الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الکلام و الفرق / ابن الراوندي /

فهرس الموضوعات

ابن الراوندي

ابن الراوندي

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/12 ۲۰:۴۱:۴۴ تاریخ تألیف المقالة

ویفهم من حدیث أبي القاسم البلخي أنه مر بثلاث مراحل في حیاته المعنویة: 1. «كان في أول أمره حسن السیرة»، أي أنه كان علی سلوك وسیرة أبي القاسم البلخي وأمثاله وبعبارة أوضح كان من المعتزلة؛ 2. أعرض عن المعتزلة للعوامل والأسباب المذكورة آنفاً، ولو أن عقله كان أكبر من علمه لسلك سبیل المسالمة مع أصحابه؛ 3. أظهر الندم عما كان فعل وقال إن جفاء أصحابه وتنحیتهم إیاه حملته علی ذلك. وإن صح ندمه عما فعل كما قال أبو القاسم البلخي، فلابد أن لایكون قد سكن حتی وفاته منزل أبي عیسی الیهودي الأهوازي الذي ألف كفریاته له كما ذكر البلخي، فإذن إما أن یكون هذا الكلام افتراءً وكذباً، أو أن تكون مقولة توبته وندمه في نهایة العمر غیر صحیحة.

وقد عبر أبو القاسم البلخي عن ابن الراوندي بنحو آخر كما جاء في الفهرست: «ولم یكن في زمانه في نظرائه أحذق منه بالكلام، ولا أعرف بدقیقه جلیله منه» (ن.ص). ولو قارنا بین كلام أبي القاسم البلخي هذا وبین كلامه الذي ذكرناه آنفاً، لتوصلنا إلی أن ابن الراوندي لم یستطع أن یبقی محصوراً في إطار عقائد المعتزلة، لتعمقه وحذاقته في علم الكلام وما یتصف به من ذكاء حاد وذهن وقاد فابتعد عنهم في معظم معتقداتهم، وآل ذلك إلی طرده من بینهم في نهایة المطاف.

یقول أبو الحسين الخیاط المعتزلي الذي كان عدو ابن الراوندي اللدود، في مقدمة كتابه الانتصار: «فأما أهل النظر وأصحاب الكلام فقد علموا جمیعاً أنه لیس بنظیر للمعتزلة ولاكفوء لهم وأنه كان زماناً تابعاً من أتباعهم وحدثاً من أحداثهم یختلف إلی مجالسهم ویتعلم من أشیاخهم إلی أن ألحد في دینه وجحد خالقه ونفته المعتزلة عنها وباعدته من مجالسها» (ص 1).

ولاشك في أن كلام أبي الحسین الخیاط هذا ینبع عن الغیظ والتعصب، إذ لم یكن «إلحاده في دینه وجحد خالقه» سبباً في طرد المعتزلة له وإنما یعود إلی مخالفته لمعتقداتهم. ویروي أبو الحسين نفسه في موضع آخر من الانتصار (ص 101-102) نقلاً عن ابن الراوندي: «في البغدادیین الیوم جماعة تفسّق عبد الله بن جعفر [بن أبي طالب]… وتقف في أمر الحسن بن علي‌(ع)…. وأنهم یتبرؤون منه ویقفون فیه». ویفند أبو الحسين الخیاط ذلك ویقولك «إني سمعته وهو معتزلي في آخر أیامه قبل أن تطرده المعتزلة من مجالسها وتنفیه عن أنفسها بقلیل، یقول في عبد الله بن جعفر والحسن بن علي‌(ع) ما حكاه عن المعتزلة فأقبل علیه من حضر بالتعنیف والتوبیخ، وقالوا: قصدت إلی من خبّر رسول الله صلی الله علیه أنه أحد سیّدَي شباب أهل الجنة بمثل هذا القول؛ وكان ذاك أول عداوة لمعتزلة له».

یبدو أن حدیث أبي الحسین الخیاط هذا غیرصحیح، فقد كان بین المعتزلة من لم یكن علی وئام مع أهل البیت ولم یُطرد رغم ذلك (مثل الجاحظ)، ولم نعثر علی مثال طرد فیه المعتزلة من بینهم أحداً بسبب أخذه علی عبد الله بن جعفر والحسن بن علي‌(ع). فقد يتم طرد أحد من مجتمع دیني لمخالفته المبادئ الأساس ذلك المذهب، لا أن یطرد لمسائل یعدها أتباع ذلك المذهب فرعیة وجزئیة.

ویروي أبو حیان التوحیدي في البصائر والذخائر عن «شیخ» من أهل الأدب في مجلس أبي سعید السیرافي أن «ابن الراوندي لایلحن ولایخطئ، لأنه متكلم بارع وجهبذ ناقد وبحّاث جَدِل ونظّار صبور» (ص 183) ویدل علی قدرته في البحث والجدل كتاب نسبه إلیه مؤلف الفهرست في «أدب الجدل» (ابن الندیم، 217).

إذن كان ابن الراوندي في بدایة أمره أحد العلماء البارزین في الكلام، وتوفر مثلهم علی البحث والجدل والرأي وبلغ فیها منزلة عالیة. فقد حمل علی كثیر من معتقدات نظرائه المعتزلة مستعیناً بقدرته في الجدل والاستدلال وبذهنه الوقاد. ولعدم قدرتهم علی مواجهته، لم یتحملوه، فطردوه من بینهم.

وأصبح طرد ابن الراوندي سبباً لفقره وحرمانه المالي. ویقول أبو حیان التوحیدي في الهوامل والشوامل كان «حرمان الفاضل وإدراك الناقص»، سبب انسلاخ ابن الراوندي عن الدین. ثم یروي قصة نسبت إلی أبي عیسی الوراق وكذلك إلی ابن الراوندي، وهي شكواه واحتجاجه علی الله حین رأي غلاماً أسود علیه ثوب حریر یخرج من بلاط الخلیفة بـ «الحاشیة والغاشیة». وهناك نقطة مهمة في هذه الشكوی سواء أكانت لأبي عیسی الوراق أو لابن الراوندي –فأبو عیسی الوراق كان معتزلیاً في البدایة أیضاً كابن الراوندي ثم اضطربت أفكاره ومعتقداته– وهي أن الوراق أو ابن الراوندي رفع رأسه إلی السماء بعد أن شاهد الغلام الأسود بتلك الأبهة والجلال فخاطب الله قائلاً: «أُوحدك بلغات وألسنة، وأدعو إلیك بحجج وأدلة، وأنصر دینك بكل شاهد وبینة، ثم أمشي هكذا عاریاً جائعاً نائعاً، ومثل هذا الأسود یتقلب في الخزّ والوشي والخدم والحشم والحاشیة والغاشیة…» (ص 212-213). بناءً علی هذا كان أبو عیسی الوراق وابن الراوندي في بدایة أمرهما من أنصار دین الله ثم انحرفا نتیجة الحرمان والفاقه علی مایبدو. ویدل علی ذلك أیضاً بیتان معروفان نسبا إلی ابن الراوندي یصف بهما حیرته من نعمة الجاهل وذلة العاقل، ویری أن هذا قد «صیّر العالم النحریر زندیقاً» (ن.ص، الهامش).

واعتبر البعض أن أبا عیسی الوراق كان أستاذ ابن الراوندي (ابن الندیم، 216؛ الأمین، 213)، كما صرح بذلك أبو الحسین الخیاط المعتزلي إذ یخاطبه قائلاً: «أیما أولی ببغض الرسول [ص]: أنت… أم أستاذك وسلفك سلف السوء الملقي إلیك الإلحاد أبوعیسی الوراق والمخرج لك عن عز الاعتزال إلی ذل الإلحاد والكفر؟» (ص 155). وكذلك یخاطبه بقوله: «فلعمري أن فضل الحذاء قد كان معتزلیاً…. فنفته المعتزلة عنها وطردته عن مجالسها، كما فعلت بك لما ألحدت في دینك… وكما فعلت بأخیك أبي عیسی» (ص 149).

ولكن یُستنتج من أقوال الماتریدي (تـ 333هـ/945م) في كتاب التوحید (ص 186) أن ابن الراوندي نقض معتقدات الوراق في نفیه للمعجزات، فقال الأخیر في ما جاء به الرسل من الآیات المعجزات: «إنهم [أي الناس] لم یمتحنوا قوی الخلق ولاوقفوا علی طبائع العالم التي یستعان بها في الأفعال، بل لم تبلغ علم أكثرهم، فكیف یعرفون بذلك مبالغ الحیل؟!» فتصوروها معجزة. وبعد أن یحتج الماتریدي علی هذا الاعتراض، یقول: عارضه ابن الراوندي وقال: «إن أحداً لو ادعی قوة یجذب (في الأصل: یُحدّث، ولامعنی له) بها الكواكب… أو إنه إذا مس البحر لفظ البحر جمیع مافیه»، أو ادعی بمثل هذه المحالات، لزم تكذیبه، في حین أن الذین رأوا معجزات الأنبیاء لم یكذبوها، لأنه لو جاء الأنبیاء بهذه المعجزات علی أساس العلم بالأمور الطبیعیة، فإنه یعني عدم تكذیب هذه المعجزات، وهذا یدل علی صحة أخبار المعجزات. وكان الوراق قد عارض أیضاً بأنه ما دام جمیع الناس لم یروا المعجزات، فإنها لایمكن أن تكون برهاناً لجمیع الناس. وقد قال ابن الراوندي في الاحتجاج علی الوراق حسب قول الماتریدي: أجمع الناس علی موت البشر كلهم وإن لم یشهدوا موت الكل، ویعني هذا أن عدم شهادة جمیع الناس لایكون دلیلاً لنفي ما شاهده البعض (ص 186-187، بتصرف).

وقال الماتریدي أیضاً إن ابن الراوندي قال في احتجاجه علی الوراق (في نفیه للخبر المتواتر): «لایخلو الأمر في الخبر إما أن لایثبت البتة، فیجب الجهل بالأیام الماضیة والأماكن النائیة والوقائع السالفة، أو نقبل التواتر وما یضطر إلیها فیجب به أخبار الرسل» (ص 193).

وقال الوراق أیضاً في طعن الخبر المتواتر لو أنه یتعلق بالعبد فیحتمل الحیلة فیه، وإن كان متعلقاً بالقرب فلا یحصل الخبر المتواتر، لأن الذین یشاهدون حادثاً هم عدد یسیر. وقال ابن الراوندي في احتجاجه إن كلام الوراق جهل بالمحافل (الخبر) لأن أمر انتشار الخبر في الأزمنة البعیدة والقریبة سواء (الماتریدي، 196). وطعن الوراق أیضاً بإجماعات الیهود والنصاری علی أدیانهم. فقال ابن الراوندي في الاحتجاج علیه، إذن فلابد أن یطعن الوراق (وهو مانويّ) بإجماعات المانویة علی دینهم أیضاً (م.ن، 197).

وطعن الوراق أیضاً: بمعجزات الرسل «من حیث وردت من طریق أو طریقین». فقال ابن الراوندي في الاحتجاج علیه: «هذا بهت شدید، بل أجمعت علیها أمتنا» لأن أخبار الأنبیاء ومعجزاتهم رواها الملحدون والموحدون معاً جیلاً عن جیل توارثاً، «الملحدون لتكلف الطعن، والموحدون لرعایة الحق… فهذا لوكان شرط صحة الأخبار كثرة العدد، فكیف وشرطه الاستیلاء علی القلوب وسكونها إلیه وطمأنینة النفس بالمَخرج الفَحوی»، فقد تحقق هذا الشرط في أخبار الرسل (م.ن 198). وبملاحظة احتجاجات ابن الراوندي علی الوراق وقد دافع فیها عن الإسلام (ظ: ن.ص) یتبین عدم صحة تتلمذه علی الوراق وتعاونه معه. وربما یكون سبب طرد المعتزلة الاثنین بتهمة واحدة، هو أنهما كانا معتزلیین في بدایة الأمر ثم خالفا هذه الجماعة فطُردا منها، وابتلیا بالفقر والحرمان وضیق ذات الید. مضافاً إلی ذلك، فقد اتهموا ابن الراوندي بالمانویة أیضاً لمیل الوراق إلیها.

ومما یثیر العجب أن الوراق المتهم بمانویته ألف كتاباً اسمه كتاب اقتصاص مذاهب أصحاب الاثنین والرد علیهم، في نقض المانویة (ابن الندیم، 216). كما ألف كتاباً في نقض النصاری والمجوس والیهود، ولم یؤلف كتاباً في نقض الإسلام. ومن ناحیة أخری لایمكن إغفال ما نقله الماتریدي عن الوراق في نقض معجزات الأنبیاء. ومن المحتمل أن یكون نقض الوراق للمعجزات أو احتجاجه علیها لنقض أدلة المعتزلة في هذا الباب، وأن ابن الراوندي احتج علی اعتراضاته لأنه كان من المعتزلة في ذلك الوقت. وعلی كل حال فإنه لایمكن تأیید تعاونه مع الوراق واتباعه لمعتقداته بدلیل ردوده علی الوراق.

لقد كان اتهام الخصوم بالإلحاد والزندقة أمراً شائعاً سواء بین المعتزلة أو بین الفرق الإسلامیة الأخری، ولایعتد دائماً بمثل هذا الاتهام، وعلی سبیل المثال قد اتهم القاضي عبد الجبار الهمداني الشیعة بالإلحاد وقال: «الأصل فیهم الإلحاد، ولكنهم تستّروا بهذا المذهب» (الشریف المرتضی، 3).

ویقول الشریف المرتضی أیضاً وأما حال ابن الراوندي في نصرة الإلحاد وتألیف الكتب التي أدت لذمه ولومه فإنه كان یقصد المعارضة والتحدي للمعتزلة، وقد تقدم علیهم في هذا السبیل، ولو أن المعتزلة امتنعوا عن معاداته، لما كتب كتباً في فضائحهم، ولم یكشف معایبهم (ن.ص) «لأن القوم كانوا أساؤوا عشرته واستنقصوا معرفته، فحمله ذلك علی إظهار هذه الكتب لیبین عجزهم عن استقصاء نقضها وتحاملهم علیه في رمیه بقصور الفهم والغفلة وقد كان یثبرأ منها تبرؤاً ظاهراً وینتفي من عملها ویضیفها إلی غیره، ولیس یشك في خطئه بتألیفها سواء اعتقدها أم لم یعتقدها» (م.ن، 13).

ثم یقول الشریف المرتضی: وما صنع ابن الراوندي من ذلك إلا ما صنع الجاحظ مثله أو قریباً منه، ومن جمع بین كتبه التي هي العثمانیة والمروانیة والمروانیة والعباسیة والإمامیة وكتاب الرافضة والزیدیة رأی من التضاد واختلاف القول ما یدل علی شك عظیم وإلحاد شدید وقلة تفكر في الدین. ولیس لأحد أن یقول إن الجاحظ لم یكن معتقداً لما في هذه الكتب المختلفة وإنما حكی مقالات الناس وحجاجهم ولیس علی الحاكي جریرة ولایلزمه تبعة ولأن هذا القول إن قنع به الخصوم فلیقنعوا بمثله في الاعتذار، فإن ابن الراوندي لم یقل في كتبه هذه التي شنع بها علیه أنني اعتقد المذاهب التي حكیتها وأذهب إلی صحتها، بل كان یقول: «قالت الدهریة وقال الموحدون وقالت البراهمة وقال مثبتو الرسول»، فإن زالت التبعة عن الجاحظ في سب الصحابة والأئمة والشهادة علیهم بالضلال والمروق عن ‌الدین بإخراجه كلامه مخرج الحكایة، فلیزولن أیضاً التبعة عن ابن الراوندي بمثل ذلك (ن.ص).

وكلام الشریف المرتضی هذا مهم جداً، إذ یتبین منه أن ابن الراوندي لم یعبر عن رأیه فیما ذكره في الكتب التي تنقض القرآن والنبوة مثل الدامغ ونَعت الحكمة والتاج والزمردة، بل نقل أقوال الآخرین فحسب، ومع أن القیام بمثل هذا مرفوض عند المسلمین، إلا أنه یخفف من ذنب ابن الراوندي والتشنیع علیه وذمه. ولعدم توفر أي من كتب ابن الراوندي فلابد من الاعتماد علی كلام الشریف المرتضی، وهو علی كل حال عالم ثقة.

ویؤید كلام الشریف المرتضی موضوعٌ كتَبَه أحد دعاة الإسماعیلیة في نقض كتاب الزمردة لابن الراوندي، رواه المؤید في‌ الدین داعي الدعاة الشیرازي في المجالس المؤیدیة. وإن كان ذاك الداعي الإسماعیلي علی مایبدو –استناداً إلی ما وصل إلیه پاول كراوس– هو داعي الدعاة نفسه (ص 158). ویروي داعي الدعاة عن الداعي الإسماعیلي الذي نقض كتاب الزمردة: «وقعت إلینا رسالة عملها ابن الراوندي وسماها الزمردة ونسبها إلی البراهمة في دفع النبوات، وذكر فیها حججاً یحتج بها مثبتوها في إثباتها، وحججاً یحتج بها نافوها في نفیها، فوقع الغنی عن إعادة قول المثبتین الذین هم إخواننا في الدین، ووجب اقتصاص أقوال النافین والإجابة عنهم» (م.ن، 80).

ویُرجع پاول كراوس (ص 121) اشتهار البراهمة بنكرانهم للنبوة إلی ما نسبه إلیهم ابن الراوندي في كتابه الزمردة، وإن اشتهار هم في العالم الإسلامي كمنكرین للنبوة، قد حدث بعد تألیف هذا الكتاب (م.ن،136 وما بعدها).

بالإضافة إلی نقض الداعي الإسماعیلي كتب أبو علي الجبائي المعتزلي المشهور كتاباً أیضاً في نقض الزمردة أشار إلیه القاضي عبد الجبار الهمداني في كتاباً أیضاً في نقض الزمردة أشار إلیه القاضي عبد الجبار الهمداني في كتاب المغني (15/127). وقد خصص عبد الجبار في هذا الكتاب فصلاً كبیراً في بیان شبهات البراهمة والرد علیها، اقتبس دون شك شبهات البراهمة من كتاب الزمردة (15/109 ومابعدها). ولم یكن هذا الفصل المهم من كتاب الزمردة موجوداً عند پاول كراوس لیستفید منه، كما لم یذكره عبد الأمیر الأعسم أیضاً في كتابه الممتع تاریخ ابن الریوندي الملحد، إلا أن مسائل ومنقولات أخری من كتاب الفرید وكتاب الدامغ لابن الراوندي جاءت في الجزء 16 من المغني (القاضي عبد الجبار، «المغني»، 2/423-443).

ویروي القاضي عبد الجبار، شبهةً عن أبي عیسی الوراق وابن الراوندي حول المعجزات (المغني، 16/411)، ونسبها الماتریدي إلی أبي عیسی الوراق فقط وروی نقضها عن ابن الراوندي (ص 187)، وهذه الشبهة هي عینها التي نقلناها آنفاً ومفادها أن الناس بما أنهم لایعلمون طبائع العالم، فإنهم یتصورون ما فعله الأنبیاء معجزة، ویعني أو معجزات الأنبیاء لیست مسألة خارجة عن طبیعة الأشیاء وعلی هذا لایمكن اعتبارها دلیلاً علی نبوتهم (ن.ص).

والمسألة المهمة جداً هنا هي أن القاضي عبد الجبار نسب هذه الشبهة إلی الوراق وإلی ابن الراوندي أیضاً، أما الماتریدي فقال: إن ابن الراوندي نقضها ونقض أمثالها. فكیف یمكن حل هذا التناقض؟ الجواب هو أن الحق مع الماتریدي، لأنه عاش في القرن 4هـ وشاهد كتب ابن الراوندي، أما القاضي عبد الجبار فإنه لاینقل أقوال ابن الراوندي عن كتبه مباشرة، وإنما یعتمد علی الردود والنقوض التي كتبها خصومه أمثال أبي علي الجبائي أو أبي هاشم الجبائي، ولهذا قال في نقل الشبهة المذكورة: «وقد حُكي عن أبي عسی الوراق وابن الراوندي» (المغني، 16/411).

ومن هنا نصل إلی نتیجة أخری هي أن المعتزلة لم یلتزموا جانب الحیاد والأمانة تجاه ابن الراوندي لسخطهم الشدید علیه وأرادوا أن یُظهروا مثل هذا الخصم ملحداً. أما الماتریدي فلم یعمل ذلك لأنه لم یكن من المعتزلة ولم یكن متعصباً. كما أن الشریف المرتضی العالم الشیعي الذي كان مخالفاً للقاضي عبد الجبار وللمعتزلة لم یعتبره ملحداً ومن هنا فإن الشك والتردید یدوران حول ما نقله القاضي عبد الجبار والمتأخرون من كتاب الدامغ لابن الراوندي، ویبدو أن مواضیع كتاب الدامغ لم تكن من معتقدات ابن الراوندي نفسه، بل كانت نقلاً لمعتقدات منكري النبوة والمعجزات. كما هو الأمر في كتاب الزمردة. والمسألة الأخری الجدیرة بالاهتمام هي أن الشریف المرتضی قال في الشافي إنه كانت هناك عداوة بین أبي عیسی الوراق وبین ابن الراوندي وهذا ما یتعارض مع ما قاله المعتزلة عن علاقة الأستاذیة والتتلمذ بینهما. ویقول الشریف المرتضی: «فأما أبو عیسی الوراق فإن التثنیة (أي المانویة) مما رماه بها المعتزلة وتقدمهم في قذفه بها ابن الراوندي لعداوة كانت بینهما وكانت شبهته في ذلك وشبهة غیره تأكید أبي عیسی لمقالة الثنویة في كتابه المعروف بالمقالات وإطنابه في ذكر شبهتهم، وهذا القدر إن كان عندهم دالاً علی الاعتقاد فلیستعملوه في الجاحظ وغیره ممن أكد مقالات المبطلین، ومحضها وهذبها» (ص 13). وبالنظر إلی القضایا المذكورة یتبین مدی صعوبة تقدیم صورة حقیقیة عن شخصیة كابن الراوندي.

وما یثیر الاهتمام هنا هو أسلوب الأشعري. فقد روی أبو الحسن علي ابن إسماعیل الأشعري (تـ 324هـ/936م) معتقدات ابن الراوندي في كتاب مقالات الإسلامیین بأسلوبه المعتاد دون أن ینحاز أو یبدي رأیاً، وسنذكر بعض مایعود منها إلی فترة اعتزاله. وقد وصف ابن الراوندي بـ «اللعین» في موضع واحد فقط من هذا الكتاب (ص 572)، ولیس هذا أسلوب الأشعري، لأنه لم یلوث لسانه في هذا الكتاب بالسب ولاشتم، ولهذا السبب یمكن أن تكون كلمة «اللعین» من إضافات الناسخین والكتّاب المتعصبین. وینقل الأشعري عن ابن الراوندي في هذا الموضع: «إن طوائف من المنتحلین للتوحید قالوا: لایتم التوحید لموحد إلا بأن یصف البارئ سبحانه بالقدرة علی الجمع بی الحیاة والموت والحركة والسكون… وأن یجعل الدنیا في بیضة، والدنیا علی كبرها والبیضة علی صغرها… وأن یجعل المحدثات قدیمة والقدیم محدثاً»، وبعد أن ینقل هذا الكلام یقول الأشعري: «وهذا قول لم نسمع به قط ولا نری أن أحداً یقوله، وإنما دلّسه اللعین (ابن الراوندي) لیعتقده من لامعرفة له ولاعلم عنده». ولایمكن أن یون قد صدر مثل الكلام الأخیر هذا عن الأشعري، فبالإضافة إلی عدم كون السب والتقبیح أسلوب الأشعري، فإن المسألة نفسها غیر منطقیة، إذما یجني ابن الراوندي من أن یعتقد الناس العوام بأن الله قادر علی الجمع بین الأضداد حتی یضع هذا الحدیث؟!

ثم إن مسألة تعلق قدرة الله بالمحال والجمع بین الأضداد من المباحث الكلامیة. ویروي الأشعري نفسه في كتاب مقالات الإسلامیین عن أبي الحسین وأبي الهذیل قائلاً: «ووصفا ربّهما بالقدرة علی أن یجمع بین القطن والنار ولایقع إحراق» (ص 569) وهذا هو عین الجمع بین الأضداد. وروی أیضاً عن صالح وأبي الحسین أن الله قادر علی أن یجمع بین العلم والقدرة والموت، وكما هو معلوم فإن العلم والقدرة هما ضد الموت (ن.ص).

وقد جاء في أحادیث الإمامیة أیضاً أن احد الأئمة‌(ع) سئل: هل یقدر الله علی أن یجعل الدنیا في بیضة، ولا تصغر الدنیا ولا تكبر البیضة؟ فقال الإمام في الجواب: إن هذا هو مثل أن تنعكس الجبال الكبیرة في عینك، فإنك تری الدنیا بالعین من دون أن تكبر عینك أو أن تصغر الجبال أو الدنیا (ابن بابویه، 122). وبناءً علی هذا فلابد أن هذا القسم لم یصدر عن الأشعري، كما أشیر، وإنما أُلحق بكتابه.

ویقول ابن عساكر إن الأشعري ألف كتاباً نقض به علی ابن الراوندي في إبطال علی التواتر ونقض ما قاله الطاعنون علی التواتر (ص 135). وإن صح انتساب هذا الكتاب للأشعري، فإنه یثیر الدهشة، لأن ابن الراوندي، وكما نقل عن الماتریدي، نقض معتقدات الوراق في إنكار التواتر، فكیف یمكن أن ینكر التواتر؟! ویذكر ابن الندیم في الفهرست كتاباً لابن الراوندي اسمه كتاب الأخبار والرد علی من أبطل التواتر ویبدو أن روایات الماتردیدي عن ابن الراوندي حول التواتر تستند إلی هذا الكتاب. فلو كان ابن الراوندي ألف كتاباً آخر حول إبطال التواتر، لذكره ابن الندیم.

ومن بین معتقدات ابن الراوندي كما ذكرها الأشعري في المقالات (ص 160) «أن الأشیاء إنما هي أشیاء إذا وُجدت ومعنی أنها أشیاء أنها موجودات، وكذلك كل اسم لأشیاء لاتتعلق بغیرها وهو رجوع إلیها وخبر عنها فلایجوز أن تسمی به قبل وجودها ولا في حال عدمها». وهذا بحث منطقي دقیق یتطلب دراسة وافیة.

وتتعلق هذه المسألة نفسها بعلم الله وتثیر مشكلة، لأن الشيء إذا أطلق علی الموجود فقط، فیجب أن لایعلم الله بما هو لم یوجد بعد، ولیس شیئاً. ویقول ابن الراوندي في حل هذا الإشكال: «إن الله سبحانه لم یزل عالماً بالأشیاء، علی معنی أنه لم یزل عالماً أن ستكون أشیاء (أو الموجودات)» وهكذا أیضاً قدرة الله علی الأشیاء، «فإن المقدورات مقدورات لله قبل كونها» وكذلك تعني إرادة الله علی الأشیاء أن ستكون لله إرادة علیها (الأشعري، 159-160)، ویؤدي كلام ابن الراوندي هذا إلی أن الله لایعلم بشيء مالم یكن موجوداً كائناً. وینسب ابن الندیم (ص 217) كتاباً إلی ابن الراوندي اسمه كتاب لا شيء إلا موجود تطرق فیه كما یبدو إلی ما أشرنا إلیه.

ولایری ابن الراوندي لـ «الكفر والإیمان» معنی شرعیاً وما یسمی بالحقیقة الشرعیة. ویقول لایكون الإیمان والكفر إلا ماكان في اللغة إیماناً وكفراً. فالإیمان یعني التصدیق والكفر یعني الجحود. وتكون المحصلة العملیة لهذا البحث أن الكفر لایصدق علی ما لم یكن الجحود صریحاً ولایمكن اعتبار صاحبه كافراً، فلایجوز مثلاً تكفیر الفلاسفة بسبب اعتقادهم بقدم العالم. وحتی أن السجود للشمس لیس بكفر علی قول ابن الراوندي، لأن الجحود فیه لیس صریحاً، ولكنه عَلَمٌ علی الكفر، لأن الله عزوجل بیّن أنه لا یسجد للشمس إلا كافر (الأشعري، 140-141).

وكان ابن الراوندي یعتقد: أن الأشیاء التي یمیل إلیها الإنسان بطبعه، لاحاجة إلی أن یخلق الله في الإنسان محركاً وباعثاً (وعلی قول القدماء «خاطراً») للعمل بها، وأما إذا كانت من الأمور التي تكرهها طبیعة الإنسان (كالصوم والزكاة)، فیجب أن یخلق الله في الإنسان «خاطراً» أو أمراً نفسیاً لیكون باعثاً ومحركاً للعمل بذلك وإتیانه. ویبدو أن قصد ابن الراوندي هو أن مجرد الأمر والنهي لایكفیان لحمل الإنسان علی أداء عمل أو تركه، وإنما یجب أن یُخلق في النفس الإنسانیة باعث ومحرك علی ذلك وبالطبع فإن هذا المحرك والدافع أو الخاطر هو غیر الثواب والعقاب.

إن البحث حول معتقدات ابن الراوندي (في فترة اعتقاده بالاعتزال) یتطلب مجالاً أوسع، وكذلك البحث في معتقداته حول الإمامة وهل كان یمیل إلی التشیع أم لا؛ كما یحتاج البحث في معتقداته في الفترة التي ألف فیها كتباً للفرق الأخری عن كلامهم بسبب الفقر والفاقة الشدیدة، إلی رسالة مستقلة وعسی أن تفي الإشارات في هذا المقال للكشف عن الخطوط الأساسیة لتفكیره في مختلف مراحل حیاته الفكریة.

 

المصادر

ابن أبي أصیبعة، أحمد، عیون الأنباء، تقـ: أوغوست مولر، القاهرة، 1299هـ/1882م؛ ابن أیبك، أحمد، المستفاد من ذیل تاریخ بغداد، تقـ: قیصر أبوفرح، بیروت، 1391هـ/1971م؛ ابن بابویه، محمد، التوحید، طهران، 1387هـ؛ ابن تغري بردي، النجوم؛ ابن الجوزي، عبد الرحمن، المنتظم، حیدرآباد الدكن، 1357هـ؛ ابن حزم، علی، طوق الحمامة، تقـ: صلاح ‌الدین القاسمي، تونس، 1985م؛ ابن خلكان، وفیات؛ ابن الراوندي، أحمد، فضیحة المعتزلة، تقـ: عبد الأمیر الأعسم، بیروت، 1975-1977م؛ ابن شحنة، محمد، «روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر»، علی هامش الكامل لابن الأثیر، القاهرة، 1301هـ؛ ابن شهرآشوب، محمد، معالم العلماء، تقـ: محمد كاظم الكتبي، النجف، 1380هـ/1961م؛ ابن عساكر، علي، تبیین كذب المفتري، دمشق، 1347هـ؛ ابن العماد، عبد الحي، شذرات الذهب، القاهرة، 1350هـ؛ ابن كثیر، البدایة؛ ابن المرتضی، أحمد، المنیة والأمل في شرح الملل والنحل، تقـ: محمد جواد مشكور، بیروت، 1399هـ/ 1979م؛ ابن النجار، محمد، ذیل تاریخ بغداد، تقـ: قیصر أبو فرح، بیروت، 1399هـ/1979م؛ ابن الندیم، الفهرست؛ ابن الوردي، زین‌ الدین عمر، تتمة المختصر، تقـ: أحمد رفعت البدراوي، بیروت، 1970م؛ أبو الحسين الخیاط، عبد الرحیم، الانتصار والرد علی ابن الروندي الملحد، تقـ: هـ.ص. نیبرغ، القاهرة، 1925م؛ أبوحیان التوحیدي، علي، البصائر والذخائر، تقـ: أحمد أمین وأحمد صقر، القاهرة، 1373هـ/1953م؛ م.ن، الهوامل والشوامل تقـ: أحمد أمین وأحمد صقر، القاهرة، 1370هـ/1951م؛ أبو العلاء المعري، أحمد، رسالة الغفران، تقـ: عائشة عبد الرحمن، القاهرة، 1388هـ/1969م؛ أبو الفداء، إسماعیل، المختصر في أخبار البشر، بیروت، 1959م؛ الأشعري، علي، مقالات الإسلامیین، تقـ: هلموت ریتر، فیسبادن، 1400هـ؛ الأعسم، عبد الأمیر، ابن الریوندي في المراجع العربیة الحدیثة، بیروت، 1398هـ/1978م؛ إقبال، عباس، خاندان نوبختي، طهران، 1357ش؛ أمین، أحمد وأحمد صقر، حاشیة علی الهوامل والشوامل (ظ: همـ، أبو حیان)؛ حاجي خلیفة، كشف؛ حمد الله المستوفي، تاریخ گزیده، تقـ: عبد الحسین نوائي، طهران، 1362ش؛ الذهبي، محمد، دول الإسلام، بیروت، 1405هـ/1985م؛ م.ن، سیر أعلام النبلاء، تقـ: شعیب الأرنؤوط وأكرم البوشي، بیروت، 1406هـ/1986م؛ الشریف المرتضی، علي، الشافي، طهران، 1301هـ؛ الصفدي، خلیل، الوافي بالوفیات، تقـ: محمد یوسف نجم، بیروت، 1391هـ/1971م؛ الطوسي، محمد، الفهرست، تقـ: محمود رامیار، مشهد، 1351ش؛ العباسي، عبدالرحیم، معاهد التنصیص، بولاق، 1274هـ؛ القاضي عبد الجبار بن أحمد، تثبیت دلائل النبوة، تقـ: عبد الكریم عثمان، بیروت، 1966م؛ م.ن، المغني، ج 15، تقـ: محمود الخضیري وآخرون، القاهرة، 1385هـ/1965م،ج 16، تقـ: أمین الخولي، 1380هـ/1960م؛ م.ن، «المغني»، ابن الریوندي في المراجع…، تقـ: عبد الأمیر الأعسم، بیروت، 1399هـ/1979م؛ كراوس، پاول، من تاریخ الإلحاد في الإسلام، تجـ: عبد الرحمن بدوي، القاهرة، 1945م؛ الماتریدي، محمد، كتاب التوحید، تقـ: فتح ‌الله خلیف، بیروت، 1970م؛ المسعودي، علي، مروج الذهب، تقـ: باربیه دومینار، باریس، 1873م؛ المقدسي، مطهر، البدء والتاریخ، تقـ: كلمان هوآر، باریس، 1916م؛ نیبرغ، هـ. صاموئیل، مقدمة الانتصار (ظ: همـ، أبو الحسين الخیاط)؛ الیافعي، عبد الله، مرآة الجنان، حیدرآباد الدكن، 1337-1339هـ؛ وأیضاً:

Al-A’asam, A. A., introd. Fadihat al- Mu’tazilah (vide; PB, Ibn ar-Rāwandi); EI2; Gabrieli, Francesco, «Ln zandaqa, au Ier siécle abbasside», L’élaboration de l’Islam, Paris, 1961; Guidi, Michelangelo, La lotta tra l’Islam e il Mancheismo, Rome, 1927; Kraus, P., «Beiträge zur islamischen Ketzergeschichte», RSO, Rome, 1934, vol. XIV; Nyberg, H. S., «cAmr ibn ‘Ubaid et Ibn al-Rawendi deux réprouvés», Classicisme et déclin culturel dans l’histoire de l’Islam, Paris, 1957; Van Ess, Josef, Die Erkennunislehre des cAdudaddin al-Ict, Eiesbaden, 1966.

عباس زریاب/ ج.

الصفحة 1 من2

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: