الصفحة الرئیسیة / المقالات / أبوعبیدة معمر بن المثني /

فهرس الموضوعات

أبوعبیدة معمر بن المثني

أبوعبیدة معمر بن المثني

تاریخ آخر التحدیث : 1443/1/4 ۱۵:۰۰:۱۸ تاریخ تألیف المقالة

أَبو عُبَیْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنيّ (114- ح 210هـ/ 732-825م)، راویة و لغوي کبیر من أوائل العصر العباسي.

 

دراسة المصادر

رغم الشهرة التي یتمتع بها أبوعبیدة فإن ماهو متوفر عن حیاته من المعلومات قلیل جداً. وقد اکتفت المصادر المتقدمة بعرض المعلومات موجزة بهذا الشأن و إن أوائل من ذکروا أبا عبیدة مثل الأخفش و ابن سلام الجمحي و خلیفة بن خیاط والجاحظ کانوا بأجمعهم من معاصریه و في الغالب من تلامیذه. وقد اکتفی هؤلاء خلال الروایات العدیدة التي نقلوها بذکر نسبه و قبیلته و مذهبه. و في القرن 3هـ/ 9م قدّم ابن قتیبة ترجمة موجزة له، ولم یقدم بقیة کتّاب هذه الفترة مثل ابن هشام والبلاذري و المبرد و ثعلب و الطبري سوی معلومات قلیلة، واکتفوا بنقل مقاطع من آثاره و روایاته. و من کتّاب القنر 4هـ نقل المسعودي عنه في مروج الذهب و في معرض حدیثه عن سنة وفاة أبي عبیدة ونزعته الشعوبیة و علاقته ببعض معاصریه و منهم أبونواس، أخباراً کثیرة عن الملوک الساسانیین. و کان أبوالطیب اللغوي (تـ 351هـ/962م) أول من جمع روایات مختلفة عن أبي عبیدة و کتب له ترجمة مستقلة و کاملة نسبیاً. وفي أواسط القرن 4هـ أشار السیرافي و الزبیدي إلی روایات بشدنه لم ترد في المصادر المتقدمة. في نفس هذا العصر قدّم ابن الندیم – عند نقله روایات عن أبي عبیدة و منها إشارة إلی سنة ولادته – فهرستاً خاصاً بآثاره. و في القرن 5 هـ جمع الخطیب البغدادي آخذاً بنظر الاعتبار الروایات المتناثرة الواردة في المصادر المتقدمة، ترجمة وافیة نسبیاً له. ومنذ هذا الحین و ماتلاه فإن کل ماورد في مصادر لایزید علی عدة أمور: ولادة أبي عبیدة ووفاته، البحث بشأن کونه شعوبیاً و خارجیاً، حکمه المعارض والمؤید بشأن معاصریه، خلاصة آثاره. وأغلب هذه المعلومات انتشر بواسطة تلامیذه خاصة أباحاتم السجستاني و الأثرم.

 

حیاته

لایعلم أصل أبي عبیدة و نسبه علی وجه الدقة، لکن لاشک تقریباً في أن جده کان إیرانیاً من یهود باجروان (في العراق). وقد أشار هو نفسه في روایة إلیه یهودیة أجداده (ظ: أبوالفرج، 18/189؛ السیرافي، 68؛ ابن الندیم، 59؛ ابن خلکان، 5/243؛ قا: سزگین، 9، الذي عدّ کلام أبي عبیدة عدیم الأهمیة، ورأی أن أعداءه عدّوه یهودیاً فیما بعد مستندین إلی هذه الروایة).

أسلم جده علی ید عبیدالله بن معمر التیمي من دحفاد أبي بکر (أبوالفرج، 20/77؛ السیرافي، 67-68). لذا اعتبر أبوعبیدة من موالي تیم بن مرة (رهط من قریش) (ابن قتیبة، المعارف، 543؛ الزبیدي، 175؛ الیغموري، 109). واستناداً إلی قوله، فإنه کان یلقب بـ «سُبّخت» التي صحفت أحیاناً في المصادر إلی «سخت» و«نسخت» (ظ: ابن الندیم، ن.ص؛ أبوالفرج، 18/189؛ القفطي، 3/285؛ السیوطي، المزهر، 2/428)؛ لکن یبدوأن «سبخت» هي في الأصل نفس «سیبخت» المکونة في اللغة الپهلویة من کلمتي «سي» (= ثلاثة) وبخت (= بُختن وتعني الإنجاح)، وکانت تدل علی التثلیث المسیحیي، أو مبادئ الزرادشتیة الثلاثة (ظ: یوستي، 293)، ومع هذا فإن أبا الفرج (ن.ص) یعتبره اسماً یهودیاً سماه به أعداؤه، إشارة منهم إلی دین أجداده، لهذا لم یکن یعجبه هذا اللقب.

وقد وقع اختلاف في تاریخ ولادة أبي عبیدة، فقد کتب ابن الندیم (ن.ص) أنها کانت في 114هـ و الیغموري (ن.ص) في 112هـ، بینما رجح البعض سنة 110هـ (ظ: یاقوت، الأدباء، 19/160؛ القفطي، 3/283؛ ابن خلکان، 5/242). ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن أبناء عبیدالله بن معمر کانوا یحکمون البصرة آنذاک، یمکن تصور أن أبا عبیدة الذي کان من موالیهم قد ولد في البصرة و ترعرع فیها (أیضاً ظ: ابن الأثیر، 142؛ العثیمین، 19-20؛ البستاني، 2/155). کانت البصرة تعد آنذاک من أکثر مراکز العلم و الأب ازدهاراً، و کان أشهر علماء العصر قد اجتمعوا فیها (ظ: پلا، 171-190)، ولذا فلاشک في أن یکون أبوعبیدة قد بدأ دراسته في البصرة خاصة و أن أغلب أساتذته کما سنری کانوا بصریین. وقد ذُکر کثیرون في المصادر المتقدمة بوصفهم شیوخ، أو أساتذة أبي عبیدة، کما أن الذین سمع منهم الروایة کثیرون جداً. و من أشهر أساتذته: أبوعمرو ابن العلاء مؤسس المدرسة النحویة للبصرة و یونس بن حبیب و رؤبة بن العجاج وأبویعقوب الثقفي و الأخفش الأکبر وقتادة بن دعامة و هشام بن عروة (ابن سلام، 40؛ الجاحظ، الحیوان، 7/59؛ الطبري، 5/326؛ الیزیدي، 80؛ الخطیب، 13/252-253؛ ابن الأنباري، 28؛ ابن درید، 3/35؛ ابن خلکان، 4/85). ومن أستذته الآخرین الجدیرین بالاهتمام رجل یدعی عمر یحتمل أن یکون إیرانیاً ذا اطلاع واسع جداً علی تاریخ إیران، ولهذا السبب دعي بعمر کسری (المسعودي، مروج...، 1/246)، ویحتمل أن یکون هو نفسه عمر بن الفرخان الذي اعتبره ابن الندیم (ص 305) من مترجمي الآثار الپهلویة إلی العربیة. وقد دون أبوعبیدة کتاب أخبار الفرس استناداً إلی الروایات التي سمعها من هذا الشخص. وکان هذا أحد مصادر المسعودي الرئیسة في نقل و شرح أخبار ملوک إیران قبل الإسلام (مروج، 1/246، 258-259، 278-279؛ أیضاً ظ: أبوالفرج، 17/318-319).

وبعد أن اکتسب أبوعبیدة مهارة في شتی علوم الشعر واللغة والأنساب و الأخبار من أبرز علماء عصره، عقد مجالس درسه في البصرة (ظ: أبوأحمد، 1/107). وقد تقاطر علی مجلس درسه عدد لایحصی من التلامیذ وردت في المصادر أسماء أکثر من 60 منهم، ومن أشهر تلامیذه الجاحظ و أبونواس و ابن مناذر و ابن سلام الجمحي وخلیفة بن خیاط و أبوحاتم السجستاني و أبوعثمان المازني و الأثرم وابن الأعرابي و ابن هشام و ابن سعد و ابن شبّة ابن حبیب و ابن النطاح وابن السکیت و أبوعبید القاسم بن سلام (ابن سلام، 39؛ خلیفة، 1/5؛ ابن قتیبة، عیون...‌، 2/69؛ البلاذري، أنساب...، 1/209؛ المبرد، 1/152، 182؛ ابن المعتز، 120؛ ابن هشام، 1/9، 49، 212؛ الطبري، 5/326، 6/248؛ ابن الأنباري، 49؛ یاقوت، ن.م، 16/74، 18/113؛ أبوالفرج، 18/20؛ ابن الندیم، 78؛ ابن خلکان، 6/395).

واستناداً إلی روایة الخطیب البغدادي (13/253-254) فإن أبا عبیدة ذهب إلی بغداد في 188هـ/804م بدعوة من الفضل بن الربیع وزیر هارون الرشید. ویبدو أن رحلته هذه إلی بغداد لم تکن الأولی، فلدینا علی الأقل روایتان تدلان – إن صحتا – علی أنه کان قد استعان باثنین من الوزراء البرامکة جعفر بن یحیی (مقت 187هـ) و الفضل بن یحیی قبل وزارة الفضل ابن الربیع لیشق طریقه إلی بلاط هارون الرشید: الأولی روایة أبي حاتم السجستاني التي تقول: إن أبا عبیدة ذهب إلی جعفر بن یحیی البرمکي، إلا أن جعفراً لم یجده جدیراً بالالتحاق ببلاط الخلیفة (ظ: الزبدي، ن.ص)، والأخری الروایة القائلة إن أبا عبیدة والأصمعي حضرا بین یدي هارون الرشید، إلا أن الخلیفة فضل الأصمعي لمنادمته. وقد أشیر في هذه الروایة إلی مناظرة قصیرة بین أبي عبیدة و الفضل بن یحیی بشأن الشعراء المحدثین (السیرافي، 70؛ الیغموري، 116).

ومهما یکن، فإن أبا عبیدة أصبح بعد 188 هـ في عداد ندماء هارون الرشید بشکل رسمي. وفي روایة فإن أبا نواس و إسحاق الموصلي انبریا بما کان لهما من نفوذ في البلاط إلی مدح أبي عبیدة و الثناء علیه بشکل جعل الخلیفة یقرر دعوة أبي عبیدة إلی بلاطه و یحله محل الأصمعي، ولم یستقبل الرشید أبا عبیدة بشکل لائق بادئ الأمر، لکنه لما أدرک مکانته العلمیة منحه صلات جزیلة (ابن قتیبة، ن.م، 2/130؛ یاقوت، ن.م، 19/157؛ ابن خلکان، 5/235؛ البیاني، 2/15). وقیل: إنه اختاره أستاذاً له وقرأ علیه بعض آثاره (الخطیب، 13/252). وقد عقد أبوعبیدة طوال تلک الفترة مجالس الدرس ببغداد، وانبری إلی التألیف أیضاً فضلاً عن التدریس (الذهبي، 9/446). ولاتُعرف علیوجه الدقة فترة إقامته ببغداد، لکن یحتمل أن یکون قد مکث هناک حتی نهایة خلافة هارون (193هـ/809م). کما سافر أبوعبیدة إلی فارس، لکن لایعرف علی وجه الدقة متنی کان ذلک. وکل ماقیل هو أنه ذهب إلی هناک بهدف زیارة موسی بن عبدالرحمان الهلالي، و أنه نال منه الصلات (الزبیدي، ن.ص؛ القفطي، 3/284).

وهناک اختلاف کبیر في تاریخ وفاة أبي عبیدة، لکن لاشک في أنه عمر طویلاً (الیماني، 351). و کان ابن قتیبة أول من ذکر تاریخ وفاته وقال: إنه توفي في 210، دو 211هـ (المعارف، ن.ص)، بینما رجح المسعودي سنة 211هـ (مروج، 3/449)، وقال السیرافي (ص 71) والزبیدي (ن.ص): إن وفاته کانت في 208، أو 209هـ. أما الخطیب البغددي، فرأی أنها حدثت في 213هـ، عندما کان له من العمر 98 عاماً (13/258). وعن کیفیة وفاته أیضاً توجد عدة روایات مثیرة للشکوک، ففي أحدها نُقل عن الزبیر بن بکار أن أبا عبیدة سُقي السم بید محمد بن القاسم بن سهل النوشجاني (ظ: أبوالفرج، 4/10؛ الیغموري، 124؛ البستاني، ن.ص)، وفي روایة أخری أیضاً فإن أبا عبیدة نفسه لمح إلی هذا الأمر و هو علی فراش المرض (الیغموري، ن.ص). واستناداً إلی هاتین الروایتین فإن المصادر الأکثر تأخراً (ظ: الخطیب، 13/257؛ ابن شاکر، 7/290) لم تشکک في مقتل أبي عبیدة علی ید النوشجاني. وفي الحقیقة فإن مایشکک بضحة هاتین الروایتین أنه لم ترد في المصادر القریبة من عصر أبي عبیدة أیة إشارة إلی هذه الواقعة؛ بینما یلاحظ ذکرها منذ النصف الأول من القرن 4هـ فقط. فضلاً عن أن الروایة الأولی نقلها الزبیر بن بکار عن النوشجاني نفسه، فإذا کان هو حقاً قاتل أبي عبیدة، تری هل کان یعترف بذلک بهذه الصورة؟ کما أن روایة المسعودي التي قالت: إنه لم یحضر جنازة أبي عبیدة أحد من الناس، بل استؤجر أحد البصریین لدفنه (مروج، ن.ص)، هي الأخری غیرمقبولة.

 

الشعوبیة

منذ بدء الخلافة العباسیة و عندما تسلم الإیرانیون مقالید کثیر من أمور الدولة، اشتدت الدعایة للشعوبیة التي کانت قد بدأت منذ النصف الثاني للقرن الأول الهجري (عطوان، 149)، وبلغت ذروتها في القرن 3هـ (أمین، 1/63)،وألّفت تدریجیاً کتب عدیدة بأقلام الشعوبیین الذین کان أغلبهم أبناء موالٍ من غیر العرب – خاصة من کانوامن أصل إیراني – في إهانة العرب و إمهم، فمثلاً کان علّان الشعوبي الکاتب الإیراني المعاصر لأبي عبیدة قد ألف 45 کتاباً في مثالب القبائل العربیة (ظ: ابن الندیم، 118). ومن جانب آخر أقدم بعض أنصار العنصر العربي مثل الجاحظ و ابن قتیبة علی تألیف کتب في دحض کتابات الشعوبیین والدفاع عن أمجاد العرب. وخلال ذلک أدلی أبوعبیدة بدلوه في خضم الصراعات الناشبة بین الشعوبیة و مناوئیها و ذلک بتألیفه کتباً في مثالب بعض القبائل العربیة مثل لصوص العرب و أدعیاء العرب و مثالب باهلة وکتاب في الثناء علی الإیرانیین مثل فضائل الفرس و أخبار الفرس (ابن الندیم، 59). والجاحظ هو أول من عرّف به بوصفه مناوئاً للعرب، فهو یقول: أنا أعجب من مسلم (أبي عبیدة) یصدّق بالقرآن، یزعم أن بقایا ثمود، تفرقت بین قبائل العرب، رغم أنه ورد في القرآن صراحة أنه لم یبق أحد من قوم ثمود (الذین باؤوا بغضب من الله) (إشارة إلی آیة «وثمود فما أبقی»، النجم/ 53/51). ولم یکن الجاحظ یری في قول أبي عبیدة هذا سوی سوء ظنه في العرب (ظ: البیان...، 1/164-165). والملفت للنظر هو أن الجاحظ رغم کونه أول من استخدم لفظ الشعوبیة (ظ: همائي، 77؛ أمین، 1/57)، إلا أنه لم یدع أبا عبیدة شعوبیاً بشکل صریح. و بعد الجاحظ، ذکر ابن قتیبة (المعارف، ن.ص) أبا عبیدة بوصفه عدو العرب و هاجمه بشدة في رسالة «الردّ علی الشعوبیة» (ص 270-271)، ووصفه بأنه أحرص علی ذکر مثالب العنصر العربي من جمیع أعداء العرب الشعوبیین الذین یری أن أشدهم عناداً هو أکثرهم ضعة. ورغمأن ابن قتیبة نفسه یقول: إنه امتنع عن نقل مطاعن أبي عبیدة لئلا یخلدها، فقد انبری لنقل روایات عنه طعن فیها بشدة بأمجاد العرب و سخر منها (ظ: ن.م، 271-274).

وبعد الجاحظ و ابن قتیبة، أشار بقیة الکتّاب القدامی أیضاً إلی شعوبیة أبي عبیدة (ظ: أبوالفرج، 20/77؛ التنوخي، 3/291؛ المسعودي، ن.ص؛ أبوالطیب، 45؛ النووي، 1(2)/260؛ قا: القفطي، 3/280، الذي طرح قضیة شعوبیته بتردد)، بل قیل: إنه کان یبدي من التعصب للإیرانیین إلی الحد الذي کان معه یعتبر الأساطیر العربیة القدیمة مستقاة من حکایات إیران القدیمة (السیوطي، المزهر، 2/505؛ غولدتسیهر، I/182). ومع کل هذا، فقد نسبت له أیضاً آثار في فضائل العرب تحت عناوین مناقب قریش و فضائلها و مقاتل فرسان العرب و مآثر العرب ومآثر غطفان (ظ: المسعودي، التنبیه ...، 90، 180؛ ابن الندیم، ن.ص). ولهذا فإن المصادر المعاصرة أبدت آراء مختلفة بشأن شعوبیته. و من بین المستشرقین یعتبره غولدتسیهر شعوبیاً صرفاً، وقد بحث ذلک بشکل واف (I/179-186). کما ذهب کلّ من هوار (ص 141) وپلا (ص 196) أیضاً مذهب غولدتسیهر، إلا أن جِب (ظ: EI2) یعتقد أنه رغم أقوال غولدتسیهر، فلیس لدینا دلیل علی شعوبیة أبي عبیدة، وهو بتألیفه المثالب وحطّه من شأن کبار العرب و خاصة المهلبیین، وضع حربة مسنونة بید الشعوبیین لیستخدموها في صراعهم ضد العرب. و قد أدی ذلک إلی أن یتهمه مناوئو الشعوبیة بهتک حرمة العرب. و من بین الکتّاب المعاصرین العرب أیضاً یعتقد البعض أنه – فضلاً عن الآثار التي ألفها في مثالب العرب – حاول – شأنه شأن بقیة الشعوبین – أن یظهر في شرحه الأمثال و الأشعار مفاخر العرب بشکل معکوس مستعیناً بالحکایات المزوّرة والروایات المختلقة. وکان هذا الأمر بالنسبة للعرب أکثر خطراً بکثیر من الحرب وجهاً لوجه (أمین، 1/70)، بینما أنکر البعض الآخر بشدة شعوبیته، واعتبروها تهمة ملفقة من أعدائه (البیاتي، 2/12- 16).

وفضلاً عما قیل، فهناک دلائل أخری أیضاً إذا أخذت بنظر الاعتبار، لایمکن معها إهمال آراء الکتّاب العرب القدامی: شقه طریقه إلی بلاط هارون الرشید في فترة اتساع نفوذ البرامکة ونیله حظوةو شهرة علی عهد وزارة الفضل بن الربیع الوزیر الإیراني لهارون الرشید، و هي الفترة التي کان بلاط اخلیفة فیها یموج بشعوبیین من أمثال الهیثم بن عدي و أبي نواس؛خلافه و صراعه الشدیدان مع المؤیدین المتعصبین لتفضیل العنثر العربي علی العجم خاصة الأصمعي، وکذلک صداقته الحمیمة لأحرار الفکر المتهمین بالشعوبیة من أمثال إسحاق بن إبراهیم الموصلي وأبي نواس اللذین مهدا السبیل لدخوله البلاط.

 

مذهبه

یوجد اختلاف في المصادر القدیمة بشأن مذهب أبي عبیدة، فقد اعتبره البعض من الإباضیة وآخرون من الصُّفریة، إلا أن أیاً منهما لم یشکک في کونه خارجیاً. فقد أشار الجاحظ (ن.م، 1/273) وابن قتیبة (المعارف، ن.ص) والمسعودي (مروج، ن.ص) إلی کونه خارجیاً، یوق غولدتسیهر (I/181): إن مایقصدونه بکونه خارجیاً هو شعوبیته. فقد دعا الجاحظ شعوبیاً آخر و هو الهیثم بن عدي، بالخارجي (ظ: ن.م، 1/274). وهذا الأمر یدعم قول غولدتسیهر، إلا أنه لایمکن تجاهل کون الجاحظ قد اعتبر في الحیوان (3/402) أبا عبیدة صراحة من الخوارج الصفریة، کما عده أبوحاتم السجستاني من الصفریة، حیث قال: کان أبوعبیدة یمیل إليّ کثیراً لأنه یظنني من خوارج سجستان (ظ: أبوالطیب، ن.ص). یقول الیغموري (ص 109-110): إن أبا عبیدة کان في أول أمره صفري المذهب، لکنه لما کان معارضاً لبعض آراء الصفریة، فقد اعتزلهم. ونقل القفطي أیضاً حکایة تدعم کونه خارجیً (3/281؛ قا: السیوطي، ن.م، 2/407)، غیر أن ابن خلکان شکک في صحة هذه الروایة (5/241). واعتبره البعض أیضاً قدري المذهب یمیل إلی المعتزلة (ظ: الزبیدي، 175-177)، ویحتمل أن یکون الباعث إلی إصدار هذا الحکم عاملین: أحدهما وجود عوامل مشترکة بین عقائد الإباضیة و عقائد المعتزلة (ظ: البغدادي،125)، والآخر ثناؤه علی بعض کبار شخصیات المعتزلة و منهم النظّام (ظ: ابن المرتضی، 50). ومن بنی المصادر المعاصرة فإن غولدتسیهر (ن.ص) هو الوحید الذي رفض کون أبي عبیدة خارجیاً، إلاأن الآخرین اعتبروا هذا الأمر بدیهیاً (ظک هوار، ن.ص؛ پلا، 289-290؛ إیرانیکا)؛ إضافة إلی أن أبا عبیدة قد ألف کتاباً تحت عنوان خوارج البحرین و الیمامة (ظ: ابن الندیم، ن.ص)، مما یمکه أن یکون بذاته دلیلاً آخر علی کونه خارجیاً.

 

الروایة

ینبغي اعتبار أبي عبیدة بحق من رواد نهضة جمع و تدوین أشعار العرب و أخبارهم التي بدأت في النصف الثاني للقرن 2هـ واستمرت حتی أواخر القرن 3هـ في مدن البصرة والکوفة و بغداد. و بظهوره والأصمعي اللذین کان کلاهما من تلامذة أبي عمرو ابن العلاء و من أساتذة مدرسة البصرة (السیوطي، ن.م، 2/401)، افتتحت روایة الشعر و الأخبار و نوادر العرب عهداً جدیاً؛ فقد أقدما علی عملین کبیرین عسیرین: أولاً بادرا – من أجل صیانة هذه الکنوز العلمیة والأدبیة من خط اتساع نطاق التلف و التحریف – إلی جمعها و تدوینها، و منذ هذا العصر و ماتلاه أعطت الروایة الشفهیة تدریجیاً مکانها إلی الروایات المکتوبة، فدونت مجامیع ضخمة من شعر و أدب وتاریخ العرب. وبإلقاء نظرة علی الفهرست لابن الندیم (ص 59-60) تنضح جلیاً مکانة أبي عبیدة في هذا المضمار، فقد ألف حوالي 200 کتاب في شتی مجالات التاریخ و اللغة و الأنساب و الأمثال و الأخبار و النوادر، فضلاً عن الروایات التي أملاها علی تلامذته. وقد قیل: إنه روی لجعفر ابن سلیمان وحده 14,000 مثل (ظ: القفطي، 3/284). ثانیاً درسا بدقة الروایات وسعیا إلی معرفة الصحیح منها و السقیم (الجاحظ، البیان، 3/217؛ بلاشیر، 147). ولتحقیق هذا الهدف ذهب أبوعبیدة إلی البادیة، أو التقی بالبدو الوافدین علی المدن لیستفسر منهم عن الروایات التي سمعها و یقوم بإصلاحها في ضوء مالدیهم (ظ: أبوعبیدة، النقائض، 1/30-31، 487؛ أبوزید القرشي، 55؛ أبوالفرج، 17/228؛ السیوطي، ن.م، 1/175، 2/508).

واستناداً إلی روایة فإنه سأل خمسة من البدو عن مقطوعة شعریة کان قدسمعها من حماد، ثم حکم بعد ذلک بأنها مختلقة (ظ: السیوطي، ن.م، 1/180؛ بلاشیر، 154). ومن بین الأشعار والمقطوعات الکثیرة المنسوبة إلی امرئ القیس لم یعترف بصحة سوی حوالي 20 مقطوعة وقصیدة، بینما اعتبر مابقي منها مختلقاً (ظ: السیوطي، ن.م، 2/486- 487). ویبدو أنه قد بدأ في عصر أبي عبیدة نوع من التخصص و تقسیم الأعمال بین الرواة، فقد اتجه أبوعبیدة بشکل أکبر إلی جمع و تدوین الروایات المتعلقة باللغة و الأنساب و الوقائع التاریخیة، بینما اتجه الأصمعي بشکل أکبر إلی الشعر و النحو (ظ: الزبیدي، 171). وقد مهدت جهود أبي عبیدة في هذا المضمار السبیل لتألیف کتب شاملة في شتی مجالات العلوم القرآنیة و اللغة و الأخبار و الأنساب. و یتضح جلیاً تأثیر مؤلفاته الأدبیة و التاریخیة في آثار کتّاب القرنین 3 و 4هـ. ومن بین هؤلاء الکتّاب یمکن الإشارة بشکل خاص إلی: الأخفش في معاني القرآن (ظ: 1/305؛ أیضاً ظ الزبیدي، 73)، والجاحظ في البیان (1/47، 3/236، مخـ) والحیوان (1/52، 146، مخـ)، وابن هشام في السیرة النبویة (1/9، 49، 212، مخـ)، وابن عبدالبر في الإنباه (ص 15، 16، مخـ)، والبلاذري في أنساب الأشراف (4(2)/101-103، مخـ) و فتوح البلدان (ص 263، 271، 274، مخـ)، و المبرد في الکامل (1/32، 110، مخـ)، وابن عبدربه في العقد الفرید (1/140، 319، مخـ)، وأبي الفرج الأصفهاني في الأغاني (4/1، 10، مخـ). ومن بین کتّاب هذه الفترة استند الطبري في تاریخه إلی آثاره أکثر من الجمیع (ظ: 2/193، 206، مخـ)؛ وقد بلغت استفادته من روایات أبي عبیدة و کتبه – خاصة أیام العرب و أخبار بني یشکر و جفرة خالد و خراسان – حداً یمکن معه العثور علی القسم الأکبر من هذه المؤلفات في تاریخ الطبري (ظ: 5/514-521، 6/248، 379، مخـ، 7/43-45، 130-134). وکتابه أیام العرب أعیدت کتابته و طبع الیوم عن هذا الطریق (ظ: قسم آثاره في هذه المقالة).

الصفحة 1 من2

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: