الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفقه و علوم القرآن و الحدیث / ابن تیمیة /

فهرس الموضوعات

ابن تیمیة


تاریخ آخر التحدیث : 1443/5/15 ۱۳:۳۲:۰۴ تاریخ تألیف المقالة

طریق السلف

یعتبر ابن تیمیة نفسه في کل آثاره تابعاً للسلف، أي الصحابة و التابعین و کبار المحدثین في القرن 2 و 3 هـ/ 8 و 9م. و یعتقد بأن السلف کانوا یدرکون القرآن و السنة أفضل من مدّعي العلم و المتکلمین في العهود التالیة. و دلیله أن الصحابة أقرب الأشخاص إلی الرسول (ص) و قد نزل القرآن بلسانهم و لفهمهم، و أن درکهم للقرآن و الحدیث و السنة و فهمهم لها و هم المعاصرون و المسمعون للرسول أمر مسلم لایمکن إنکاره. و یقول في «العقیدة الحمویة الکبری» (1/425-426): إن الله أکمل دینه و أتمَّ نعمته علی الرسول و أصحابه: … الیوم أکملت لکم دینکم و أتممت علیکم نعمتي و رضیت لکم الإسلام دیناً … (المائدة/ 5/3) و: قل هذه سبیلي أدعو إلی اللّه علی بصیرة أنا و من اتبعني (یوسف/12/108). لذلک من الممتنع أن ترد مسألة الإیمان بالله و العلم به و بصفاته في القرآن والحدیث مبهمة، وألّا یفرق الله بین الصفات والأسماء الواجبة علیه أو الممتنعة، فکیف یمکن القبول بأن الله و رسوله وأصحابه لم یحکموا القول و الاعتقاد بالله کما یجب؟ و من المحال ألّا یعلم أصحاب الرسول عن هذا شیئاً و أن یکون المتأخرون أعلم بذلک من السابقین و السلف. و یقول: یظن بعض الجهال أن طریق السلف أسلم لفهم صفات الله و أسمائه، و لکن طریق الخلف و المتأخرین أحکم وأعلم،غیر أن أکثر هؤلاء أهل بدعة، لتفضیلهم طریق الفلاسفة علی طریق السلف («العقیدة…»، 1/427). و یعتقد بأن المتکلمین لاعلم و لامعرفة لهم بالله. و لاخبر و لاأثر بینهم من هذه المعرفة، و بما أن الرسول اعتر قرنه أفضل القرون، فکیف یمکن القول أن أبناء ذلک القرن، أي أصحابه یعلمون أقل من أفراخ المتفلسفة و أتباع الهنود و الیونان و المجوس و المشرکین و الیهود و النصاری و الصابئة، فهل کانت هذه الطوائف أعلم من أهل القرآن و الإیمان؟ (ن. م، 1/428-429).
ویری ابن تیمیة بهذه المقدمة أن جمیع الصفات و الأفعال التي ذکرت لله في القرآن صحیحة، ولایجوز تأویلها، و للتهرب من تهمة التشبیه یقول: کل هذه الصفات صحیحة و حقّة، ولکن کیفیتها مجهولة.
و هو یعتقد بصحة وجود الله فوق السماوات، وجلوسه علی العرش ویستند في ذلک و في حالات أخری علی الایات «… إلیه یصعد الکلم الطیب و العمل الصالح یرفعه …» (فاطر/ 35/10)، و «… إني متوفّیک و رافعک إليّ …» (آل عمران/ 3/55)، و «تعرج الملائکة والروح إلیه …» (المعارج/ 70/4)، و«الرحمن علی العرش استوی» (طه/20/5) ویستدل أیضاً بمعراج الرسول (ص) و نزول الملائکة من عند الله علی الأرض، وأمثالها، فیقول: لایختلف أي من الصحابة و التابعین و أئمة الإسلام في نص هذه الآیات  ظاهرها، ولم یقل أحد منهم إن الله لیس علی العرش في السماء. فیقول: یری جمیع السلف أن الله في السماء، ولایقولون کالمتکلمین والمتأخرین «إن الله في کل مکان، و نسبته إلی الأمکنة واحدة» و لم یقولوا: «لیس الله في داخل العالم ولافي خارجه»، أو «إن الله لایشار إلیه». و یستدل علی الجملة الأخیرة بأن الرسول في حجة الوداع رفع إصبعه إلی السماء، یعني نحو الله و قال: «اللهم اشهد …»، و علی هذا فالله في السماء یشار إلیه.
ویقول: کیف یمکن تصور أن أصحاب رسول الله لم یفهموا هذه النصوص الواضحة، و أدرک الإیرانیون و الیونان و الیهود و النصاری والفلاسفة العقیدة الصحیحة، و بینوها للأمة الإسلامیة؟ و من ناحیة أخری، إن لم یفهم الصحابة هذه النصوص وجب الظن بأن القرآن لایفهم، و أن الله ترک الناس بدون کتاب و هدایة و إرشاد، ومعنی هذا الکلام أن علی الناس ألّا یبحثوا عن معرفة الله و صفاته في القرآن و الحدیث، وألایسألوا السلف و أهل السنة، بل یرجعوا إلی عقولهم («العقیدة…»، 1/433).
ویری أن الذین ینفون صفات الله کوجوده فوق السماء و علی العرش و إمکان الإشارة إلیه و رؤیته و غیرها من الصفات، هم في الحقیقة یقولون بتعطیل الذات من الصفات وقد تعلموا هذه العقائد من الیهود و النصاری و الصابئة عن طریق الجَهمیة. و یعتقد بأن الفلاسفة هم إما من الصابئة أو من المشرکین، أي الیونانیین الذین یعتقدون بآلهة متعددة.
یقول ابن تیمیة: بعد أن ترجمت کتب الیونان إلی العربیة في القرن 2هـ/ 8م ازدادت الفتنة، وانتشرت عقائد الجهمیة في القرن 3 هـ في عالم الإسلام، فنهض أئمة‌الدین لمعارضتها. فأوّلَ بِشر المَریسی (تـ 218هـ/ 833م) من الجهمیة القرآن و الحدیث برأیه، و تأویلاتهم لصفات الله الیوم کتأویلات ابن فورک و الفخر الرازي و أبي علي الجبّائي و القاضي عبد الجبار الهمداني و الغزالي، فکلها تأویلات بشر المریسي هذه، ولکن یبدو في حدیث هؤلاء الأشخاص أحیاناً کلام في رد التأویل و إبطاله، ویقولون أحیاناً أخری کلاماً جیداً (ن. م، 1/435-436).

التأویل في رأي ابن تیمیة

یری ابن تیمیة أن العقل لایتعارض مع نصوص القرآن و الحدیث و لایخالفهما، و علی هذا لاحاجة للتأویل بمعناه الاصطلاحي، و یقول إن التأویل صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلی الاحتمال المرجوح مع ذکر الدلیل، أي إعادة اللفظ من معناه الظاهري إلی معنی آخر لایوصله ظاهر اللفظ. و التأویل بهذا المعنی في الحالات التي تبدو فیها ألفاظ القرآن و الحدیث و ظواهرهما معارضة و مخالفة للعقل فیؤوَل الشخص النقل و ظواهر کلام الله و الرسول طبقاً للعقل، کیلا یکون مخالفاً له. ویکون هذا في الحقیقة في الحالات التي لایوجد فیها تعارض بین النقل و العقل. و التأویل بهذا المعنی عمل الذین یرون أن العقل و النقل متعارضان في کثیر من الحلات و لذلک فإنهم یستدلون علی أنه في حالة تعارض العقل و النقل یجب إما قبلهما معاً و عندئذ یجب الجمع بین النقیضین و إما تقدیم النقل و عندئذ یجب قبول المحال و الممتنع، لأن ماهو مخالف للعقل محال و ممتنع. و یری هؤلاء الأشخاص أن العقل أصل النقل وأساسه و إذا نفي العقل لزم نفي النقل. فلایبقی طریق سوی تقدیمهم للعقل، و یقول ابن تیمیة: وقد جعل الفخر الرازي و أتباعه هذا الاستدلال بمنزلة قانون کلي لمراجعة القرآن و الحدیث، فیقول: وقد أورد کل من الآخرین أیضاً قانوناً حول کلام الأنبیاء، و یجمعهم أن مایدرکونه بعقولهم هو أصل، یجب أن یکون کلام الله و حدیث رسوله تابعاً لعقولهم، و إذا ما خالف عقولهم أؤلوه بما یطابق العقول. و إن المرجئة و الوعیدیة و الشیعة أهل بدعة و یرون بدعهنم أصلاً، أو یعتبرونها أصلاً بنقل روایة کاذبة عن الرسول، أما الجهمیة و الفلاسفة فیظهرون عقائد مخالفة لکلام الأنبیاء و لهم في نصوص الأنبیاء و القرآن و الحدیث طریقتان: طریقة التبدیل، و طریقة التجهیل. أما أهل التبدیل فهم نوعان: أهل الوهم و التخییل و أهل التحریف و التأویل (ظ: موافقة… 1/33). فأهل الوهم و التخییل یقولون: إن ماورد في القرآن عن صفات الله و الیوم الآخر و الجنة و النار غیر مطابق للواقع. و قیل للمصلحة الجمهور فقط. لیتجنبوا الأعمال السیئة بالاعتقاد بمثل هذه الأمور و یقبلوا علی الأعمال الحسنة، و هذا کذب للمصلحة و لصالح المجتمع و الناس. و هؤلاء لیسوا من أهل التأویل لأنهم یقبلون ظواهر الآیات و الأحادیث، و لکنهم یقولون: إن ظواهر الآیات و الأحادیث کلها کذب و باطل و لمصلحة الجمهور. و یقول بعض هؤلاء الأشخاص: النبي کان یعلم الحق، و لکنه أظهر خلافه لمصلحة المجتمع، و منهم من یقول: إن النبي ماکان یعلم الحق کما یعلمه «نظّار الفلاسفة» و هؤلاء یفضلون الفیلسوف الکامل علی النبي و یفضلون الولي الکامل الذي له هذا المشهد علی النبي و من هذه الجماعة محیي‌الدین ابن عربي الطائي الي یفضل خاتم الأولیاء علی الأنبیاء و کما یفضل الفارابي و مبشّر بن فاتک الفیلسوف علی النبي. أما ابن سینا و أمثاله فیقولون إن النبي کان یعلم الحقیقة، و هو أفضل من الفیلسوف لأنه علم ما علمه الیلسوف ، و لکن مایعلمه الرسول لایعلمه الفیلسوف، و الفاسفة کالفارابي و ابن سینا و السهروردي و ابن رشد؛ و الصوفیة الخارجین عن طریقة مشایخهم المتقدمین مثل ابن عربي و ابن سبعین و ابن طفیل؛ و إخوان الصفا و الباطنیة کالملاحدة الإسماعیلیة و … کلهم من أهل الوهم و التخییل. و البعض یوافقونهم في مسألة صفات الله فقط، ولکنهم لایتفقون معهم حول المعاد، أي یقولون کل ماجاء في القرآن عن المعاد حق ولایراد منه خلاف الظاهر. و منهم من یعتقد أنه لیس المراد ظاهر الآیات في بعض الصفات الخبریة فقط کالاستواء علی العرش، أما في الصفات الأخری فلایعتقدون بلک (ن.م، 1/33-34).
ویقول أهل التحریف و التأویل: إن ما قیل من صفات و أخبار عن الله لم یقصد به ظاهره و یجب معرفة مایقصده الله بالاجتهاد و العقل. ویؤول هؤلاء الأشخاص الآیات و الأحادیث بما یوافق رأیهم و عقیدتهم بأنواع من التأویلات التي یحتاجون فیها إلی إخراج الکلمات عن معانیها المألوفة المعروفة و بالاستعانة بغرائب المجازات و الاستعارات و هکذا تظهر أنواع التأویلات حول مثل هذه الآیات و کثیر منهم یعلمون أن تأویلاتهم لیست مایریده الرسول و یقصد إلیه، ذلک لأنهم لایقصدون من التأویل طلب مراد المتکلم به و هو الله و الرسول. بل یقولون لتبریر عقائدهم من الممکن أن هذا مراد الله و الرسول. و کل تأویل لایرید به صاحبه بیان مراد المتکلم و مقصوده و إنما یؤول کلامه حس میله و عقیدته، هو کاذب، و هذه طریقة أکثر المتکلمین و علی مثل هذا التأویل تقوم مذاهب المعتزلة و اکلّابیة و السالمیة و الکرّامیة و الشیعة (ن. م، 1/34-35). ویقول إن کان کلامهم صحیحاً وجب القبول بأن الله أنزل آیات في صفاته لایعلم النبي معانیها، کما أن جبریل و السابقین لاعلم لهم بمعانیها أیضاً ولایعلمون معاني الأحادیث عن الصفات. و بعبارة أخری أن الله یقول کلاماً لاتعلم معانیه. و لایدرکه إلا هو و لذلک یدعو ابن تیمیة هذه الجماعة بـ «أهل التجهیل». والآیة التي یستدل بها هؤلاء علی أن معاني بعض الآیات لایعلمها إلا الله و حتی الرسول لایعلمها هي: «… و مایعلم تأویله إلا اللّه والراسخون في العلم یقولون آمنّا به کلّ من عند ربّنا ..» (آل عمران/ 3/7). فهؤلاء الأشخاص یقفون في قراءة هذه الآیة علی «إلا الله» و عندئذ یصبح معناها أن الآیات المتشابهة لایعلم تأویلها إلا الله. و یقول ابن تیمیة إن أکثر «السلف» و قفوا في الآیة المذکورة علی «إلا الله» و هذا في حد ذاته صحیح. غیر أن الذین یستندون إلی هذه الآیه ظنوا أن المقصود من التأویل هو المعنی المصطلح علیه لدی المتأخرین، أي العدول عن المعنی الظاهري إلی معنی آخر لایظهر من اللفظ، و هذا خطأ (ابن تیمیة، ن.م، 1/35-36، «الإکلیل»، 2/17). و یقول ابن تیمیة: للتأویل ثلاثة معان: 1. المعنی الاصطلاحي للمتأخرین و هو إرجاع اللفظ من ظاهره، و بهذا المعنی لیستدلالة اللفظ علی ظاهره تأویلاً، بل التأویل أن یکون مخالفاً لمعنی الکلمة ومدلولها. و هذا رأي الذین یقولن بأن تأویل الآیات المذکورة لایعلمه إلا الله؛ 2. التأویل بمعنی تفسیر الکلام سواء أکان موافقاً للظاهر أم لا. وقد أخذ أغلب المفسرین التأویل بهذا المعنی، ووقفوا في الآیة المذکورة علی «والراسخون في العلم» و عندئذ یکون معناها: لایعلم تأویلها إلا الله و الرسخون في العلم. ویعثتد بهذا کل من ابن عباس و مجاهد و محمد بن إسحاق و ابن قتیبة و غیرهم، و لهذا فسروا کل الآیات. و یری ابن تیمیة أن کلا الوقفین صحیح في الآیة المذکورة و ابن عباس یجیز الوقفین أیضاً؛ 3. التأویل هو حقیقة و واقعیة مدلول الکلام مالم یخالف الظاهر، أي أن ماقاله الله مثلاً عن الطعام و الشراب و اللباس في الجنة هو نفسه بالمعنی الظاهر للکلمات، ولکن لایعلم أحد حقیقة هذا الطعام و الشراب واللباس و الأکل و الشرب و اللبس في الجنة و هو مجهول عند الجمیع سوی الله و الذین یقفون في هذه الآیة علی «إلا الله» فهموا هذا المعنی من التأویل. أما الشاهد الآخر هو الآیة 100 من سورة یوسف (12)، فقد رأی یوسف في الحلم 11 کوکباً و الشمس والقمر له ساجدین، وبعد سنوات و حینما أجلس یوسف أمه و أباه علی العرش و خضع له إخوته جمیعاً، قال یوسف لأبیه: «یا أبت هذا تأویل رؤیاي من قبل قد جعلها ربّي حقاً…» فلیس المراد من التأویل هنا خلاف الظاهر، بل المقصود حقیقة تلک الرؤیا، فقال: هذه حقیقة رؤیاي بأن یسجد لي إخوتي الأحد عشر و أبي و أمي. و هذا تأویل الرؤیا دون مخالفة للظاهر. و تأویل تلک الرؤیا أن حقیقتها أنذاک م یعلمها أحد، إلا الله، أما معناها الظاهري فکان واضحاً.
وعلی هذا فابن تیمیة لایجیز التأویل في القرآن بالمعنی الاصطلاحي عند المتأخرین، و یعتقد بأن جمیع أهل العلم یدرکون معاني الآیات و الأحادیث و إن کانت من المتشابهات، و مدلول ظواهر القرآن من إثبات الید و الوجه و العین لله و جلوسه علی العرش و … صحیح، ولکن لاتُعلم حقیقة تلک الید و الوجه و العین و لایعلمها، إلا الله (في حال الوقف علی «إلا الله») أو أن الراسخین في العلم یعلمونها أیضاً (في حال الوقف علی «والراسخون في العلم»). یستدل ابن تیمیة بالقرآن علی أن معاني القرآن یفهمها الجمیع، مثل الآیة: «أفلا یتدبّرون القرآن أم علی قلوب أقفالها» (محمد/ 47/24)، و هذه الآیة تشمل کل القرآن ولیس جزءاً منه (ظ: «الإکلیل»، 2/14-20، مخـ).

مسألة الصفات

یتحدث ابن تیمیة عن مسألة الصفات التي تعتبر من أهم المسائل الکلامیة بین الأشاعرة و المعتزلة و ذلک من خلال الاعتقاد بأصلین: اتباع السلف، و توافق ظواهر القرآن و الحدیث مع العقل، أو أصل عدم التأویل بالمعنی الاصطلاحي. و هذه المسألة من أهم المباحث في کتبه و مصنفاته. فأتباع السنة و الحدیث و الأشاعرة یسمون مخالفیهم «منکري الصفات» و «المُعَطِّلة»، و متکلموا المعتزلة یتهمون مخالفیهم بالاعتقاد بتعدد القدماء والتشبیه و التجسیم، و ابن تیمیة من أشد أتباع إثبات الصفات بالمعاني الظاهرة المذکورة في القرآن و الحدیث، و یتهم مخالفیه بإنکار صفات الله و أنهم لایعتقدون بأنه عالم و قادر وحي ومرید.
وکان المعتزلة الذین یغالون جداً في توحید ذات الباري یخشون الابتعاد عن التوحید المحض إن قالوا بصفات منفصلة عن ذات الله، ویتهمون مخالفیهم الذین یعتقدون بصفات قدیمة منفصلة عن الذات، بأنهم یقولون بتعدد القدماء (القدماء الثمانیة). وقد وجّه عالم الشیعة وفقیهها الشهیر العلّامة الحلّي هذا الاتهام إلی الأشاعرة و أتباع السنة في کتاب منهاج الکرامة. و أثارت هذه التهمة ابن تیمیة وأزعجته فخصص صفحات عدیدة من کتابه منهاج السنة الذي ألفه في الرد علی منهاج الکرامة للرد علی هذه التهمة و إنکارها (1/233 ومابعدها). والجدید بالذکرأن الشیعة والمعتزلة لاینکرون صفات الله و لاینفونها، ولایقول الأشاعرة بتعدد القدماء و ترکیب الذات والصفات. والنزاع بین الفریقین في الحقیقة لفظي ولامعنی للإلزامات المذکورة.
صحیح أنه ورد في الخطبة الأولی من نهج البلاغة: «و کمال التوحید نفي الصفات عنه»، ولکن نفي الصفات هذه لیس بالمعنی الذي یقوله الأشاعرة و الحنابلة، بل بمعنی نفي الصفات التي یتصورها البشر لله، ولیست الصفات التي ذکرها القرآن له لأنه لایمکن لأحد أن ینکر الصفات التي ذکرت لله في القرآن و الدلیل علی ذلک أنه ورد في هذه الخطبة: «فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه»، فالمقصود هي الصفات التي ینسبها البشر لله و لیس الصفات التي وردت في القرآن. فقد وصف الله في القرآن الکریم مراراض بصافت العلم و الحیاة والقدرة والإرادة والسمع والبصر، ولکن هذه الأوصاف لیس مقارنة ومشابهة، لأنه یقول سبحانه: لیس کمثله شيء.
فالتهمة التي یوجهها أهل السنة إذن و منهم ابن تیمیة للشیعة و المعتزلة لیست بصحیحة، ولایمکن لهذه الطائفة أن تنکر صفات الله التي وردت في القرآن، قط، فهؤلاء یقولون: لیست هذه الصفات مشابهة لصفات الإنسان، وهنا یقول ابن تیمیة بأن السلف أبدوا مخالفتهم وقالوا إن معاني هذه الأوصاف هي ماندرکه، ولانقول قط بالتأویل کما یصطلح المتأخرون، غیر أن حقیقة هذا العلم و کیفیته مجهولة لدینا و هذا معنی «لیس کمثله شيء»، إلّا أن ابن تیمیة یوجه التهمة إلی مخالفیه، في مسألة الصفات  یخرج في هذا الاتهام عن سبیل الاعتدال. فیقول في تفسیره لسورة «الأعلی» (مجموعة التفسیر، 129): إن أهل السنة یصفون الله بالوجود و کمال الوجود و أولئک (مخالفو أهل السنة من الجهمیة و غیرهم) ینفون بالمقابل کمال الوجود و هذا یؤدي إلی نفي وجوده، فأولئک من حیث العقل و الشرع ممثِّلة و مشبِّهة (لأنهم یصفون الله بعدم الکمال) أومعطلِّة.
وهذا الاتهام لایرد علی الجهمیة ولاعلی الشیعة والمعتزلة. فکیف یمکن لإنسان یعتبر نفسه من المسلمین أن ینفي وجود الله أو کمال وجوده، فکلام ابن تیمیة هذا اتهام لاأساس له.
إنه یقول في منهاج السنة (1/236): الذات المجردة عن العلم والقدرظ لاحقیقة لها في الخارج ولکنه یعتبر في نفس الوقت ذات الله متلازمة لصفاته. فلو أنه کان یری أن الشیئین المتلازمین، لیسا شیئاً واحداً ویمکن النظر إلی کل منهما بشکل مجرد، لأدرک أنه نفسه یوقل بذات مجردة من الصفات. لأنه إن ادعی أن هاتین الاثنتین لایمکن أن تفترقا في الخارج، فقد أثبت حاجة کل منهما للأخری. و إذا اعتقد بالذات التي لاتحتاج إلی الصفات، فقد اعتقد بتلک الذات المجردة التي یخالفها، وإذا رأی أن الذات بحاجة إلی الصفات فقد اعتقد بأنها مرکبة، فهذا یستلزم الاحتیاج بالإضافة إلی الاعتقاد بالاحتیاج في ذات الله، کما یستلزم شیئاً ثالثاً هو الترکیب. و هذه هي التهمة التي یوجهها المعتزلة والشیعة للأشاعرة و أهل السنة. وقد سقط ابن تیمیة في هذا الشرک الذي حاول الفرار منه.
فالمعتزلة و الشیعة یعتقدون بأن صفات الکمال في الإنسان مکتسبة، ولکونها مکتسبة فهي عارضة و لذلک فهي معرضة للزوال، وعلی هذا القیاس یقولون إذا کانت صفات الکمال في الله عارضة أمکن القول أنها تزول، ولذلک یقولون للتهرب من التشبیه و التعزیز التنزیه، إن صفات الله عین ذاته و لیست عرضیة دون أن یستلزم هذا الاعتقاد إنکار الصفات و تعطیل الذات من الصفات.
فالأشاعرة والموافقون لهم لم یستطیعوا تصور اتحاد الذات والصفات، وکانوا یقولون: إن القول بوحدة الذات و الصفات هو في الحقیقة القول بذات مجردة عن الصفات. وللتخلص من هذا المحذور اعتبروا صفات الله زائدة علی ذاته و هي قدیمة کذاته، و یرون أن هذا الاعتقاد لایستلزم قبول تعدد القدماء لأنهم یعتقدون بأن تلازم شیئین ذاتیاً لایستلزم تعدداً في الخارج.
فاتهامات الطرفین کل منهما للآخر من الإلزامات التي لایعتقد بها أي منهما. و کل هذه التهم من نوع الخصام و العناد الذي کان ینتهي أحیاناً إلی التکفیر، ولکن لابد من القول إن المعتزلة و الشیعة في هذه المسألة یفکرون بشکل أدق، فهم یفرقون بین الأمور المادیة و الجسمیة من جهة وبین الأمور المعنویة و المجردة، من جهة أخری ولایفرضون أحکام إحداهما علی الأخری، خلافاً لخصومهم، ولاسیما الحنابلة والکرامیة الذین کانوا لایستطیعون تصور الأمور غیر الجسمانیة و غیر المادیة والمجردة، و ینکرون الذات غیر الجسمانیة و غیر المادیة تماماً. وکان بعض الأشاعرة کالجویني و الغزالي و الفخر الرازي أعمق في هذه الناحیة من مخالیهم.
لقد أدی عدم اعتقاد الحنابلة و الکرامیة بالموجودات غیرالمادیة إلی أن یتهمهم الشیعة و المعتزلة بالتجسیم و التشبیه کما فعل العلامة الحلّي في منهاج الکرامة (بان تیمیة، منهاج السنة، 1/238 و مابعدها). وقد لجأ ابن تیمیة إلی أسالیب ووسائل کثیرة في الردّ علی هذا الاتهام وبادر إلی إیضاح معنی الجسم في اللغة و القرآن و الفلسفة والکلام وسعی للردّ علی هذه التهمة، ولکنه لم یوفق کما یبدو، ویقول: إن الذین یقولون بأن الله جسم کنظار الکرامیة و غیرهم، لهم في معنی الجسم رأي آخر، وأنه موجود قائم بنفسه، لابمعنی المرکب. واتفق الناس علی أن من قال بأن الله جسم و قصد من الجسم موجوداً قائماً بنفسه فقد سلک طریق الصواب، وإذا خطّأه أحد، فالتخطئة لفظیة (ن. م، 1/247). ویستنتج من کلامه أیضاً. أن مراد القائلین بجسمیة الله أنه غلیة و کثیف، ودعوی المدعي علیهم أنهم یسمون کل مایشار إلیه جسماً ویقولون أیضاً إنه مرکب، دعویان باطلتان (ن.م، 1/248). و معنی کلامه هو: أن الذین یقولون بأن الله جسم یعتقدون بأنه غلیة و کثیف، ولکنه غیرمرکب. ونتیجة ردوده علی العلامة في هذا الخصوص، هي أنه یری الله جسماً، ولکنه یقول: الجسم مرکباً من مادظ وصورة أو جوهر فرد. وفي هذا القول تناقض، فلایمکن أن یکون الشيء غلیظاً و کثیفاً، ولایکون مرکباً.
ویورد النزاع التالي في موضع آخر فیقول: أیمکن أن یوجد کائن قائم بنفسه و لایشار إلیه و لایری. و یجیب قائلاً: إن في ذلک ثلاثة أقوال: الأول لایمکن ذلک، بل هو ممتنع؛ والثاني، أنه ممتنع في المحدثات الممکنة، دون الواجب؛ والثالث، أن ذلک ممکن في الممکن و الواجب، وهذا قول بعض الفلاسفة و أتباعهم، و مثبتو ذلک یسمونها مجردات ومفارقات و أکثر العقلاء یقولون: إنما وجود هذه في الأذهان، لافي الأعیان. و أما الملائکة التي أخبرت بها الرسل، فالمتفلسفة المنتسبون إلی المسلمین یقولون هي العقول و النفوس المجردات و هي الجواهر العقلیة. وأما أهل الملل و من علم ما أخبر الله به من صفات الملائکة، فیعلمون قطعاً أن الملائکة لیست هذه المجردات التي یثبت هؤلاء، فإن الملائکة مخلوقون من نور کما أخبر بذلک النبي (ص)، وقد نزل جبریل علی الرسول بشکل دحیة الکلبي، کما نزلت الملائکة في أیام بدر والخندق و حنین إلی الأرض لمساعدة الرسول، ولیست الملائکة من نوع القوی و جبریل ملک منفصل و غیر الرسول (منهاج السنة، 1/243، 244).
فیری ابن تیمیة أن الموجود القائم بالنفس والذي لایشار إلیه ولایری لیس له وجود خارجي، ومن صنع الذهن، وهذا هو جسمانیة اللّه و مادیته التي یسعی ابن تیمیة لتبرئة الحنابلة عن الاعتقاد بها، ویتشبث بمعاني الجسم في القرآن واللغة والفلسفة لیتهرب من تهمة المعارضین، ویتحاشی الاعتراف الصریح بالتجسیم (ظ: ن. م، 1/244 ومابعدها).

الصفحة 1 من6

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: