الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / أبوعیسی الوراق /

فهرس الموضوعات

أبوعیسی الوراق

أبوعیسی الوراق

تاریخ آخر التحدیث : 1443/1/8 ۲۲:۵۸:۲۵ تاریخ تألیف المقالة

أَبوعیسَی الْوَرّاق، محمدبن هارون بن محمد الوراق البغدادي (تـ 247هـ/ 861م)، المتکلم المعروف في النصف الأول من القرن 3هـ الذي کان معتزلیاً بادئ الأمر ثم طرد من بین صفوفهم بعد مخالفته إیاهم واتهم بالزندقة والإلحاد. لم یبق شيء من الکتب والمقالات العدیدة التي نسبت إلیه، وکل مابقي هو نقول عنه في آثار الآخرین و خاصة مناوئیه. لذا من الصعب الإعلان عن وجهة نظر حاسمة بشأن عقائده وآرائه ومذهبه الکلامي الحقیقي.

لم یتحدث المسعودي الذي ألف کتابه مروج الذهب بعد قرن تقریباً من وفاة أبي عیسی بشيء عن مذهبه وعقیدته، واکتفی بوصف مؤلفاته بأنها حسان کثیرة وذکر کتابیه المقالات و المجالس (5/23). وعدّه ابن الندیم في «المتکلمین النظّارین» وقال إنه کان في البدء معتزلیاً ثم خلبط وانتهی به التخلیط إلی أن صار یرمی بمذاهب الثنویة (ص 216)، وقد استخدم ابن الندیم صفة التخلیط هذه بحق عدة أشخاص آخرین کانوا معتزلة أول أمرهم، وقد وضع هؤلاء جمعیاً تحت عنوان: «قوم من المعتزلة أبدعوا و تفرّدوا»، في مقابل: «المعتزلة المخلصین» (ص 214-216). وکان أعضاء هذه المجموعة معتزلة في البدء و أصبحوا خارجین علی المذهب بسبب إعلانهم عن معتقدات جدیدة من الاعتزال الخالص و المحض و دعُعوا بالمخلّطین؛ أي أنهم لم یظلوا أوفیاء لمبادئ مدرستهم و فریقهم العقائدي، واتخذ کل منهم لنفسه طریقاً خاصاً به. وقد أدی هذا التفرد و الإبداع إلی أن یتهم مناوئوهم البعضَ منهم بالزندقة والثنویة و هي تهمة خطیرة آنذاک، ولم یتورعوا حتی عن نسبة کتب ومقالات عن الزندقة أو المانویة إلیهم. وقد اضطر أبوعیسی لنفي هذه التهمة إلی تألیف کتاب في الردّ علی الثنویة (م.ن، 216)، لکن یبدوا أن هذا الدفاع لم یؤد إلی النتیجة المرجوة منه، بل إن تلمیذه ابن الراوندي (ن.ع) أیضاً الذي کان مثله متهماً بالزندقة، اتهمه – بسبب العداء الذي ظهر بینهما – بالزندقة (ظ: بقیة المقالة). وفي مقابل ذلک، فإن بعض کبار علماء الشیعة الإمامیة مثل الشریف المرتضی والشیخ المفید، اعتبروه منهم بسبب مؤلفاته التي کتبها حول الإمامة والدفاع عن المذهب الشیعي، ودفعوا عنه التهم الموجهة ضده. وبطبیعة الحال فإن الشیخ المفید لم یقل شیئاً بشأن اتهامه بالمانویة، إلا أنه یستفاد من کلامه الوارد في الإفصاح (ص 207) أنه کان یعتبر أبا عیسی من الشیعة الإمامیة، ذلک أنه یقول: «وفي هذه المسألة (إمامة أبي بکر في الصلاة التي یراها البعض دلیلاً علی أحقیته في الخلافة)، کلام کثیر قد سبق أصحابنا إلی استقصائه، وصنّف أبوعیسی محمد بن هارون الوراق کتاباً مفرداً في معناه سماه کتاب السقیفة یکون نحو 200 ورقة لم یترک لغیره زیادة علیه فیما یوضح عن فساد قول الناصبة و شبههم التي اعتمدوها من الخبر بالصلاة».

وقد قام القاضي عبدالبجار المعتزلي (تـ 415هـ/ 1020م) في بحث الإمامة من کتابه المغني (20(1)/37- 38) نقلاً عن أبي علي الجبائي بوضع أبي عیسی الوراق في طبقة هشام بن الحکم و أبي حفص الحداد و ابن الراوندي و عدّه من بین الذین نصروا المذهب الشیعي، إلا أن هدفهم کان الطعن في الإسلام والدین، ذلک أنهم لو أعلنوا عن نوایاهم في الطعن بالإسلام و الدین و جاهروا بکفرهم فلن یتقبلهم إلا القلیل من الناس. و علیه فقد اتخذوا من هذه الطریقة (إظهارهم أنهم شیعة إمامیة) وسیلة لتحقیق أهدافهم. و هو یقول بشأن أبي عیسی: «تمسکه بمذاهب الثنویة ظاهر، وإنه کان عند الخلوة ربما قال بلیتُ بنصرة أبغض الناس إليّ وأعظمهم إقداماً علی القتل، لکن التستر برلک (بالتشیع) و التحرز به من القتل لابد من أن یکون» (ن.م، 20(1)/38؛ أیضاً ظ: الخیاط، 155).وکلام القاضي عبدالجبار هذا بحد ذاته دال علی عدم صحته، والتمسک بمذاهب الثنویة اتهام غیرمعقول، ذلک أن مذاهب الثنویة، أو الغنوصیة کثیرة جداً، ولایقبل أي منها بما یقبل به الآخر، فکیف یمکنه أن یتمسک بجمیع مذاهب الثنویة؟ کما أن أبا عیسی لم یکن مجبراً في سبیل النجاة من القتل، علی الدفاع عن أبغض الناس إلی نفسه، ذلک أن حیاته في ظل الاعتزال کانت أکثر سهولة له، بل کان بإمکانه أن یلجأ إلی أهل السنة والحدیث. إن کل هذه السلسلة من الاتهامات و الأکاذیب التي ألصقها به مناوئوه لیظهروه برداء المانویة، ذلک أن المانویة لایجیزون قتل الناس ولاالحیوانات، إلا أنه لم یسمع حتی الآن أن المانویة یعدّون الإمام علیاً (ع) أبغض الناس إلی نفوسهم. ألیس لدیهم بغض أکبر تجاه الخلیفة العباسي المهدي الذي عرّضهم للقتل؟ إن البحث بشأن اتهام أبي عیسی بالمانویة سیتم تناوله لاحقاً، لکن یجدر الذکر هنا أن ابن الندیم ذکر أن له کتاباً في الرد علی مذاهب الثنویة (ص 216).

یقول الشریف المرتضی في کتابه الشافي الذي هو في دحض آراء القاضي عبدالجبار في المغني: «فأما أبوعیسی الوراق، فإن التثنیة مما رماه بها المعتزلة، وتقدمهم في قذفه بها ابن الراوندي لعداوة کانت بینهما، وکانت شبهته في ذلک وشبهة غیره تأکید أبي عیسی لمقالة الثنویة في کتابه المعروف بالمقالات وإطنابه في ذکر شبهتهم. وهذا القدر إن کان عندهم دالاً علی الاعتقاد فلیستعملوه في الجاحظ و غیره ممن أکد مقالات المبطلین و محضّها و هذّبها» (1/89).

ومن خلال مقارنة اتهامات المعتزلة ودفاع الإمامیة عن تشیعه یمکن الاستنتاج بأن أبا عیسی الوراق کان في البدء من المعتزلة، ثم ظهرت له میول نحو التشیع فألف کتباً في تأیید الإمامة. وقد أثار هذا الأمر غضب المعتزلة إلی الحد الذي اتهموه معه بالإلحاد و الثنویة لیجعلوه عرضة للمطاردة والقتل. و إذا قبلنا ما روي في معاهد التنصیص عن أبة علي الجبائي، فإن الحاکم آنذاک لاحق أبا عیسی وابن الراوندي، فهرب ابن الراوندي والتجأ إلی ابن لاوي الیهودي، بینما ألقي القبض علی أبي عیسی ومات في السجن (العباسي، 1/158). غیر أن روایة الجبائي هذه مشکوک في أمرها، ذلک أنه لم یرد في لافهرست لابن الندیم و لا في مروج الذهب للمسعودي مایدل علی إلقاء القبض علیه، کما لم یشر الشریف المرتضی إلی أمر کهذا. وقد ترک إعلام المعتزلة أثره في ابن الندیم، فهو یقول عند حدیثه عن زعماء متکلمي المانویة الذین یظهرون الإسلام و یبطنون الزندقة: «وممن تشهّر أخیراً: أبوعیسی الوراق وأبوالعباس الناشئ و الجیهاني محمد بن أحمد» (ص 401). ومن کلمة «تشهّر» التي استخدمها ابن الندیم (ن.ص) یمکن الاستنتاج أن أبا عیسی اتهم بذلک إثر الإشاعات و اشتهارها، وأن مانویته لم تکن في حقیقتها أمراً مجزوماً به. والملفت للنظر هنا أن الخطیب البغدادي (10/92- 93) نقل عن المرزباني قوله: إن الناشئ الکبیر (هو أبوالعباس المذکور في الفهرست لابن الندیم) سعی إلی نقض آراء علماء المنطق والعروض، ورام أن یحدث لنفسه أقوالاً فسقط ببغداد، فلجأ إلی مصر وتوفي فیها سنة 293هـ. وهذا شبیه بالمصیر الذي انتهي إلیه أبوعیسی الوراق و ابین الراوندي: کلاهما اجتهد في أن یبدع شیئاً وکان یرید نقض آراء الآخرین، کماکان کلاهما ملاحقاً.

وقد شنّ القاضي عبدالجبار المعتزلي الذي کان عدواً لدوداً للشیعة، وعداؤه هذا واضح خاصة في کتابه تثبیت دلائل النبوة هجوماً علی أبي حفص ابن الحداد و ابن الراوندي و أبي عیسی الوراق (ظ: 1/128-129، 231-232)، وکما یستنبط من حدیثه فإن هذا الهجوم إنما کان بسبب ابتعادهم عن مذهب المعتزلة، وذلک أن أشخاصاً کهؤلاء کانوا لفترة في أوساط المعتزلة و علی علم کامل بأسالیبهم الکلامیة وطرق استدلالهم في مواجهة أعدائهم، وعندما یتخلّون عن الاعتزال، یستخدمون نفس هذه الأسالیب في صراعهم مع أصدقائهم القدماء، ولذا فإنهم یکونون عرضة لهجماتهم أکثر من أي فریق آخر. وتعامل القاضي عبدالجبار (ن.م، 2/371) مع أبيعیسی الوراق و ابن الراوندي ملفت للنظر. فهو یقول: «لکلهم کتب في الطعن علی رسول الله (ص) وفي نصرة الإمامیة». فإذا قبلنا کلام القاضي هذا، ینبغي القول إن الطعن علی رسول الله (ص)، مرادف لنصرة الإمامیة! فهو لم ینتبه إلی أن الإمامیة المسلمین و الشیعة کیف یمکن لهم أن یؤلفوا کتباً في الطعن علی رسول الله (ص)؟ یروي القاضي عبدالجبار في المغني (5/10 و مابعدها) آراء المانویة نقلاً عن الحسن بن موسی النوبختي والمِسمَعي و أبي عیسی الوراق. وفي الکلام الذي نقله عن أبي عیسی بشأن المانویة، لایوجد فیه أي دلیل علی أن أباعیسی کان مانویاً، کقوله: «وحکی أبوعیسی الوراق عن أکثرهم أن النور لم یزل مرتفعاً في ناحیة الشمال، و الظلمة منحطة في ناحیة الجنوب». ثم نقل بشکل أکبر آراءهم حول النور و الظلمة، ولایلاحظ في هذا النص مایشیر إلی أن أبا عیسی کان مانویاً. فهو یقول: «قال الوراق: کانوا علی ثلاث فرق...»، ووضع جملة اعتراضیة قال فیها: «وکان ثنویاً» (م.ن، 5/11). وهذه الجملة الاعتراضة خارجة تماماً عن موضوع البحث، ویمکنها فقط أن تدل علی عدائه لأبي عیسی، ذلک أن کلام أبي عیسی الذي نقله القاضي بعد ذلک، کان نقلاً غیر منحاز و مجرداً من أي نوع من أنواع التأیید أو الانتقاص. و إذا کان القاضي قد استشهد بأقوال أبي عیسی في نقله آراء المانویة، فإنه لم یشر إلی أبي عیسی خلال نقله شبهاتهم و أدلتهم. وهاذ الأمر یؤید أن أبا عیسی لم یقل شیئاً بشأن تأیید مذاهبهم عن طریق نقل شبهاتهم، ولو کان قد قال شیئاً کهذا، لنقله القاضي بکل تأکید.

یقول الملاحمي مؤلف المعتمد عند ذکره أصناف الثنویة: «فحکی أبوعیسی الوراق عنهم أنهم یزعمون أن العالم مصنوع من شیئین أحدهما نور و الآخر ظلمة...، وزعموا أنهما حیان قدیمان حساسان» (ص 561-562). فکما یلاحظ فإن أبا عیسی استخدم کلمة «یزعمون» عند نقله کلام المانویة، وهذا بحد ذاته یدعم أنه لم یکن یعتنق ذلک المذهب. واستخدام «زعم» حدث مراراً في روایة المعتمد عن کلام أبي عیسی (مثلاً ظ: ص 562، 563، 564، مخـ). ولم یشر الملاحمي قط إلی اسم أبي عیسی في احتجاجات المانویة و أدلتهم. وذکر أیضاً: «قال أبوعیسی: وقد کان قیل ماني قوم یقولون بالثنویة یقال إن ماني أخذ عنهم کثیراً من قوله، فکانوا یزعمون أن النور والظلمة کانا حیین...» (ص 583). فلو کان أبوعیسی علی دین ماني، فکیف یقول بحق نبیه و زعیم دینه إنه أخذ أغلب کلامه عن المتقدمین؟ وإذا کان یعتقد بمذهب الثنویة الذین کانوا قبل ماني، فیکف یعبر عن آرائهم بقوله: «یزعمون»؟ وأبوعیسی یستخدم هذا الأسلوب أیضاً عند نقله أقوال المجوس فیقول: «أما المجوس فلهم أقاویل مختلفة، زعم صنف منهم...» (م.ن، 597)، و هذا یدعم الرأي بأن ناقل الکلام لااعتقاد له به.

یقول الشهرستاني في بحث المانویة من کتابه: إن أبا عیسی کان في الأصل مجوسیاً عارفاً بمذاهب القوم (1/224). وموضوع کون أبي عیسی في الأصل مجوسیاً، لایشاهد في آثار المؤلفین المتقدمین علیه. فإذا کان کونه مجوسیاً قائماً علی حدس الشهرستاني فقط، فینبغي القول إن هذا الحدس کان مستنداً إلی معرفة أبي عیسی الواسعة بمذاهب القوم (أي الإیرانیین). کما أن هذا الاطلاع الواسع و الذکثار من نقله صار کما یقول الشریف المرتضی ذریعة لاتهام المعتزلة بالمانویة. لکن أباعیسی کما یستفاد من کلامه المنقول في الکتب أنه کان له اطلاع واسع أیضاً علی الأدیان الأخری و منها الیهودیة والنصرانیة. فإذا کان نقل المعلومات المتعلقة بدینٍ ما دلیلاً علی الاعتقاد بذلک الدین، فینبغي اتهامه بالیهودیة والنصرانیة أیضاً.

وإن ماورد في کتاب الشهرستاني بشأن الدین المانوي نقلاً عن أبي عیسی، أدی إلی أن یسعی کولپه في مقالة له بعنوان «جعل المانویة تنسجم والأسلام»، کي یثبت أن أبا عیسی کان مانویاً في الباطن، وأراد من خلال إجراء تعدیلات في لهجة العقائد المانویة و حذف الموضوعات الأسطوریة و اللامعقولة منها، أن یظهر هذا الدین أمام أعین المسلمین بشکل لایتنافي معه ظاهریاً و مبادئ الدین الإسلامي، ویمنحه الشکل المقوبل (ص 90)، فهو بدلاً من «ملک النور» و «ملک الظلمة» اللذین هما موجودان معیّنان، أحلّ صفتین انتزاعیتین هما: «العقلاني» و «الشهواني» (م.ن، 88)، وبیّن الاقتران المکاني للنور و الظلمة بهیئة الشمس و الظل، و تضاد الأصلین النور و الظلمة بتقابل الأضداد، واقترانهما و امتزاجهما یعبّر عن هذه الدنیا. و في الحقیقة فإنه استبدل الخرافة و الأسطورة – من خلال التفسیر و التلعیل – بالواقع، و هو بعمله هذا وضع جانباً الأصلین المتمایزین و المنفصلین اللذین لم یخلق أحدهما من الآخر، ولم یخلقا من أصل ثالث مع کل الإشکالات المستحیلة الحل الناتجة عنهما، ووضع بدل الأعضاء الخمسة لإله النور: العقل و الفکر والتأمل و المعنی و الفطنة، المعانيّ الخمسة: الحب والإیمان و الوفاء و المروءة و الحکمة (م.ن، 89).

وکما یقول کولپه: فإن أبا عیسی قد وضع هذا التعلیل في کتاب المقالات مقترناً بذکر آراء المذاهب الأخری وأخفاه بشکل لایمکن معه لأحد أن یطرأ علی ذهنه هذا التصور (المانویة) (ص 87)، ذلک أنه في غیرهذه الحالة کان ینبغي له أن یتوقع الملاحقة و عقوبة القتل، وفي الحقیقة فإن بلاءً کهذا قد حلّ به (کما مرّ آنفاً فإنه – استناداً إلی الجبائي – مات في السجن). ویقول کولپه: و لهذا السبب، فإن ابن الندیم و ابن المرتضی و الیعقوبي خلال ذکرهم عقائد المانویة لم یذکروا اسمه رغم اقتباسهم من کتابه المقالات 90). وهنا یبرز تساؤل هو إذا کانت موضوعات ابن الندیم و الیعقوبي وابن المرتضی قد استقیت من أبي عیسی أیضاً، فلماذا نقل الشهرستاني و املاحمي عنه بشکل صریح بینما أغفل الآخرون اسمه؟ بینما الحقیقة هي أن کثیراً من الموضوعات الواردة لدی ابن الندیم و الشهرستاني بشأن المانویة – مما یتطابق لدی کل منهما والآخر، کما یظن کولپه – تختلف عن بعضها الآخر، وإن ماورد لدی ابن الندیم من موضوعات بشأن المانویة تتطابق بشکل کبیر مع ماورد في المصادر غیر الإسلامیة ولایوجد فیها مایشیر إلی تسویغ عقلاني. فمثلاً مسألة توالد الشیاطین و الملائکة عن طریق النکاح التي أهملت في تسویغ أبي عیسی کما یدعي کولپه (ص 89)، قد ذُکرت في الحقیقة في أثر الشهرستاني فحسب (1/226): «ولم یزل یولّد [النور] ملائکة وآلهة وأولیاء، لاعلی سبیل المناکحة»، أو «ولم تزل تولد الظلمة شیاطین وأراکنة و عفاریت، لاعلی سبیل المناکحة». أما ابن الندیم، فقد أورد بهذا الشأن مایلي: «أولئک الأراکنة... تناکحوا، فحدث من تناکحهم الإنسان...»، أو : «إن ذلک الولد نکح أمه فأولدها ولداً أبیض...». (ص 394-395). فخرافات و قصص ماني العجیبة هذه بشأن العالم و الحرب بین النور و اللمة، وردت بین أي مظهر عقلاني في الفهرست لابن الندیم، مما لانجد له أثراً في الملل و النحل للشهرستاني. فکیف یمکن الزعم بأن موضوعات ابن الندیم و الشهرستاني نسقل کلاهما عن أبي عیسی؟ کما أن الموضوعات المنقولة عن أبي عیسی في المعتمد للملاحمي، لاتنسجم أیضاً والموضوعات المنقولة عنه في کتاب الشهرستاني، رغم أنه لایوجد في هذه الموضوعات الواردة في هذین المصدرین، وجود شيء مقزز. وإن مایمکن تخمینه بهذا الصدد، هو أنه کانت توجد روایتان بشأن عقائد المانویة، تبدو إحداهما معقولة إذا ماقورنت بالأخری، وربما کانت هذه الروایة قد أخرجها المانویون بشکل مناسب بهدف مواجهة هجمات و اعتراضات مناوئیهم الشدیدة کي لاتکون سبباً في إثارة النفور و الالعتراض. لکن نسبة هذا التسویغ والتعدیل إلی أبي عیسی أمر غیر صحیح، ذلک أنه استناداً إلی القاضي عبدالجبار (المغني، 5/10) فإن أبا عیسی نقل الروایتین، فهو مثلاً نقل القول بتماس النور والظلمة منغیر فاصل بینهما کتماس الشمس والظل، ونقل أیضاً القول بتلاقیهما علی المجاورة مع وجود فرجة بینهما. و بناء علی هذا الیمکن القول بأن الرأي الأول هو من تسویغ أبي عیسی والثاني لیس منه. وینبغي تکرار التساؤل هنا: إذا کان أبوعیسی مانویاً، لماذا کتب کتاباً في الرد علی الثنویة.

والدلیل علی أنمانسب إلی أبي عیسی الوراق، بل و حتی إلی ابن الراوندي بشأن إنکارهما المعجزات وإثارة الشبهات حولها اتهام محض، هو وجود التناقض الواضح في اقوال الذین وجّهوا تلک الاتهامات: فالقاضي عبدالجبار (ن.م، 16/411) نسب إلی أبي عیسی الوراق وابن الراوندي إثارتهما شبهة بشأن المعجزات، و هذه الشبهة نفسها نسبها الماتریدي (ص 186) إلی أبي عیسی فقط، ونسب الجواب علیها إلی ابن الراوندي! (م.ن، 187). فإذا کانت الشبهة صادرة عن کلا الاثنین فلماذا یردّ ابن الراوندي علیها؟ و إذا کان ابن الراوندي قد دحض الشبهة التي أثارها هو فیما مضی، فلماذا یعدّ الماتریدي هذا الجواب معارضة منه لأبي عیسی (ن.ص). حینئذ فإن هذا النمط من النقل لدی القاضي عبدالجبار یوصلنا إلی حقیقة أنه لم ینقل بشکل مباشر عن أبي عیسی، بل إن ما أورده إنما کان نقلاً غیر مباشر (ظ: ن.ص)، ویبدو أنه کان متردداً في روایة هذا الکلام عن أبي عیسی ونسبته إلیه. ومجمل هذه الشبهة أننا لانمتلک معرفة تامة بطبائع الأشیاء ولابأوضاع الناس لنکتشف أنواع الحیل والشعوذة، وربما کان الأنبیاء علی علم بتلک الطبائع و هذه الحیل، فاستفادوا منکل ذلک بوصفه معجزات. والردّ الذي دحض به القاضي عبدالجبار هذه الشبهة (ن.م، 16/411- 413) هو نفسه الذي نسبه الماتریدي إلی ابن الراوندي. وکان الرد الذي قدمه القاضي عبدالجبار أکثر وضوحاً، بینما کان رد ابن الراوندي في التوحید (ن.ص) مثل سائر عبارات الماتریدي قصیر و غامض، إلا أن کلا الردّین متطابقان مع بعضهما و هو أن المحتالین و المشعوذین لایمکنهما الإتیان بما جاء به الأنبیاء بوصفه معجزات، ولایوجد أي مشعوذ أو محتال یمکنه الإتیان بأفعال خارجة عن الطبائع المعروفة للأشیاء، وهذا الأمر خاص بالأنبیاء. وقد نقل الماتردیدي عن أبي عیسی آراء في إنکاره أن یکون القرآن معجزة، وأورد ردوداً علیها نقلاً عن ابن الراوندي. وهنا نشیر فقط إلی أن مانسبه ابن الراوندي لأبي عیسی کان ناجماً عن العداء الذي ظهر بینهما فیما بعد، والدلیل علی هذا ماقیل من أن ابن الراوندي وأبا عیسی قد حمّل کل منهما الآخر مسؤولیة تألیف کتاب الزمرد الذي هو في إنکار النبوة و المعجزات (ظ: بدوي، 182).

وفضلاً عن ذلک، وکما یستنتج من مضمون کلام الماتریدي (ص 193 و مابعدها)، یبدو أن الأدلة التي أوردها ابن الراوندي في إثبات النبوات قد دُحضت من قبل أبي عیسی. فإذا صح هذا، فإن الأمر لم یکن بحثاً في النبوة ذاتها والتصدیق، أو التکذیب بها، بل هو من باب إثبات ضعف الأدلة والاحتجاجات، أي أن أبا عیسی کان یعتبر أدلة ابن الراوندي في إثبات النبوة و المعجزات ضعیفة، ولم یکن منکراً لأصل النبوة. فأبو عیسی کان یرید القول إن طلب «تمنّي الموت» إلی الیهود، أو آیة المباهلة لیست دلیلاً علی الإعجاز، أو إخباراً بالغیب و لاینبغي الاستناد إلیها في هذا المضمار.

ولو کان أبو عیسی منکراً لنبوة النبي (ص) وبهذا الشکل الصریح الذي نقله عنه الماتریدي، وکان قد دحض أدلة المعجزات، لما وقف إلی جانبه علماء الشیعة، ولما اعتبره الشیخ المفید والشریف المرتضیمنهم، ولم یذکره النجاشي (1/293، 2/280 -281) ضمن رجال الشیعة ویدعوه في ترجمته لحیاة ثُبَیت بن محمد بوصفه «صاحب أبي عیسی الوراق»، ذلک أن صحبة شخص متهم بالزندقة والإلحاد و إنکار المعجزات، یعتبر طعناً بحق من یصاحبه. وکانت صحبة ثبیت لأبي عیسی الوراق من القرب بحیث قال النجاشي إن الکتاب الذي یُعزی إلی أبي عیسی الوراق في نقض العثمانیة للجاحظ إنما هو له. وهذا یدل علی أنهما کانا معروفین بالتشیع إلی الحد الذي ینسب معه کتا بکل واحد منهما إلی الآخر.

الصفحة 1 من2

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: