الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / التاریخ / ابن خلدون، أبوزید /

فهرس الموضوعات

ابن خلدون، أبوزید

ابن خلدون، أبوزید

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/7 ۰۹:۰۱:۱۵ تاریخ تألیف المقالة

واعتزم الحج بعد ثلاث سنوات من إقامته في مصر، فغادر القاهرة في منتصف رمضان 789، ثم عاد إلیها في جمادی الأولی من العام التالي بعد أدائه الفریضة، وحضر لدی السلطان فعهد إلیه في محرم 791 التدریس في مدرسة صلغتمش (صرغتمش) لتعویض حرمانه من التدریس في الظاهریة (ن.م، 293-311)، كما ولّاه في نفس العام خانقاه بیبرس، لكنه عُزل بعد عام أو أكثر لاتفاقه مع عدد من الفقهاء علی إصدار فتوی تجیز قتال الملك الظاهر، وكان ذلك بمكیدة دبرها بعض الأمراء الذین نُحوّا عن السلطة (ن.م، 311-331؛ ابن الفرات، 9(1)/160)، إلا أنه كسب ودّ السلطان ثانیة بعد أن مدحه ببعض الأبیات (ابن خلدون، التعریف، 331-335). ویبدو أنه انتهز فرصة عزله التي استمرت حتی عام 797 أو 799هـ لإعادة النظر في المقدمة وإكمال العبر وكتابة تاریخ حیاته (الحصري، 131).

وفي منتصف رمضان 801 عینه السلطان محل قاضي القضاة المالكي ناصر الدین التنسي الذي توفي في تلك الفترة. توفي السلطان في منتصف شوال من نفس العام وخلفه ولده ناصر الدین فرج، المعروف بالناصر. وأدی تنافس الفقیه المالكي نور الدین ابن الخلّال علی منصب قاضي قضاة المالكیة ودفعه للمال في هذا السبیل إلی عزل ابن خلدون عن قضاء المالكیة (منتصف محرم 803) وانصرافه مرة أخری إلی التدریس والتألیف (ابن خلدون، ن.م، 350).

ویبدأ آخر حدث سیاسي في حیاة ابن خلدون منذ منتصف ربیع الأول 803، فقد وجد نفسه في هذا التاریخ مضطراً لمرافقة ناصر الدین فرج، سلطان مصر في سفره إلی الشام. وقد كان في دمشق عند محاصرة تیمور لها. والتقی ابن خلدون تیمور بعد اجتماع رأي قضاتها علی ذلك (ظ: ن.م، 368-379). ویقول حاجي خلیفة إن ابن خلدون رافق تیمور إلی سمرقند (1/278)، وهذا لایتفق مع الواقع التاریخي. كما أن ما ذكره من تحایل ابن خلدون في الفرار من قبضة تیمور لایتفق مع روایة عجائب المقدور (ابن عربشاه، 210-211؛ قا: فیشل، 7). ویبدو أن تیمور سمح له بالعودة إلی مصر. واعترض طریق عودته قطاع الطرق الذین سلبوا كل ما لدیه، ووصل إلی القاهرة في شعبان 803 (ابن خلدون، التعریف، 378-380).

ولاتتفق أقوال ابن عربشاه (ص 61، 103، 210-211) حول اجتماع ابن خلدون بتیمور مع أقوال ابن خلدون نفسه الذي شرح في كتاب أرسله من مصر إلی سلطان المغرب قصة لقائه هذا (التعریف، 380-383). وبما أن ابن عربشاه لم یكن قد شاهد تلك الأحداث عن كتب، فلایمكن تأیید الفقرات التي تتعارض مع ما ورد علی لسان ابن خلدون نفسه (ظ: فیشل، 5-6).

وبعد أیام من عودته إلی مصر عُیّن ثالثة بمنصب قاضي قضاة المالكیة، لكنه نُحّي عنه بعد سعایات بعضهم وحلّ محله جمال ‌الدین البساطي، وعُهد إلیه بهذا المنصب ثلاث مرّات أخری (ابن خلدون، ن.م، 383-384). وفیما كان یتولی منصب قاضي قضاة المالكیة بمصر، وافاه الأجل وهو في الثامنة والسبعین من العمر، ودفن في مقبرة الصوفیة خارج باب النصر بالقاهرة (السخاوي، 4/146). وذكر إبراهیم بن أحمد الباعوني (تـ 870هـ/1466م) أنه توفي في 807هـ (المقري، 6/192)، لكنه تاریخ غیر دقیق.

 

أساتذته وتلامذته وأحكام المعاصرین له

درس ابن خلدون علی ثلاث فئات من العلماء: 1. أبیه وأساتذة الحلقة وشیوخ تونسیین آخرین قبل 748هـ؛ 2. علماء مجلس السلطان أبي الحسن المریني منذ استیلائه علی تونس وحتی 752هـ؛ 3. علماء المغرب والأندلس الذین أخذ عنهم بعد التحاقه بأبي عنان في فاس، أي بعد 754هـ.

وقد ذكر بنفسه بعض أساتذته من الطائفة الأولی وهم: أبو عبد الله محمد بن سعد بن بُرّال الأنصاري في القراءة والحدیث والفقه، وأبو عبد الله محمد بن العربي الحصایري في النحو، وأبو عبد الله محمد بن الشواش الزرزالي، وأبو العباس أحمد بن القصّار في النحو، وأبو عبد الله محمد بن بحر في الأدب والعربیة، وأبو عبد الله محمد بن جابر القیسي الوادي آشي في الحدیث والفقه، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الجیاني، وأبو القاسم محمد القصیر، وقاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن عبد السلام في الفقه (التعریف، 15-19).

ومن أساتذته في الطائفة الثانیة، الفقیه أبو عبد الله محمد بن سلیمان السطّي وأبو محمد بن عبد المهیمن الحضرمي المحدث والنحوي، وأبو العباس أحمد الزواوي في القراءة، وأبو عبد الله محمد بن إبراهیم الآبلي في علوم المعقول، وأبو القاسم عبد الله بن یوسف ابن رضوان المالقي كاتب السلطان (ن.م، 19-23، 31-44؛ قا: السخاوي، 4/145). وكان في مجلس السلطان أبي الحسن علماء كبار آخرون لم یكونوا أساتذة ابن خلدون، إلا أنهم تركوا من الأثر علی فكره ما دعاه إلی وصفهم بأصدقائه وذكر أسماءهم وترجم لهم بشكل مجمل (ظ: ن.م، 44-45).

ومن أساتذة الطائفة الثالثة الذین ذكرهم ابن خلدون: أبو عبد الله محمد بن الصفار المراكشي في القراءة، وقاضي قضاة فاس أبو عبد الله محمد المقّري التلمساني في الفقه، وأبو البركات ابن الحاج البلفیقي في أنواع المعارف وآداب مصاحبة الملوك، وأبو عبد الله محمد بن أحمد الشریف الحسني التلمساني في المعقول والمنقول، والقاضي أبو القاسم محمد بن یحیی البَرجي الأندلسي كاتب ومنشئ السلطان وأبو عنان وشیخ الرحّالة أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق الفاسي في القراءة والحدیث (ن.م، 59-66). وخصّص ابن خلدون ما یقرب من 50 صفحة من كتاب التعریف (ص 15-66) لأسماء شیوخه وتراجمهم، وقد تحدث عنهم باحترام وإجلال. ویری طه حسین أن هدف ابن خلدون من ذلك إضفاء صبغة الوثائقیة علی معلوماته أمام خصومه الأزهریین، لكن یرجح أنه إنما قام بذلك حباً لأساتذته وتقدیراً له منهم (نصار، 29). وتؤید كتب التراجم والطبقات – عدا حالة واحدة– صحة أحكام ابن خلدون في أساتذته (الطنجي، مقدمة التعریف، «كد»).

ولایقدم ابن خلدون أي معلومات عن تلامذته، كما لاتضم المصادر الأخری معلومات وافیة في هذا المجال. ویجب أن یكون له عدد كبیر من التلامذة لأنه لم یقعد عن التدریس حتی حینما كان منهمكاً في الأعمال السیاسیة، وعدّ السخاوي عدداً من المصریین الذین أخذوا عن ابن خلدون: المقریزي وابن عماد الأقفهسي وابن حجر العسقلاني (4/148). واستجاز منه ابن حجر وآخرون (ابن خلدون، مقدمة، 1/553)، وصحبه آخرون كالباعوني خلال إقامته بالقاهرة وأفادوا منه (المقري، 6/192).

ورغم أن ابن خلدون لم یكشف النقاب عن العلوم التي قام بتدریسها –مثل الكثیر من تفاصیل حیاته المهمة– لكن یمكن أن نستشف من خلال ما أورده حول المدارس التي درّس فیها أنه كان یدرس العلوم الدینیة خلال التدریس الرسمي لاسیما الفقه (ظ: السخاوي، 4/164؛ مهدي، 70-71)، ذلك لأن صلاح ‌الدین الأیوبي وقف المدرسة القمحیة لتدریس الفقه المالكي (ابن خلدون، التعریف، 279)، كما أنه عِيّن في المدرسة الظاهریة لتدریس ذلك الفقه (ن.م، 286). وتولی أیضاً تدریس الحدیق في مدرسة صلغتمش (نم،293)، كان یدرس فیها الموطأ (ن.م، 297-311). وما سمعه المقریزي عنه حول كتاب العبر (ظ: السخاوي، ن.ص)، لم یسمعه في تلك المدارس، بل خلال مجالس دروس غیر رسمیة (ظ: مهدي، 71).

خضع ابن خلدون لتقییم معاصریه والمؤلفین القریبین من عصره علی شتی الأصعدة، فقد وصفه صدیقه ابن الخطیب بكثیر من الصفات الحمیدة واعتبره متقدماً في فنون عقلیة ونقلیة وأنه مفخرة من مفاخر التخوم المغربیة (المقري، 6/171)، ورأی محمد بن محمد بن عرفة أنه لاتتوفر فیه شروط القضاء (السخاوي، 4/146)، لكن یجب أن نعرف أن هذا الحكم إنما جاء علی لسان خصمه في تونس، وأثار سلوك ابن خلدون طیلة إقامته في مصر كثیراً من المعارضات: فتعصبه لزیّه المغربي حتی أثناء القضاء (م.ن، 4/148)، وعدم العمل بما هو متعارف بین قضاة زمانه، وشدته في تطبیق القانون علی الأعیان من أصحاب الدعوی والشهود، وتعزیراته الشدیدة (م.ن، 4/146)، ومضاهاته للعلماء المصریین في القضاء والتدریس، هذه كلها ساعدت علی ظهور وجهات نظر سلبیة حوله في المشرق، حتی ثارت الشكوك حول مكانته العلمیة، وقیل إن ابن الخطیب ورغم كل المحاسن التي نسبها إلیه، لم یصفه بعلم، كما قیل أیضاً إنه كان عریاً عن العلوم الشرعیة، وله معرفة بالعلوم العقلیة من غیر تقدم فیها (م.ن، 4/147). وفسّروا احتفاظه بزیّه المغربي لمحبته المخالفة في كل شيء. كما اتهمه البعض بالفسق وفساد العقیدة وقالوا: إنه ذكر الحسین بن علي‌(ع) في تاریخه فقال: قُتل بسیف جده، لهذا كانوا یلعونه (ابن حجر، 2/347؛ السخاوي، 4/147)، غیر أن ابن حجر العسقلاني (ن.ص) قال «لم توجد هذه الكلمة في التاریخ الموجود الآن. وكان ذكرها في النسخة التي رجع عنها» وكان المقریزي یفرط في تعظیمه لكونه یجزم بصحة نسب العلویین الفاطمیین. غیر أن السخاوي یری أن المقریزي غفل عن مراد ابن خلدون: فابن خلدون لانحرافه عن آل علي‌(ع) یثبت نسب الفاطمیین إلیهم لما اشتهر من سوء معتقد الفاطمیین (4/147-148).

وأثنی المقریزي وابن حجر والأقفهسي والباعوني –وهم من علماء مصر الذین عاصروا ابن خلدون– علی مكانته العلمیة وسلوكه، وربما یعود ذلك لاختلاط أكثرهم به والانتفاع من محضره. وصف المقریزي مقدمته بأنه لم یُعمل مثالها وأنه لعزیز أن ینال مجتهد منالها، وأنها زبدة المعارف والعلوم ونتیجة العقول السلیمة والفهوم (ابن حجر، ن.ص). وعدّ ابن حجر مجلدات تاریخه السبعة بأنها ظهرت فیها فضائله وأبان عن براعته. وكان ابن حجر قد اجتمع به مراراً وسمع من فوائده ومن تصانیفه خصوصاً في التاریخ، وقد وصفه بأنه كان لسناً فصیحاً بلیغاً حسن الترسل وسط النظم مع معرفة تامة بالأمور خصوصاً متعلقات المملكة (ظ: السخاوي، 4/148)، كما مدحه الحافظ الأقفهسي (ن.ص). ووصفه الباعوني –الذي كان یكثر الاجتماع به وتربطه به مودة –بأنه من عجائب الزمان ومتبحر في العلوم النقلیة والعقلیة (المقري،/192). ووصفه ابن عربشاه عند ذهابه إلی تیمور بدمشق بأنه عالم مالكي، حلو الحدیث، حسن العشرة، ذو عمامة صغیرة وبُرنُس أنیق وهیئة ظریفة (ص 102).

وتشیر الآراء المتناقضة التي أبداها أولئك الذین عاصروه خلال الفترة الأخیرة من حیاته، إلی طبیعة حیاته الداخلیة والخارجیة خلال العقدین أو الثلاثة الأخیرة من عمره، فهو بالرغم من غرامه بمصر والقاهرة عن بُعد، وعظمة مصر التي شاهدها عن كثب، إلا أنه كلما ازداد معرفة بالطبائع المصریة، كلما وقف أكثر فأكثر علی عوامل الانحطاط والفساد هناك. واعتبر البعض هذه الحقیقة سبباً في نزوعه المتعصب نحو العادات المغربیة، لأنه قد اختار بساطة المغرب وخشونتها علی فساد الحیاة المصریة المترفة (مهدي، 80). ورغم هذا فقد وجد في مصر الهدوء وطابت نفسه فیها وتمكن من إغناء فكره بمعلومات جدیدة. لهذا لم یقطع نفسه منها ولم یستسلم لها استسلاماً مطلقاً، وتحوّل فیها إلی مفكر ناضج بعیداً عن مغامرات المرحلة السابقة. ورغم أنه لم یكن یرغب في قطع علاقته بالماضي إلا أنه استساغ أیضاً الحیاة المترفة الهادئة في مصر (م.ن، 80-81).

وكان ركونه إلی الهدوء في مصر المقترن بالزهد بعیداً كل البعد عما كان علیه في أيام شبابه في حدائق الحمراء (لاكوست، 221)، فهو الذي امتطی صهوة العلم والعمل السیاسي منذ أن كان في العشرین من عمره، نراه یتحول إلی رجل علم وفكر بمجرد أن یتخلی عن السیاسة وصخبها ورغم انشغاله بتدریس العلوم الرسمیة، غیر أن الذي كان یشغل باله في عمله العلمي والفكري، هو البحث عن أجوبة للألغاز التي تثار في الماضي والحاضر، وقد وجد أن تلك الأجوبة لایمكن الحصول علیها إلا من خلال دراسة حیاة المجتمع البشري طوال الزمان، أي التاریخ، وقد انشغل باله في هذه القضیة حتی تجلت في النهایة أروع مظاهر فكره علی هذا الصعید.

اشتهر ابن خلدون في عصره بكتابة التاریخ والتفكر فیه، ورغم تأثیره في زیادة الاهتمام بتاریخ مصر في القرنین 8 و9هـ/14 و15م (روزنثال، «ابن خلدون»، 1/36)، إلا أنه لم یكن لأفكاره في عصره انعكاسات كافیة، ولم یحاول أي من المؤرخین –حتی من تلامذته– مواصلة جهوده في هذا الطریق، لكن تلك الأفكار الرائعة والعمیقة قد حظیت بالاهتمام في مكان وزمان آخرین. ومنذ القرن المنصرم (13هـ/19م) طرح اسمه وآثاره وأفكاره بشكل واسع، واستوعبها كثیر من البحوث.

ویرافق تناول شخصیة ابن خلدون في العصر الحالي عدد من الآراء المختلفة یمكن تصنیفها إلی مجموعتین: موافقة ومعارضة. والانتقاد الشدید الموجّه إلیه هو تكرار تغییر موقفه السیاسي خلال المرحلة الثانیة من حیاته. وینبئ تاریخ حیاته الذي خلّفه عن تغییره السریع لولي نعمته بمجرد تغیر الأوضاع، أو تنصّله من حلیفه بالأمس وتحالفه مع خصم أقوی لمهاجمته، أو الاشتراك في الدسائس الخفیة لبلاطات المغرب، أو النزوح إلی مكان آخر عندما یجد الأوضاع في موطنه أو محل خدمته غیر مناسبة. ومثل هذه التصرفات دفعت بالبعض إلی اعتباره رجلاً انتهازیاً (عنان، 31)، محباً للرئاسة لایؤمن بالمبادئ الأخلاقیة، وسیاسیاً متلوناً یری عبث الولاء للوطن (مظلوم، 35-36؛ رسائي، 146؛ بعلي، 131). وربما كانت هذه الخصال ناشئة عن غروره الذي قال البعض إنه یتجلی في كتاب التعریف (نصار، 18، نقلاً عن طه حسین؛ روزنثال، «ابن خلدون»، 20). ویری نصار أیضاً أنه وبتأثیر البیئة التي عاش فیها لم یكن صاحب قضیة أو هدف، وقدكان المحرك الرئیسي في حیاة ابن خلدون السیاسیة محركاً شخصیاً محضاً (ص 45). وهناك فئة أخری من الباحثین تستبعد أن یكون سلوكه هذا ناجماً عن دوافع شخصیة رغم أنها تعترف بحبّه للرئاسة وغروره ودسائسه. وتعتقد أن الدافع الأصلي لمجریات حیاته هو البحث عن حل لإنقاذ الإسلام من الفساد، رغم أنه لم یصرّح بذلك (EI2).

ویتذرع المبررون لسلوك ابن خلدون بانعدام المفهوم الوطني في المغرب خلال القرن 8هـ/14م، ویعتقدون بأنه من وجهة نظر ابن خلدون لایوجد أي تضارب فكري عقائدي في الصراع بین أدعیاء القدرة السیاسیة في المغرب آنذاك، وإنما هو ناجم عن تضارب في المصالح والأنانیات، ولهذا فهو یضع كفاءته السیاسیة تحت تصرف القوة التي تعود بمنافع أكبر (لاكوست، 63)، هذا في حین تشیر دلائل عدیدة في حیاة أجداد ابن خلدون وفي حیاته أیضاً إلی تعلقهم الشدید بالمغرب ووحدته وقوته (م.ن، 148-151).

ومن خلال هذه الآراء ومن سبر غور تاریخ عصر ابن خلدون یمكننا الوصول إلی هذه النتائج: أولاً إن تراث أسرته قد قاده نحو السیاسة؛ ثانیاً كان سلوك ابن خلدون رسمیاً وسائداً آنذاك علی الصعید السیاسي، ولایقتصر علی ابن خلدون فحسب (EI2)؛ ثالثاً وربما الأهم، هو أن سلوك ابن خلدون لایستحق كثیراً من تلك المؤاخذة التي تبدو كبیرة في الوهلة الأولی، قیاساً إلی سلوك رجال السیاسة في ذلك العصر. ربما تكون قلة أوزاره السیاسیة قیاساً إلی ما هو متعارف آنذاك، هي التي دفعت سلاطین المغرب إلی التغاضي عن ماضیه. أضف إلی هذا كله أن شهرة ابن خلدون لاتعود لسلوكه السیاسي أو الخلقي، كي نلجأ إلی تقییمه علی هذا الصعید، وإنما تعود لنظرته التاریخیة الثاقبة، وابتداعه لأسلوب جدید وعلم جدید (علم العمران) للتمییز بین الصحیح من الأخبار التاریخیة وغیر الصحیح، والتعامل مع التاریخ بصفته علماً قائماً بذاته.

 

آثار ابن خلدون وأفكاره

یمكن تقسیم آثاره من حیث أهمیة المحتوی ومن حیث زمان كتابتها ومصادر الاطلاع علیها إلی:

ألف- الآثار التي دونها في فترة شبابه خلال نشاطه السياسي في البلاطات المغربیة، والتي ذكرها صدیقه ابن الخطیب وهو الشاهد الوحید المعاصر له (المقري، 6/180-181)، الذي أنهی كتاب الإحاطة في 765هـ/1364م.

وهذه الآثار عبارة عن: خلاصة في المنطق، رسالة في الحساب، شرح قصیدة البردة، شرح الرجز لابن الخطیب في أصول الفقه، تلخیص بعض آثار ابن رشد، وتلخیص المحصّل لفخر ‌الدین الرازي باسم لباب المحصل في أصول الدین. وضمن عرضه لهذه الآثار أثنی ابن الخطیب علی نثر ابن خلدون من حیث الأسلوب والمحتوی. ورغم أن ابن خلدون لم یشر إلی آثاره في تاریخ حیاته، لكنها وردت في مصادر الكتب الإسلامیة في العصور التالیة مضافاً إلیها أثر أخر عنوانه شرح قصیدة ابن عبدون (حاجي خلیفة، 2/22؛ البغدادي، 1/529).

ولم یصلنا أي من هذه الآثار عدا لباب المحصل الذي طبع في تطوان (بالمرغب) عام 1952 م بتحقیق ل. روبیو (نصار، 361؛ روزنثال، «ابن خلدون»، 1/37). ألف ابن خلدون هذا الكتاب بإشارة من الآبلي أستاذه الذي یعتزبه. واهتمام ابن خلدون بهذا الأثر دلیل علی سجایاه الخلقیة والفكریة الكثیرة التي لم یتنصّل منها أبداً. ویتألف اللباب من أربعة أقسام: أصول المعرفة النظریة، ومباحث فلسفیة خاصة بالفلاسفة والمتكلمین المسلمین، ومسائل كلامیة خالصة، والمسائل التقلیدیة في الإسلام. وقد تناول هذا الأثر بأسلوب جدید كافة القضایا الفكریة والعقائدیة الكبری التي خضعت لبحث الفلاسفة والمتكلمین الإسلامیین. وابن خلدون –ونظراً لانتقادات الخواجة نصیر الدین الطوسي والفاصل الزمني الذي یفصله عن عصر تألیف المحصل– طرح آراءه وأفكاره الخاصة أیضاً ووصل إلی هذه النتیجة وهي أن الكلام قد هُجر منذ زمن بعید، والمجتمع غیر مهتم بإنجازات العقل، ولا أثر یُذكر للدعوة إلی التفكر العقلي في حالة عدم اقتضاء الظروف العامة للمجتمع وحاجاته. ورغم أن استنتاجات ابن خلدون هذه فیها شيء من الغموض، إلا أنها تنبئ عن الاهتمام بالواقعیة إلی جانب المسائل النظریة المحضة (نصار، 31-33).

ورؤیة ابن خلدون في آثار آخر مرحلة من حیاته یمكن أن تكون أفكاره الناضجة وهو ابن العشرین. وهذا النضج لم یتحقق من خلال التأمل في المنطق والاستناد إلی العلوم العقلیة فحسب، بل أثّر علیه أیضاً الواقع الاجتماعي –السیاسي الذي خضع لتجربته (م.ن، 44). أما باقي تصانیفه فیبدو أنها كراسات الدرس أو التدریس، وربما كان هذا هو السبب الذي دفعه لغض النظر عنها (الحصري، 96). وقال البعض ربما یعود سبب عدم ذكرها في التعریف إلی أن ابن خلدون لم یكن یعتقد بأهمیتها ولم یجد فیها ما یُتباهی به ولم یقدمها إلی شخصیة كبیرة (الطنجي، مقدمة شفاء، «كا»). ولایبدو أن هناك شیئاً جدیداً ومهماً في شروحه علی قصیدة البردة أو قصیدة ابن عبدون و الرجز لابن الخطیب، ویحتمل أیضاً أن رسالته في الحساب لاتحتوي إلا علی تلك المعلومات التي یحتاجها كل فقیه وهي –كما یبدو– خلاصة الرسالة لابن البناء المراكشي أو مؤلف آخر (نصار، 40-41). ورسالته في المنطق تلخیص لكتاب في المنطق لكن لایُعرف الكتاب الذي اعتمد علیه. وبما أنه لخّص بعض كتابات ابن رشد، فیمكن أن تكون هذه الرسالة خلاصة لأحد آثار هذا الفیلسوف المغربي، لكن كتاباته تكشف عن تأثیر ضئیل جداً لابن رشد علی أفكاره. لهذا یجب أن نقول إن خلاصات ابن خلدون لآثار ابن رشد ذات قیمة محدودة وهي أقرب إلی الطابع التعلیمي منها إلی الطابع الفلسفي الخاص، ویرجّح أن تكون مجرد اقتباسات من خلاصات ابن رشد وشروحه علی منطق أرسطو وعلی مؤلفاته في الطبیعة ومابعد الطبیعة (م.ن، 41-43).

الصفحة 1 من4

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: