثره‌

يستحق‌ نثر إسحاق‌ الذي وصلنا على‌ شكل‌ عدد من‌ الرسائل‌، الاهتمام‌ أيضاً. فمعرفته‌ بالآداب‌ و الفنون، جعلت‌ منه‌ متكلماً ماهراً. و نحن‌ نلاحظ لمرات‌ عديدة في الروايات‌ أنه‌ سطر عبارات‌ قيمة، و مسجعة و مقفاة أحياناً (ظ: الحصري، 2/593، في وصف‌ جارية) بحيث‌ رأى‌ الأدباء أنها تستحق‌ الضبط (م‌.ن‌، 1/450، 2/593؛ أبوالفرج‌، 9/ 278)؛ كما وصلتنا منه‌ رسالتان‌ تحظيان‌ بالقيمة من‌ الناحية التاريخية و الاجتماعية و من‌ الناحية الأدبية أيضاً: و قد كان‌ منافسه‌ اللدود إبراهيم‌ ابن‌ الخليفة المهدي. و يتضح‌ دوماً من‌ خلال‌ الأحداث‌ الكثيرة التي وقعت‌ بينهما أن‌ إسحاق‌ كان‌ مضطراً لأن‌ يحفظ حرمة ابن‌ الخليفة، و يدافع‌ في نفس‌‌ا‌لوقت‌ عن‌ مكانته‌ الفنية و العلمية هو نفسه (م‌.ن‌، 10/ 69-70، 96). و يبدو أنهما كانا يتبادلان‌ الرسائل‌ الكثيرة بينهما، و قد حصل‌ أبوالفرج‌ على‌ إحداها وكانت‌ بخط إسحاق‌ و إبراهيم‌، من‌ أبي‌الفضل‌ ابن‌ ثوابة، و نقلها، وكتب‌ في خاتمتها نقداً جميلاً عليها (10/ 148). والرسالة الثانية هي الرسالة التي كتبها إلى‌ علي بن‌ هشام‌. و قد حظيت‌ هذه‌ الرسالة الجميلة، المفعمة بالكياسة والأدب‌ المملوءة بالعتاب‌ في نفس‌‌الوقت‌، بإعجاب‌ شديد من‌ قبل‌ الكتّاب‌ (ابن المعتز، 360-362؛ أبوالفرج‌، 17/111-112؛ ياقوت، الأدباء، 6/47) ويتميز نثره‌ في هاتين‌ الرسالتين‌ بالبلاغة و الوضوح‌ والخلو من‌ التكلف‌ اللفظي و المعنوي.

 

آثـاره

لم‌يتبق‌ من‌ آثاره‌ شيء سوى‌ مانقل‌ في المصادر. ويختلف‌ عدد الكتب‌ التي سجلت‌ باسمه‌. فقد ذكر ابن‌‌النديم‌ فهرساً‌ يشتمل‌ على‌ 32 كتاباً (ص‌ 158)؛ و في فهرس‌ الصفدي المتضمن‌ 22 كتاباً (8/392)، 7 كتب‌ لانجدها في الفهرست‌ لابن‌‌النديم‌، كما يطالعنا في فهرس‌ ياقوت‌ المشتمل‌ على‌ 32 كتاباً (ن‌.م، 6/55-56) كتابان‌ جديدان‌. و تدل‌ هذه‌ الآثار بحد ذاتها على‌ أن‌ إسحاق‌ لم‌‌يكن‌ موسيقياً و حسب‌، بل‌ كان‌ أيضاً أديباً كاملاً، ونديماً آخذاً بأطراف‌ الفنون‌. و قد خصص‌ قسم‌ من‌ هذه‌ الآثار للموسيقى‌: كتاب‌ الأغاني التي صنعها هو نفسه‌ و النغم‌ و الإيقاع و أغاني معبد والاختيار من‌ الأغاني للواثق‌ و الرقص‌ والزفن؛ و اختص‌ قسم‌ آخر بأخبار المغنين‌: أخبار عزة الميلاء و أخبار طويس‌ و أخبار سعيد ابن‌ مسجح، و أخبار الدلال و أخبار محمد‌بن‌ عائشة و أخبار الأبجر و أخبار الغريض‌ و أخبار معبد و ابن‌‌سريج‌ و أغانيهما وكذلك أخبار المغنين‌؛ و خصص‌ قسم‌ لأخبار الشعراء الذين‌ لم‌‌تربطهم‌ أحياناً أية علاقة بالموسيقى‌: أخبار حماد عجرد و أخبار حنين‌ الحيري و أخبار ذي الرمة و أخبار حسان و أخبار عقيل‌ بن‌ عُلفة و أخبار الأحوص‌ و أخبار جميل‌ و أخبار ابن‌ هرمة و أخبار كُثيّر و أخبار نُصيب‌؛ و أخيراً هناك قسم‌ آخر لامحتوى‌ له‌ سوى‌ «الأدب‌»: اللحظ و الإشارات‌ و الشراب و مواريث‌ الحكماء وجواهر الكلام‌ و الندماء و المنادمات‌ و الرسالة إلى‌ علي ابن‌‌هشام و منادمة الإخوان‌ و تسامر الخلان و النوادر المتخيّرة (أو المتحيرة) و الأخبار و النوادر و تفضيل‌ الشعر و الرد على‌ من‌ يحرّمه‌ و ينقضه‌.

و بالإضافة إلى‌ ذلك، فإنه‌ يصرح‌ في رسالة إلى‌ علي بن‌ هشام‌ (ابن‌ المعتز، 362؛ أبوالفرج‌، 17/112) بأنه‌ منشغل‌ في تأليف‌ كتاب‌ حول‌ الأقوام‌ و أسمائهم‌ و أنسابهم‌، و كتاب‌ آخر حول‌ الجواري المغنيات‌ في الحجاز و الكوفة و البصرة.

و سنذكر في فصل‌ الموسيقى‌ عدد الآثار التي تبقت‌ بشكل‌ متفرق‌؛ و لكن‌ كان‌ هناك في القرن‌ 4ه‍ كتاب‌ عرف‌ باسم‌ كتاب‌ الأغاني الكبير كان‌ منسوباً إلى‌ إسحاق‌. كما نعلم‌ أن‌ كتاب‌ الأغاني لأبي الفرج يقوم‌ على‌ أساس‌ 100 «صوت‌»، و قد تم‌ إعداده‌ في عهد هارون‌ استناداً إلى‌ إحدى‌ الروايات‌ (م‌.ن‌، 1/7)، و أكمله‌ إسحاق‌ أخيراً. وربما تبادر إلى‌ الأذهان‌ أن‌ هذه‌ المجموعة هي كتاب‌ الأغاني الكبير نفسه‌ المنسوب‌ إلى‌ إسحاق‌. و لكن‌ ابن‌‌النديم‌ (ن‌.ص‌) يرفض‌ بشدة هذه‌ النسبة. فهو يستند أولاً إلى‌ حديث‌ بين‌ إسحاق‌ و رجل‌ غريب‌، أنكر فيه‌ إسحاق‌ نسبة الكتاب‌ إليه‌؛ ويستشهد ثانياً بقول‌ حماد ابن‌ إسحاق‌ ( وعلماً أنه‌ سمع‌ هذه‌ الرواية هو نفسه‌ من‌ أبي‌الفرج‌) حيث‌ يقول‌: إنه‌ لايعتبره‌ لأبيه‌ بسبب‌ وجود النِسَب‌ غير الصحيحة، ولكنه‌ يضيف‌: ألّفه‌ ورّاق‌ أبيه‌، على‌ أساس‌ الروايات‌ المعروفة في أسرة إسحاق‌. و استند أبوالفرج‌ أيضاً (17/112) في الرد على‌ نسبة هذا الأثر إلى‌ إسحاق‌، إلى‌ رسالته‌ مخاطباً علي بن‌ هشام‌. وفي هذه‌ الرسالة يذكر إسحاق‌ الآثار التي ألفها، أو التي هي قيد التأليف‌، و لاإشارة فيها إلى‌ كتاب‌ الأغاني الكبير. و لأن‌ مثل‌ هذا الكتاب‌ كان‌ موجوداً، فإن‌ أباالفرج‌ يضيف‌ أنه‌ جُعل‌ على‌ أساس‌ روايات‌ حماد.

 

نهاية حياته‌

اعتزل‌ إسحاق‌ البلاط عند شيخوخته‌، و لكن‌ احترامه‌ لم‌‌يقل‌ أبداً لدى‌ المتوكل‌. و حتى‌ عندما فقد بصره‌ استدعي إلى‌ البلاط؛ و عندما ناولوه‌ العود، بلغ‌ عزفه‌ من‌ الجمال‌ بحيث‌ نهض‌ الغلمان‌ للرقص‌. فاصطحبه‌ المتوكل‌ معه‌ إلى‌ رقّة بوصرا بالقرب‌ من‌ بغداد؛ ولكنه‌ و بعد أن‌ أصبح‌ عاجزاً، وضاق‌ ذرعاً بحياة البلاط، أنشد شعراً في الاشتياق‌ إلى‌ بغداد و منزله‌، فأذن‌ له‌ المتوكل‌ بالرجوع‌؛ و كان‌ هذا آخر لقاء له‌ مع‌ أهل‌ البلاط، فقد توفي بعد ذلك بشهرين‌ (م‌.ن‌، 5/414-416).

و قد نقلت‌ بعض‌ الروايات‌ فيما يتعلق‌ بسبب‌ موته‌، ولكن‌ المسلم‌ به‌ أنه‌ كان‌ مصراً على‌ الصوم‌ مدفوعاً بالورع‌ الصادق‌، إلى‌ درجة أنه‌ لم‌‌يتركه‌ حتى‌ في مرضه‌. و أخيراً أودى‌ به‌ المرض‌ والضعف‌ في رمضان‌ 235 (م‌.ن‌، 5/430؛ الخطيب‌، 6/345؛ ياقوت‌، ن‌.م‌، 6/52-53؛ القفطي، 1/ 219؛ ابن‌ خلكان‌، 1/204). و لكن‌ المرزباني ( نور، 318) و البعض‌ الآخر احتملوا أن‌ سنة وفاته‌ كانت‌ 236ه‍. و عندما بلغ‌ خبر موته‌ المتوكل‌ قال‌: «ذهب‌ صدر عظيم‌ من‌ جمال‌ الملك و بهائه‌ و زينته‌» (أبوالفرج‌، 5/431). و قد أنشد البعض‌ شعراً في رثائه‌ و منهم‌: ابن‌ سبابة‌ (الخطيب‌، ن‌.ص‌)، و إدريس‌ بن‌ أبي‌حفصة (ابن‌‌النديم‌، 157؛ أبوالفرج‌، ن‌.ص‌)، ومحمد بن‌ عمرو الجرجاني (ن.ص)، و أبوأيوب‌ أحمد بن‌ إبراهيم‌ (م‌.ن‌، 5/434)، و مصعب‌ بن‌ عبدالله‌ الزبيري (م‌.ن‌، 5/432-434؛ ياقوت‌، الأدباء، 6/54-55؛ الصفدي، 8/392-393).

 

إسحاق‌ و الخلفاء المعاصرون‌ له‌

كان‌ إسحاق‌ يتظاهر دوماً بأنه‌ ساخط بشدة على‌ مكانته‌ كمغني‌ (مثلاً أبوالفرج‌، 5/ 268)، لأنه‌ كان‌ يعلم‌ جيداً أن‌ طبقة المغنين‌ لاتتمتع‌ بقيمة كبيرة في المجتمع‌ الإسلامي. و تكشف‌ بعض‌ الروايات‌ عن‌ هذه‌ الرؤية الاجتماعية بوضوح‌: فنرى‌ الفضل‌ بن‌ الربيع‌ يوبخ‌ حفيده‌ الذي كان‌ يميل‌ إلى‌ الموسيقى‌ قائلاً إنه‌ قد فضح‌ آباءه‌ لأنه‌ أصبح‌ في طبقة «الخنياكرين» [المغنين] (م‌.ن‌، 19/223). حتى‌ إن‌ الحساد هتفوا في حق‌ إسحاق‌ الذي دخل‌ مجلس‌ الخليفة مع‌ قاضي القضاة، من‌ باب‌ الاستحقار قائلين‌ إن‌ «خيناكراً» [مغنياً] يدخل‌ المجلس‌ مع‌ القضاة (م‌.ن‌، 5/296). و من‌ الواضح‌ أن‌ كلمة خيناكر هي نفس‌ كلمة خنياگر الفارسية التي كانت‌ شائعة بهذا الشكل‌ (بتقديم‌ الياء على‌ النون‌) في العربية و الفارسية (ظ: لغت‌ فرس‌، مادة نوا؛ قا: برهان‌ قاطع‌، مادة خنيا وخينا)، و قد صرفوا منها في العربية فعلاً كقولهم‌: «إذا خنكرتَ فخنكر لمثل‌ هؤلاء» (أبوالفرج‌، 5/183).

و بفضل‌ العلم‌ الواسع‌ و الموهبة الفنية و الطبع‌ اللين‌ و المرن ومعرفة آداب‌ الندماء، استطاع‌ إسحاق‌ أن‌ ينسجم‌ مع‌ الصفات‌ المتناقضة لـ‍ 6‌ خلفاء عباسيين‌ (من‌ 170-235ه‍) و وزرائهم‌، و أن لايبتعد أبداً عن‌ البلاط.

الصفحة 1 من2

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: