الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / التاریخ / ابن خلدون، أبوزید /

فهرس الموضوعات

ابن خلدون، أبوزید

ابن خلدون، أبوزید

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/7 ۰۹:۰۱:۱۵ تاریخ تألیف المقالة

اِبْنُ خَلدون، أبوزید ولي ‌الدین عبد الرحمن بن محمد بن محمد ابن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهیم بن عبد الرحمن ابن خلدون الحَضرَمي الإشبیلي التونسي (732- رمضان 808هـ/1332- آذار 1406م)، عالم اجتماعي وسیاسي ومفكر ومؤرخ وقاضٍ مالكي. واعتبر ابن خلدون – بالاستناد إلى جمهرة الأنساب ابن حزن- نفسه من أعقاب وائل بن حُجر الكندي، ويرى أن نسبه فلابد أن يصل إلى خلدون عبر 20 نسلاً وإن لم يذكر هو إلا 10 نسلاً منهم (ابن خلدون، التعریف، 1-2). ویعود اشتهار هذه الأسرة ببني خلدون لانتسابها إلی خالد، المعروف بخلدون الداخل الذي قدم الأندلس خلال فتوحات القرن 3هـ/9م، فسكن في قرمونة أولاً ثم في إشبیلیة (ن.م، 3-4). وقد لعبت هذه الأسرة دوراً مهماً في حیاة إشبیلیة السیاسیة والثقافیة، وطالما احتلت شخصیات منها مواقع ذات شأن في میداني السیاسة والعلم (ن.م، 5).

وُلد ابن خلدون بمدینة تونس (في إفریقیة). وقرأ بعض المقدمات علی أبیه، وأخذ عن بعض مشایخ تونس العلوم التقلیدیة. تعلم مختلف القراءات والنحو والحدیث والفقه المالكي، وانهمك لبعض الوقت في حفظ الشعر (ن.م، 17-21؛ السخاوي، 4/145). وكان قد بلغ السادسة عشرة من عمره حینما وقع حدث سیاسي عظیم في مسقط رأسه ترك أثراً عمیقاً علی تربیته العلمیة. ففي 748هـ/1347م أخضع سلطان المغرب الأقصی أبو الحسن المریني (حكـ 732-749هـ/1331-1348م) المغرب الأدنی لنفوذه لمدة سنتین منتهزاً ضعف سلاطین المغرب والصراعات الداخلیة. واستطاع ابن خلدون لمكانة أسرته الاجتماعیة ومواهبه العلمیة أن یفید من كبار علماء بلاط سلطان المغرب الذین جمعهم حوله، ووصف هذا الحدث بأنه أحد الأحداث التي لاتنسی في حیاته (ن.م، 19-55). وقد ترك تعرفه إلی أحد هؤلاء العلماء ویدعی أبا عبد الله محمد ابن إبراهیم الآبلي (تـ 757هـ/1356م) تأثیراً كبیراً علی نشأته الفكریة وإقباله علی الفلسفة والمنطق (ن.م، 21؛ نصار، 29-30). وفي هذه الفترة بالذات وتحدیداً في 749هـ اكتسح الطاعون المغرب وكان قد ظهر أول الأمر في آسیا، وتوفي فیه والداه وعدد كبیر من أساتذته. وتبدو انعكاسات هذا الحدث المؤلم باهتة في ترجمته لأنه تحدث عنه في المقدمة بالقدر الكافي، واعتبره عاملاً مهماً من عوامل انحطاط المجتمعات الإنسانیة (1/406).

وكانت بلاد المغرب قد تجزأت منذ انقراض دولة الموحدین في 668هـ/1270م إلی ثلاث دول تحكمها ثلاث أسر حاكمة: بنو مرین في المغرب الأقصی (عاصمتهم فاس)، وبنو عبد الواد في المغرب الأوسط (عاصمتهم تلمسان)، وبنو حفص في المغرب الأدنی أو إفریقیة (عاصمتهم تونس)، وقد واجهت هذه البلاد سلسلة اضطرابات مستمرة في عصر ابن خلدون (القرن 8هـ/14م) إثر ظهور القوی غیر المتعادلة (الحصري، 54)، والتنافس والصراع الداخلي والخارجي، وكذلك التناحر بین رؤساء قبائل العرب والبربر. ورغم ذلك فقد كانت تلك الفترة تتمیز بوحدة أدبیة وثقافیة واضحة المعالم ونوع من التفاهم (م.ن، 63-65)، كما كانت المدن مراكز رئیسة للتجارة والحیاة السیاسیة والثقافیة (لاكوست، 43). ولم یبق في ید المسلمین من الأندلس آنذاك سوی إقلیم غرناطة الصغیر وكان یحكمه سلاطین بني الأحمر. وكان التنافس علی الحكم بین أمراء هذه الأسرة، وتخاصمهم مع سلاطین المغرب، ولجوء الأمراء المستائین في جانبي جبل طارق إلی الجانب الآخر، یُعدّ سلوكاً سیاسیاً سائداً آنذاك (الحصري، 54).

وفي مثل هذه الظروف انضم ابن خلدون إلی الجهاز الحاكم وكان عمره حینها 21 عاماً. فأبو محمد بن تافراغین الذي تناوب وزارة بني حفص وبني مرین، استولی في 751هـ/1350م علی السلطة بتونس باسم الأمیر الحفصي الشاب أبي اسحاق إبراهیم (ابن خلدون، العبر، 6/364) وأناط بابن خلدون منصب كتابة علامة السلطان. ومهمة صاحب هذا المنصب أن یكتب التحمیدیة (الحمدلله والشكر لله) بالقلم الغلیظ ما بین البسملة وما بعدها من مخاطبة أو مرسوم (م.ن، التعریف، 55). وفي هذه الأثناء التفّ المناهضون لابن تافراغین حول أبي زید أمیر قسنطینة (بالجزائر) وحرضوه علی استعادة ملك أجداده، وجهز ابن تافراغین جیشاً لمواجهة أمیر قسنطینة، فانهزم هذا الجیش وتشتت صفوفه والتجأ ابن خلدون إلی مدینة أُبّة (ن.م، 55-56)، ولم یعد إلی تونس إلا بعد 26 عاماً. وتوجه من أیّة إلی تبسة ثم إلی قفصة فبسكرة. وفي هذه الفترة خرج السلطان أبو عنان المریني علی أبیه أبي الحسن، واستولی علی السلطة بفاس وغادر ابن خلدون بسكرة إلی تلمسان لخدمة أبي عنان فاستُقبل بحفاوة، وعاد السلطان إلی فاس أخذ یجمع حوله العلماء المفكرین. وكان في مجلسه من یعرف عبد الرحمن بتونس فذكروه، فطلب السلطان من الوزیر أن یبعث به إلیه (ن.م، 55-58).

و توجه ابن خلدون الذي كان قد تزوج آنذاك من ابنة أحد رجال البلاط الحفصي (لاكوست، 50)، إلی فاس والتحق بركب علماء البلاط في 755هـ، ولازم السلطان في صلاة الجمعة، ثم أصبح كاتب التوقیع الخاص. ورغم اعتقاده بأن هذا المنصب لم یكن یتناسب مع مكانة أسرته الاجتماعیة وأنه قد قبله مكرهاً، لكنه انتهز تلك الفرصة للمطالعة ولقاء أساتذته المغاربة الذین كانوا یفدون سفراء علی فاس، وأخذ یتعلم منهم ما أمكن وحصل علی إجازة عامة (ابن خلدون، التعریف، 60-68). كما اغتنم الفرصة للانتفاع من مكتبات مدارس فاس الغنیة بالكتب، والتي كانت مركزاً لتجمع العلماء والأدباء وفي متناول یده (ظ: لاكوست، 51).

وبدأت المرحلة الثانیة من حیاة ابن خلدون بدخوله إلی فاس، وكانت في معظمها مرحلة نشاطه السیاسي، وقد تبلورت فیها ملامح شخصیته: العزم والإرادة والمغامرة، وانتهاز الفرص السانحة لنیل الأهداف وحب الجاه وحب التعلم في أي ظرف. واستمرت فترة إقامته في فاس 8 سنوات (755-763هـ). وكان قد قدم فاس بحثاً عن ینابیع العلم والأدب، لكنه سرعان ما وقع في شباك السیاسة، فأمضی سنتین من هذه الأعوام الثمانیة في السجن. وقد سجن لعلاقته المكشوفة بالأمیر الحفصي أبي عبد الله محمد، الأمیر السابق الذي كان یعیش أشبه بالرهینة في بلاط فاس؛ وعندما علم السلطان أن الأمیر ینوي الهروب من فاس ألقی به في السجن مع ابن خلدون. وقد أفرج عن الأمیر فیما بعد، إلا أن ابن خلدون ظل سجیناً حتی وفاة السلطان أبي عنان في 759هـ/1358م، حیث أطلق سراحه وزیر السلطان وأعاده إلی منصبه السابق. ولم یستمر هذا الوضع أیضاً، إذ انتهت الصراعات بین أقارب السلطان المتوفی بسقوط الوزیر والسلطان الصغیر المدعوم من قِبّله (سعید بن أبي عنان) (ابن خلدون، التعریف، 66-68، العبر، 7/305). وأمسك الأمیر منصور بن سلیمان بمقالید الأمور، ولم یكد الفاتحون الجدد يتلذذون بنشوة النصر الذي أحرزوه حتی ظهر مطالب ثالث بالحكم: فأبو سالم شقیق أبي عنان قام في الأندلس مطالباً بحقه في ملك أبیه، وانبری مؤیدوه في فاس بالدعوة له وطلبوا من ابن خلدون أن یدعمهم في ذلك، ففعل ما أرادوا وحرّض كثیراً من رجال بني مرین علی دعم أبي سالم. وسحب مؤیدو الأمیر منصور تأییدهم له وانضموا إلی الحكومة الجدیدة، وخرج ابن خلدون في مقدمة طائفة من وجوه أهل الدولة لاستقبال السلطان وحثّه علی دخول فاس. ودخل السلطان العاصمة في منتصف شعبان760 وفوّض إلی ابن خلدون كتابة سره وإنشاء مخاطباته لما له من خلفیة في هذا الشأن.

یقول ابن خلدون إن أسلوب كتابته بالكلام المرسل كان مستغرباً عند الكثیر من أهل هذه الصناعة. وقد أقبل الدهر علی ابن خلدون فأخذ نفسه بالشعر نظم في الكثیر من البحور، وقد أنصف حینما وصف شعره بالتوسط بین الإجادة والقصور (التعریف، 68-76).

ثم أخذ نجم ابن خلدون بالأفول عندما استولی ابن مرزوق علی لبّ السلطان. ورغم أن السلطان أضاف إلیه خطة المظالم (ن.م، 77)، إلا أن ابن مرزوق راح یسعی به وبباقي رجال الدولة بدافع الحسد والتنافس. وفي هذه الأثناء ثار الوزیر عمر بن عبد الله علی السلطان فاجتمع إلیه الناس، فقُتل أبو سالم في 762هـ بعد عامین من السلطنة، ونصب الوزیرُ الثائر الأمیرَ تاشفین ملكاً، فیما كانت بیده كافة أمور الدولة (م.ن، العبر، 7/313-314).

ورحل ابن خلدون بعد ذلك إلی الأندلس (م.ن، التعریف، 79)، حیث كانت إسبانیا المسلمة أكثر ازدهاراً وثباتاً من إفریقیة الشمالیة، وحیث أراد ابن خلدون أن یجرب حظه مرة أخری (مهدي، 49). وربما كان أحد أسباب سفره إلی الأندلس سوابقه عند سلطان غرناطة ووزیرها، فخلال الفترة 761-763هـ لجأ إلی فاس سلطان غرناطة من بني نصر أبو عبد الله محمد بن یوسف الأحمر، المعروف بمحمد الخامس ووزیره الأدیب والمؤرخ لسان‌ الدین محمد، المعروف بابن الخطیب (ن.ع)، ولم یأل ابن خلدون جهداً في احتضانهما وتقدیم العون والمساعدة لهما (ابن خلدون، العبر، 7/306-309). وهكذا دخل ابن خلدون غرناطة (764هـ) وأصبح في علیّة أهل مجلس السلطان، واختصه بالنجاء في خلوته، والمراكبة في ركوبه، والمواكبة والمفاكهة في خلوات أنسه. ولهذا أرسله بعد عام (765هـ) سفیراً عنه إلی إشبیلیة لعقد الصلح مع بدرو ملك قشتالة (حكـ 751-771هـ/1350-1369م) محملاً بالهدایا الفاخرة (م.ن، التعریف، 84؛ السخاوي، 4/145). وعند عودته أقطعه السلطان قریة إلبیرة. وقد دفعه إكرام السلطان إلی مدحه ببعض القصائد (ابن خلدون، ن.م، 85-90).

ولم یستمر هذا الوضع الهادئ كثیراً، إذ أفسد السعاة علیه الوزیر ابن الخطیب، وتزامن ذلك مع التطورات التي وقعت في المغرب الأوسط، حیث استولی الأمیر أبو عبد الله محمد علی بجایة (765هـ)، وأرسل رسالة إلی ابن خلدون یدعوه فیها إلی الالتحاق به (مهدي، 53-54). وقد غادر ابن خلدون الأندلس إلی بجایة لكي یحافظ علی أواصر صداقته مع ابن الخطیب (الحصري، 79)، أو لینتهز الفرصة التي سنحت له، حیث وصلها في أواسط 766هـ، وكان احتفال الناس ورجال البلاط به قد حوّل ذلك الیوم إلی یوم عظیم جدّد في ذهنه ذكریات حیاته السیاسیة (ابن خلدون، التعریف، 97-98). وولّاه السلطان الحجابة، ومعناه في المغرب الاستقلال في إدارة شؤون الدولة والوساطة بین السلطان وعماله (ن.م، 97)، وأمر أهل الدولة بمباكرة باب ابن خلدون الحاجب. وبذل الأخیر جهده في سیاسة الأمور وتدبیر السلطان. ومع ذلك كان یعكف بعد انصرافه من تدبیر الملك علی تدریس العلم أثناء النهار بجامع المدینة (ن.م، 98).

ولم یستمر الوضع بابن خلدون علی هذه الحال أكثر من عام، إذ زحف أبو العباس حاكم قسنطینة وابن عم أبي عبد الله علی بجایة في 767هـ، فقُتل أبو عبد الله في هجوم لیلي، وخرج ابن خلدون إلی لقاء أبي العباس، فأكرمه أبو العباس وألقی كالماضي زمام الأمور بین یدیه (ن.م، 98-99)، لكن السعاة حذّروا السلطان منه، فاستأذنه ابن خلدون بالتنحي (ن.م، 99)، لكن السعاة حذّروا السلطان منه، فاستأذنه ابن خلدون بالتنحي (ن.م، 99)، فذهب إلی قبائل الذَواودة. وخشي منه أبو العباس وقبض علی أخیه یحیی وكان أصغر منه. وغادر ابن خلدون إلی بسكرة عند أصدقائه بني مَزني، فتعاطفوا معه وساعدوه (ن.م، 99-100).

وفي هذه الأثناء بعث إلیه أبو حمو، صاحب تلمسان كتاباً بخطه دعاه فیه لتولي الحجابة وكتابة العلامة، وكان یهدف من ذلك الإفادة من وشائج الصداقة بین ابن خلدون قبائل ریاح لیحملهم علی مجابهة أبي العباس. وقد حث ابن خلدون بدوره القبائل علی تلبیة دعوة السلطان، ثم أرسل فیما بعد أخاه یحیی – الذي أُطلق سراحه– إلی السلطان أبي حمو لینوب عنه في الوظیفة، لأنه شعر بابتعاده عن العلم وضرورة أن یجدّ في البحث والدرس (ن.م، 100-103)، لكنه لم ینصرف خلال 6 سنوات من الإقامة في بسكرة إلی العلم والبحث تماماً، كما لم یتأخر عن قافلة السیاسة لطبعه المتحمس، رغم أنه في هذه المرة وظّف نشاطه بین القبائل بدلاً من الخدمة في البلاطات. وقد مكنته خبرته في العادات القبلیة ونفوذه بین العشائر من استئلافها وتوجیهها لخدمة السلاطین الذین یشایعهم (الحصري، 81). وانكبّ في هذه الفترة بشكل رئیس علی إیجاد الانسجام بین الذواودة والحكومة في تلمسان، وكان أقرب إلی قائد عسكري منه إلی محقق ومؤرخ (لاكوست، 62)، لم تفصم إقامته بین القبائل عری اتصاله بالعالم الخارجي، فرسائل ابن الخطیب إلیه (2 جمادی الأولی 769 و14 ربیع الثاني 770) وردّه علی وزیر غرناطة، تنبئ عن تفننه الأدبي من جهة وعن رغبة الجانبین في تبادل الأخبار السیاسیة والعلمیة والأدبیة المهمة من جهة أخری (ابن خلدون، التعریف، 104-130). وخلال هذه الفترة طرأت علی الساحة السیاسیة بالمغرب تطورات معقدة: انتهز بنو مرین الصراع بین أبي حمو وأبي العباس فهاجموا تلمسان وأصبح السلطان عبدالعزیز المریني حاكماً علی تلمسان. وقد أوفد السلطان الجدید ابن خلدون مراراً في عدد من المهام.

وعندما توفي السلطان عبدالعزیز، خلفه ولده أبوبكر السعید، وولي أبوبكر بن غازي الوزارة. وقصد ابن خلدون فاس مع بعض رجال السلطان والموالنی عبر الصحراء، ولقي فیها من الوزیر ابن غازي الكرم وتوفیر الجرایة، وحظي بمكانة رفیعة في البلاط لما كانت بینهما من صداقة قدیمة وصار من أعضاء مجلس السلطان (ن.م، 216-218)، وقد أقام في فاس مدة سنتین (774-776هـ/1372-1374م)، لكنها كانت إقامة قلقة بسبب وجود ابن الخطیب هناك.

وقُسمت السلطة في المغرب بین أمیرین من أمراء بني مرین بعد نزاعات بینهما: أبو العباس علی فاس وعبد الرحمن علی مراكش (ن.م، 218-224). وكان ابن خلدون قبل ذلك التقسیم موضع اهتمام الجانبین، ولهذا كان یعتقله أحدهما، ثم یطلقه الآخر في الیوم التالي. وبعد حدوث التقسیم استأذن السلطانین (ن.م، 224-225) وتوجه إلی الأندلس (ربیع الأول 776). ولم یطل مقامه في الأندلس سوی بضعة أشهر. وعندما استولی رجال السلطان أبي العباس علی مدینة فاس الجدیدة، سجنوا ابن الخطیب الذي بعث برسالة من السجن إلی ابن خلدون یطلب النجدة منه، وباءت كل محاولات ابن خلدون في هذا المضمار بالفشل، كما حذّر رجال فاس سلطان غرناطة من أواصر الصداقة بین ابن خلدون وبین الوزیر السابق والعدو الحالي. ووجد ابن خلدون نفسه مضطراً للتوجه إلی تلمسان (ن.م، 226-227). ورغم توتر علاقته مع أبي حمو سلطان تلمسان منذ أن أثار علیه القبائل العربیة في منطقة الزاب، إلا أن السلطان أبا حمو عندما سمع خبر عودته من الأندلس صفح عنه ودعاه إلی تلمسان. وأقام ابن خلدون في عبّاد التابعة لتلمسان (شوال 776/ آذار 1375) وانبری للتدریس (ن.م، 227). أثبتت التجارب السالفة لابن خلدون بالقدر الكافي عقم العمل السیاسي، وصمم في هذه المرة علی اعتزال السیاسة، ولهذا نراه یمتنع عن التعاون مع السلطان أبي حمو في استئلاف القبائل ولحق بقبائل بني عریف فأكرموه، ثم طلبوا من السلطان أن یعفیه من ذلك لعجزه عن أداء الخدمة التي كلفه بها، ثم أنزلوه وأسرته في قلعة ابن سلامة (ن.م، 227-228).

وشرعت بذلك المرحلة الثالثة من حیاة ابن خلدون، وهي مرحلة التخلي عن الأعمال السیاسیة والانكباب علی التحقیق والتألیف والتعلیم. وأقام ابن خلدون أربعة أعوام (776-780هـ/1374-1378م) في قلعة ابن سلامي أوقلعة تاوغزوت في ولایة و هران بالجزائر إلی الجنوب الغربي من فرندة التي تبعد عنها 6 كم (الطنجي، مقدمة التعریف، 228، هامش 4) بعیداً عن ضوضاء السیاسة ودسائس البلاط منصرفاً إلی تألیف كتابه في التاریخ العبر ومقدمته علی نحو جدید (ابن خلدون، التعریف، 229). ویمكن القول إنه في هذه المرحلة وبعد 43 عاماً من عمره تعرف إلی كثیر من الناس وخبر كثیراً من القضایا، فتمكن في خلوته من التروي والتأمل في كل ذلك، ثم شرع في كتابة مواضیع مقدمته وفصولاًمن تاریخ المغرب (مهدي، 61-62). وبعد أن كتب ابن خلدون ماكان یحفظه، وجد نفسه بحاجة إلی الكتب التي لاتوجد إلا في المدن من أجل إكمال وتصحیح ماكتبه، لهذا وبعد شفائه من مرض ألمّ به استأذن السلطان أبا العباس الحفصي (حكـ 772-796هـ/1370-1394م) بالسفر إلیه، فأجازه وأمّنه، فغادر قلعة ابن سلامة متوجهاً إلی تونس (ابن خلدون، ن.م، 230).

وفي شعبان من عام 780هـ/1378م دخل تونس فقربه السلطان إلیه، وأقبل علیه طلاب العلم من كل مكان، إلا أن بعض الحسّاد مثل ابن عرفة إمام جماعة تونس ومفتیها أخذوا یوغرون صدر السلطان علیه، وهو لایصغي إلیهم، وشجّع ابنَ خلدون –حباً في العلم– علی الانكباب لإكمال تألیف كتاب العبر، فأكمل منه أخبار البربر وزناتة والأمویین والعباسیین، وماقبل الإسلام ما وصل إلیه منها، ثم توّج هذا الكتاب باسم السلطان ورفعه إلی خزانته (ن.م، 230-233)، كما نظم قصیدة طویلة في مدح السلطان وسیرته وفتوحاته لكي یتقي شرّ السعاة (ن.م، 233-241)، غیر أن سعایات المقربین من السلطان وتحریضات ابن عرفة أخافت السلطان أخیراً، حتی إنه كان یحمل ابن خلدون علی السفر معه أینما ذهب. وبعد مرور 4 سنوات علی إقامته في تونس عزم السلطان السفر إلی الزاب، فخشي ابن خلدون تكرار قصة السفرات السابقة، فطلب منه أن یأذن له لقضاء فرض الحج، فتوجه إلی الإسكندریة بحراً في منتصف شعبان 784هـ/24 تشرین الأول 1382م (ن.م، 244-245).

وبدأت مع هذه الرحلة آخر مرحلة في حیاة ابن خلدون. ووصل إلی میناء الإسكندریة في عید الفطر من عام 784هـ/8 كانون الأول 1382م بعد 40 یوماً ولیلة من الإبحار (ن.م، 264). وظلّ مقیماً في مصر حتی آخر حیاته، أي مایقرب من ربع قرن ولم یعد إلی وطنه أبداً. ولیست تجاربه الشخصیة وحدها هي التي أقنعته بعبث المحاولات في المیدان السیاسي، بل أیضاً المصیر المؤلم الذي انتهی إلیه صدیقه ابن الخطیب، وكذلك مقتل أخیه یحیی بتلمسان في إحدي لیالي رمضان من عام 780 بمؤامرة حاكها أبو تاشفین ابن السلطان أبي حمو (م.ن، العبر، 7/140). وكان رحیله إلی مصر معبراً عن عزمه الصادق في التنحي عن السیاسة.

وصل ابن خلدون إلی الإسكندریة بعد عشرة أیام من جلوس الملك الظاهر برقوق (784-791هـ) علی العرش، وهو من الممالیك البرجیین. وعندما لم یتیسر له الحج انتقل إلی القاهرة في أول ذي القعدة، وشاهد بأم عینیه عظمتها وعمرانها العجیب الذي سبق أن سمع به (م.ن، التعریف، 246-247). ولما كانت شهرة ابن خلدون قد سبقته إلی القاهرة رغب طلبة العلم في درسه، فجلس للتدریس في الجامع الأزهر (ن.م، 248). ثم اتصل بالسلطان وراجعه في أمر أهله الذین ظلوا كرهائن في تونس (ن.م، 248-252). وبهذا یلاحظ أن رغم تنحیه عن السیاسة لم یقطع علاقته بالبلاطات والسلاطین. وكان موقعه الاجتماعي ومكانته العلمیة یوجبان مثل هذه العلاقة.

وعهد إلیه سلطان مصر بمهمتین: الأولی التدریس في مدرسة القمحیة من موقوفات صلاح ‌الدین الأیوبي، لیحل محل مدرّس فیها توفي حدیثاً، والثانیة منصب القضاء المالكي بدلاً من جمال ‌الدین عبد الرحمن القاضي المالكي السابق الذي غضب علیه السلطان. وجلس للقضاء في المدرسة الصالحیة بعد تسلمه الخلعة السلطانیة. وعندما صمّم علی مجابهة الفساد والنفعیة السائدة في شؤون القضاء، تألّب علیه المعارضون وتوترت علاقته بكبار رجال الدولة. ورافق ذلك مصابه بأهله وولده، أصابهم وهم في البحر في طریقهم إلی الإسكندریة قاصف من الریح فغرقوا جمیعاً، فجزع ابن خلدون لعظم مصابه وقرر التخلي عن أي منصب. ولبّی له السلطان طلبه وأعاد علی القضاء القاضي السابق. ووجد ابن خلدون في التدریس والمطالعة والتصنیف والعبادة الملجأ الذي كان یبحث عنه (التعریف، 253-260، 279، 285، 310-311، العبر، 5/479-480). وفضلاً عن مدرسة القمحیة فقد أخذ یدرس أیضاً الفقه المالكي في مدرسة الظاهریة الجدیدة، لكنه اعتزل التدریس فیها للأعمال التي مارسها معارضوه (م.ن، التعریف، 285-293).

الصفحة 1 من4

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: