الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / ابن جبیرول /

فهرس الموضوعات

ابن جبیرول


تاریخ آخر التحدیث : 1443/5/29 ۱۳:۴۳:۳۵ تاریخ تألیف المقالة

و هذه النظریة القائلة بأن الجواهر العقلیة مرکبة من مادة و صورة مسألة جدیدة یتطرق إلیها ابن جبیرول، ولابد لاستقصاء البحث فیها من العودة لإلقاء نظرة أخری علی المادة الکلیة و الصورة الکلیة، فمن جهة یمکن التساؤل: کیف یجب أن تکون هذه الصورة الکلّیة،  ینبغي قبل کل شيء أن تشتمل علی هکذا تعیّنات کلیة بشکل یعثر فیه علی جمیع الخصائص التي تمیز الأشیاء بعضها عن بعض کالمواد الجزئیة. و من ناحیة أخری نعلم أن أرسطو شرح تلک التعیّنات الکلیة التي تعتبر کل التعیّنات الأخری تخصیصات لها و أطلق علها اسم «المقولات» أو المحمولات. فالصورة الکلیة لایمکن أن تکون شیئاً آخر سوی مجموع المقولات. و بناء علی هذا یقول ابن جبیرول «المقولات التسع هي الصورة الکلیة» (ص 69). وبالطبع ینبغي الإشارة إلی أن المراد من الصورة الکلیة هنا هي الصورة الکلیة للأجسام (لتفصیل المقولات التسع، ظ: م. ن، 164-163) و علی العکس فإن المادة الکلیة هي الأساس المشترک لجمیع الأشیاء التي یمکن تعریفها بواسطة المقولات. وکما یقول ابن جبیرول فإن المادة الکلیة هي: «جوهر حافظ أو حامل للمقولات التسع» (ص 69-68). وقد شبه هذه المادة الکلیة الحاملة لجمیع اصور بکتاب مصور و دفتر أو مجلد مسطر. و من المناسبهنا الإشارة إلی أن ابن جبیرو یری – باعتباره عالماً في الأفلاطونیة المحدثة – أن الأشیاء الظاهرة، أو المرئیة في هذا هذا العالم مثالاً للأشیاء الباطنة، أو غیر المرئیة في العالم العقلي و بعبارة أخری فإن العالم الصغیر عنده مثال للعالم الکبیر (ص 109؛ قا: بدوي، أفلوطین، 93؛ أیضاً ظ: رسائل إخوان الصفا، 3/212 و ما بعدها).
و من البحوث ذات الأهمیة الکبری التي یتطرق إلیها ابن جبیرول وجود الجواهر البسیطة التي یخص بها أکثر فصول الرسالة الثالثة من ینبوع الحیاة و یقیم علیها براهیم متعددة ثم یتحدث عن «الجواهر الواسطة». فقد وردت في بدایة الرسالة الثالثة مسائل و نظریات یجدر الاهتمام بها عن اللّه تعالی فیما یتعلق بالجواهر الواسطة حیث تشتمل علی عصارة النظرة العالمیة التوحیدیة للأفلاطونیة المحدثة عند ابن جبیرول. و نظراً لأهمیة هذه المسائل فإننا نورد خلاصة لها هنا: الفاعل الأول هو بدء کل الأشیاء، ذلک لأن بدایة کل الأشیاء تفترق عن نهایتها؛ الجوهر الحامل للمقولات التسع، نهایة الأشیاء المخلوقة، فالفاعل الأول إذن یفترق عن الجوهر الحامل لتلک المقولات، ولکل الأشیاء المفارقة واسطة، فهناک واسطة بین لافاعل الأول و الجوهر الحامل للمقولات التسع تماماً، کما أنه لولم تکن الروح التي هي واسطة بین النفس والبدن، لما کان بالإمکان أن یتصل کل منهما بالآخر. و علیهذا لو کان الفاعل الأول مفارقاً کلیاً للجوهر الحامل للمقولات التسع، لما کان الاتصال بینهما ممکناً دون وجود واسطة بینهما، وإذا لم یکن هذا الاتصال «لما وجد الجوهر حتی للمحة بصر». والفاعل الأول هو الواحد الحق، لاکثرة فیه، بینما في الجوهر الحامل للمقولات التسع أکثر الکثرة. ولایوجد بعده کثرة أکثر، ذلک أن کل کثرة مرکبة تنحل في الواحد (أخذ ابن جبیرول اسم «الواحدالحق» من أثولوجیا، أیضاً ظ: بدوي، أفلوطین، 114، 177، الأفلاطونیة، 18).
ولیس الواحد الحق من جنس الجوهر الحامل للمقولات التسع. ولکن کل مبدع لایخلق إلا ما هو علی مثاله. والجوهر البسیط الآن مثل الفاعل الأول، فالفاعل الأول لم یخلق سوی الجوهر البسیط. فإن لم توجد واسطة بین الفاعل الأول و الجوهر الحامل للمقولات التسع لوجب أن یکون الفاعل الأول، فاعلاً للجوهر بذاته. وإذا کان کذلک فقد کان ذلک الجوهر إلی جانب الله أزلاً و أبداً، ولکن ذلک الجوهر لم یکن أبداً، و بما أنه لیس کذلک فلابد من وجود واسطة بین الفاعل الأولوالجوهر الحامل للمقولات التسع مدتها «الدَّهر». فالجوهر الحامل للمقولات التسع لیس متصلاً بالفاعل الأول. وفعل الفاعل الأول هو إبداع أو خلق شيء من العدم. والآن فإن الجوهر الحامل للمقولات التسع مرکب من أجزائه البسیطة، و لذلک لم یخلق من العدم. و الفاعل الأول وحده خالق أو مُبدِع و الجوهر و حده مخلوق أو مُبتدَع، فمن الواجب إذن أن یکون بینهما واسطة هي الخالق و المخلوق (ابن جبیرول، 111-107).
وهنا لابد من الإشارة إلی معنی «الجوهر» عند ابن جبیرول، فهو لایتقید في استعماله کلمة الجوهر. ومراده من الجوهر في کثیر من الحالات هو «الشيء». یقول في أحد المواضع: إن الاسم المناسب للشيء الحامل لصورة العالم (و هنا یرید العالَم الجسماني فقط) هو المادة أو الهیولی، و ذلک لأننا ننظر إلیه فقط مجرداً من صورة العالم التي حملت علیه، و لما کنا ندرکه في ذهننا أو عقلنا کشيء مهباً للحصول علی صورة العالم فیستحسن أن نسمیه مادة. کالذهب فهو مادة للختم، مجرداً من صورة الختم مستعداً لقبولها؛ و ما أن یقبلتلک الصورظ حتی یدعی «جوهراً». وینبغي عدم الاهتمام في هذا البحث بنسبة الاسم، ذلک أننا نسمي الموضوع الحامل لـ «صورة العالم» أحیاناً جوهراً و أحیاناً مادة وأحیاناً هیولی، و لانهتم أن کانت هذه الأسماء مناسبة أو غیرمناسبة، الأشماء التي تستعمل عندنا للدلالة علی شيء واحد فقط، أي الموضوع الحامل للکمیة (م.ن، 77). و عدم الدقة أو الاهتمام هذا في استعمال الأسماء یحیّر قارئ آثار ابن جبیرول أحیاناً. و عکس مانجده عند أرسطو، فابن جبیرول لایستعمل کلمتي المادة والصورة من أجل الجواهر بمعناهما الخاص. ففي کل جوهر مبتدع عنده مادة و صورة توجدان في وقت واحد یمکننا أن نمیزهما عن طریق التجرید فقط. و من ناحیة أخری فإن المادة الکلیة و الصورة الکلیة عند ابن جبیرول مخلوقتان و لکنه یورد في هذه الحالة أیضاض نظریات متعارضة. فقد ورد في أحد المواضع: ینبغي أن یقال عن المادة ماقیل عن الصورة، أي أن المادة هي مخلوقة الذات (الخالق) و الصورة مخلوقة صفة الذات، أي الحکمة والأحدیّة؛ رغم أن الذات لایمکن أن تتعین بصورة خارجة عنها؛ وهذا هو الفرق بین الفاعل أو المبدع و بین المخلوق أو المبتدع. فالفاعل هو ذات بالذات، و المخلوق ذاتان هما المادة و الصورة. فالمادة لایمکن أن توجد لحظة واحدة بدون الصورة، کأن تکون غیرمخلوقة و موجودة؛ و إنما خلقت في الوقت التي خلقت الصورة فیها، لأنه لاوجود لها بدون الصورة. أي أنها خلقت مع خلق الصورة التي حملت علیها في نفس الفترة (م. ن، 318-317). وورد في موضع آخر، أن المادة و الصورة کلاهما مخلوق الإرادة الإلهیة التي وصلت بینهما (م.ن، 312)، ولکن ابن جبیرول یقول في موضع آخر: إن ذات المادة هي قوة روحانیة توجد في ذاتها و لیس لها صورة (ص 259)؛ وأخیراً برد في موضع آخر: لاوجود للمادة في ذاتها، مالم تتحد بها الصورة، و عندئذ تحصل علی وجود بالفعل، وإلا حینما نقول: للمادة وجود، فمعنی ذلک أن لها وجوداً بالقوة. ولذلک لایمکن القول إن المادة فقدان أو عدم مطلق. ذلک لأن فیها وجوداًبالقوة، أي أن لها وجوداً غیرمرکب بالصورة، في علم الباري عزّوجلّ (ص 269-268، 49).
والآن لابد من الإشارة إلی نظریة «الجواهر الواسطة» البسیطة عند ابن جبیرول و کما رأیناً فإن ابن جبیرول یری وجود جواهر واسطة عقلیة محضة و غیر محسوسة بین الفاعل الأول (الله) والجوهر الحامل للمقولات التسع. و بعبارة أخری: أن إحدی الأصول المسلم بها في رأي فیلسوف الأفلاطونیة المحدثة، هي قضیة الفیض أو صدور الکثرات من الواحد الأول و الذي هو وجدانیة محضة و منزه عن أي کثرة أو تکثّر. ولهذا فإن ابن جبیرول یقبل أصلاً لایمکن إنکاره و هو وجود الجواهر الواسطة البسیطة العقلیة و غیر الجسمانیة. ولکنه لایکتفي بذلک، بل یخصص کل الرسالة الثالثة من ینبوع الحیاة لدراسة هذا الأصل المسلم به وإثباته. وکان ابن جبیرول نفسه واقفاً علی أهمیة هذه الرسالة أیضاً ویؤکد علیها، حیث یقول علی لسان تلمیذه: «إنک تثبت لي في الرسالة الثالثة هذه وجود الجواهر العقلیة، ولم یستطع أحد غیرک أنیثبتها، وقد حصلت علی معرفة هذه الجواهر التي لم یحصل علیها غیري بموهبتي وتوجد بدایة هذا التحقیق في هذه الرسالة» (ص 216). و یتبین لابن جبیرول أهمیة هذه المسألة حینما یقول التلیمذ للأستاذ في آخر الرسالة الثانیة: أولاً أثبت وجود الجواهر العقلیة – کما وعدتش – لأنني أری صعوبة البرهان علیه، فأنا أعتقد أنه لیس في کل ما هو موجود غیر الجوهر الحامل للمقولات التسع، و مبدعها عزّوجلّ» (ص 104). وهنا لابد من التأکید علی أن ابن جبیرول یظهر في کل البحوث و البراهین التي یوردها أنه متأثر بشکل واضح بنظریات الأفلاطونیة المحدثة، حیث یبدو علیه بوضوح تأثیر ماورد في أثولوجیا و في الخیر المحض، و حتی من حیث البیان و العبارات نری تأثیر هذین الکتابین في الرسالة الثالثة بوضوح. فابن جبیرول یعدد الجواهر البسیطة بترتیب یصل من الجوهر الأقل کمالاً والأقل بساطة إلی الأکمل و الدبسط، ورغم أنه یعتبر بناءً علی فرضه الأصلي أن للأشیاء العقلیة الکلیة و الجزئیة مادة و صورة أیضاً. و یعدد الجواهر الروحانیة التي تحوي الجوهر الحامل للمقولات التسع في أحد المواضع بما یلي: الطبیعة والأنفس الثلاث (النفس النباتیة أو النامیة و النفس الحاسّة أو الحیوانیة و النفس النطقیة أو النفس العاقلة) و العقل؛ و یذکر في موضع آخر الجواهر البسیطة بقوله؛ النفس (الروح) والعقل و الطبیعة و المادة (ص 153، 103). و بهذا تتم الإشارة إلی مراتب الفیض أو الصدور عن الفاعل الأول.
و کما أشیر من قبل فإن کل خالق أو مبدع عند ابن جبیرول یخلق ماهو علی مثاله فقط؛ والجوهر البسیط کالفاعل الأول، فالفاعل الأول لم یخلق سوی الجوهر البسیط (ص 108)؛ وذلک لوجود مفارقة مطلقة بین الفاعل الأول و المعلول الآخر (أي الجوهر الحامل للمقولات التسع)؛ لأنه لاتماثل بینهما مطلقاً، وعدم التماثل هذا یؤدي إلی اختفاء کل صلة وتوافق بینهما، إذ لایمکن وجود توافق إلا بالتماثل (ص 106). ویقال من ناحیة أخری إن فعل الفاعل الأول هو خلق أو إبداع شيء البسیطة، فلایمکن أن یکون مخلوقاً من العدم (ص 113)، و علی هذا لایمکن أن یکون الله خالقاً للجوهر الحامل للمقولات التسع مباشرة، ولابد من وجود الجوهر أو الجواهر الواسطة، ولکن لایمکن أن تکون هذه الجواهر جواهر جسمانیة محسوسة، بل ینبغي أن تکون جواهر عقلیة کلیة بسیطة.
ویعرض ابن جبیرول صورة عن طریقة عمل کل من هذه الجواهر الواسطة البسیطة، والتي یمکن العثور علی العناصر المکوّنة لها في مصادر الأفلاطونیة المحدثة و کما أشرنا في کتاب الخیر المحض. و هو یشیر إلی أفعال هذه الجواهر بالترتیب في سلسلة نزولیة بحیث یشبه فعل کل منها فعل الجوهر الأفضل، ولکنه فعل أقل کمالاً، فیقول: تشتمل صورة العقل علی کل الصور و تعرفها، فصورة النفس النطقیة (أو الناطقة) تشتمل علی الصور المعقولة و تعرفها، ولکن بحرکظ نظریة أو بحث یؤدي إلی عبورها المتوالي بواسطة تلک الصور، و هذا العمل یماثل عمل العقل؛ تأخذ صورظ النفس الحاسّة الصور الجسمانیة و تعرفها بتحریک کل الأجسام في الأماکن، و هذا العمل یماثل عمل النفس الناطقة؛ صورة النفس النامیة (أو النباتیة) تدرک ماهیات الأشیاء و تحرک أجزاءها في المکان، و هذا العمل یماثل عمل النفس الحاسة؛ وصورة الطبیعة تؤدي إلی اتصال الأجزاء و اتحادها و الجذب والدفع والتحول بینها، و هذا العمل یماثل عمل النفس النامیة. أفلا تری حینما تکون هذه الأعمال متماثلة، لابد للصور التي قد صدرت عنها هذه الأعمال، أن تکون متماثلة أیضاً (ص 248). و علی‌هذا یعتبر ابن جبیرول باعتماده علی نظرته الأفلاطونیة المحدثة أن النفس الکلیة و العقل الکلي ساریان في کل مکان و في کل الأشیاء و نافذان، فیقول: إذا لاحظت أنه لیس للجوهر البسیط [الروحاني] حد [مکاني و زماني]، و إذا ما أنتبهت إلی قدرته، وفکرت بقدرته هذه للنفوذ في کل شيء أمامه و مستعد لقبوله، وإذا ماقارنته مع الجوهر الجسماني، ستجد أن الجوهر الجسماني غیر قادر علی أن یکون في لحظة في کل مکان، و حتی أنه أضعف من أن ینفذ في الأشیاء. بینما ستری علی العکس أن الجوهر البسیط، أي جوهر النفس الکلیة سار في أنحاء العالم، و هو یحتویه بسبب لطافته  بساطته؛ کذلک ستری أن الجوهر العقلي الکلي سار في أنحاء العالم و نافذ فیه، و هذا بسبب لطافة هذین الجوهرین و قدرتهما و نورهما، و لذلک فإن جوهر العقل یسري في [باطن] کل الأشیاء و ینفذ فیها، و بناء علی هذه الملاحظات فما أعظم قدرة الله تبارک و تعالی التي تنفذ في کل الأشیاء، وتوجد في کل الأشیاء و هي فاعلة خارج الزمان في کل الأشیاء (ص 138). و من ناحیة أخری فقد تطرق الحدیث عن أن اتحاد و اتصال الجواهر الروحاینة بالجرم أو جسم العالم لابد أن یکون کالاتحاد بین روحنا و جسمنا و الآن لایتم هذا الاتحاد إلا بواسطة الإرادة الإلهیة.

نظریة الإرادة

إن بحث الإرادة الإلهیة، أو بعبارة أخری «الکلمة الفاعلة»، یشکل کما أشیر إلیه في البدء الموضوع الأساس في الرسالة الخامسة من ینبوع الحیاة، وله أهمیة خاصة عند ابن جبیرول وأکد علیه مراراً: «لیس في الوجود إلا ثلاثة أشیاء: المادة و الصورة والذات الأولی (الهویة الأولی) و الإرادة التي هي واسطة بین حدین نهائیین» (ص 43). ویقول في موضع آخر: «لأن الحدیث عن الإرادة طویل جداً، ومعرفة الإرادة کمال الحکمة، لأن الآرادة منشأ صورة العقل أو الحکمة الکاملة» (ص 304-303). ویقول أیضاً «لایمکن إدراک ما هما (أي فعل و انفعال الجواهر)؟ و من أیة طبیعة؟ و لماذا یوجدان؟ وأشیاء أخری تعرض لهما، إلا عن طریق معرفة الإرادة، لأنها هي التي تعمل في کل شيء  تحرک کل شيء» (ص 314) ویؤکد ابن جبیرول منناحیة أخری علی أن تعریف الإرادة ووضفها غیر ممکن، ولکن یمکن وصفها تقریباً بقولنا إنها «قوة إلهیة» تبدع المادة و الصورة، و تصل بینهما، و تسري من أعلی إلی أسفل مراتب الوجود، کما تسري الروح في البدن و تحرک کل شيء  تمنح النظام و الترتیب لکل الأشیاء (ص 314).
وهنا لابد من التأکید علی هذه النقطة و هي أن ابن جبیرول کان مدیناً في نظریة الجواهر الروحانیة الواسطة بین المُبدع (الله) و المادة الکلیة لکتاب الخیر المحض إلی حدّ کبیر، کما أنه مدین في نظریة الإرادة والکلمة الإلهیة، أو في قسم منها علی الأقل إلی أثولوجیا، و حتی یمکن القول إنهاکانت سبباً لاهتمام الفلاسفة المسیحیین في القرن الوسطی، واعتباره عالماً مسیحیاً لدی الکثیرین منهم. و یمکن أن نجد آثار منالأفلاطونیة المحدثة لأثولوجیا في کل نظریة الإرادة و الکلمة الإلهیة عند ابن جبیرول: «تتحرک المادة لقبول الصورة، و مثال حرکتها للوصول إلی الصورة و الاتحاد بها هو حرکة النفس (أو الروح) المحرومة منالعلم، لکسبه و قبوله؛ فحینما تصل صورة ذلک العلم إلی النفس و توجد فیها، تصبح النفس «عالمة» بسببها،  کذلکتصل الصورة إلی المادة، تصیر المادة بذلک مُصَوَّرة،  تحفظ الصورة» و الآن لنتساءل: ما الباعث إلی حرکة المادة لقبول الصورة؟ و یجیب ابنجبیرول: علتها شوق المادة إلی قبول الخیر و السعادة عن طریققبول الصورة، و ینبغي قول هذهالنقطة حول حرکة جمیع الجواهر؛ ذلک لأن حرکة جمیع الجواهر تتجه إلی الواحد و بعلة الواحد، و ذلک لأن کل ما هو موجود هو شوق الحرکة للحصول علی شيء من خیر الذات الأولی. و اختلاف الحرکات الموجودة الآن إنما بحسب ترتیبها في القر أو البعد؛ فکلما کان الجوهر أقرب إلی الوجود الأول کان وصوله إلی الخیر أسهل، و إذا کان بعیداً عنه لایحصل علی الخیر إلا عن طریق حرکة طویلة أو حرکات متعددة وأزمنة متعددة. أما علة هذه الحرکة فهي أن حرکة کل متحرک لاتتم إلا بغرض الحصول علی الصورة.  الصورة الآن لیست شیئاً سوی تأثیر من الواحد، والواحد هو الخیر. فحرکة کل شيء إذنلاتتم إلا بعلة الخیر الذي هو الواحد. ودلیله أنه لیس في أي من الموجودات شوق للتکثر، بل للجمیع شوق للتوحد؛ فکل شيء یشتاق إلی الوحدة (ص 304-303). ولکن ماهو الدلیل علی أن حرکة المادة و الجواهر الأخری هو الشوق والحب؟ «لأن کل الغایة من سعي الشوق و العشق هو البحث للوصول إلی المعشوق و الاتحادیه و المادة تسعی للاتحاد بالصورة فحرکته هي بسبب الشوق الذي یشعر به نحو الصورة لزوماً، و هذا ماینبغي أن یقال عن کل شيء یتحرک بحثاً عن الصورة» (ص 304؛ قا: بدوي، أفلوطین، 6). و هنا یطرح التلمیذ سؤالاً مهماً و هو: إذا کانت حرکة کل متحرک، و بصورة عامة حرکة المادة بقصد القبول، هي معلولة شوقه إلی الذات الأولی فقط. فلابد أن یوجد تشابه بینهما، لأنه لایوجد شوق واتحاد إلا بین المتشابهین. فیجیب ابن جبیرول أنه: «لاتوجد مشابهة بین المادة والذات الأولی، إلا في أن المادة تکسب النور و الجلال مما في ذات الإرادة، و هذا ما یبعثها علی الحرکة نحو الإرادة و الشوق؛ ومع ذلک فإن [المادة] لاتتحرک للوصول إلی ذات الإرادة و إنما للوصول إلی صورة أبدعتها الذات الأولی» (ص 305-304). و علی هذا فإن الشوق إلی الصورة موجود في کل الجواهر، أو بتعبیر آخر کل مادة هیولانیة جزئیة مشتاقة إلی صورة جزئیة، کما أن المادة الهیولانیة في النباتات والحیوانات تتحرک في مسیر التکوّن لقبول صورة النباتات و الحیوانات؛ إنها تخضع لفعل الصورة الجزئیة و تصبح الصورة الجزئیة فعالة فیها. و علی هذا النمط فإن النفس الحاسّة تشتاق إلی الصور المناسبة لها، أي إلی الصور الحسّیة. وکذلک فإن النفس الناطفة مشتاقة للصور المعقولة؛ وذلک لأن النفس الجزئیة التي تسمی «العقل الأوّل» هي في البدء کمادة هیولانیة تقبل صورة واحدة، ولکن حینما تقبل صورة العقل الکلي الذي هو «العقل الثالث» و تصیر عقلاً، یسهل لها العمل و تسمی «العقل الثاني» (ص 306). ولهذا یری ابن جبیرول أن کل الکثرات تنزع إلی الوحدة، و بصورة عامة فإن کل الأشیاء المختلفة و المنقسمة في مراتبه العالیة و النازلة، أي الجزئیات و الأفراد و الأنواع و الأجناس و الفصول و الخواص و الأعراض، و کل الأشیاء المتقابلة و المتضادة تتحرک نحو الاتحاد و مشتاقة للتوافق، وذلک لأنها مهما کانت متفرقة بعضها عن بعض فهي متصلة، و مهما کانت مختلفة فإنها متفقة في شيء یحفظها في المجموع و یوصلها و یدفعها لتصیر واحدة و متوافقة متناسقة. و یوجد في کل هذ الأعمال أصل مشترک، و هو أن الوحدة منتصرة في کل شيء و کل مکان و منتشرة في کل الأشیاء و حافظة لها جمیعاً (ص 307). ولکن وجود خصلة مشترکة بین المادة الکلیة و الصورة الکلیة هو الشوق إلی الاتحاد، فلابد أنهما اکتسبتا هذه الخصلة المشترکة من جوهر فوقهما هي الإرادة الإلهیة، والتي هي«قوة روحانیة و حتی فوق الروحانیة» (ص 312) والتي تسمی في موضع آخر «الکلمة الفاعلة، أي الإرادة» (ص 309).
ویعتبر ابن جبیرول الإرادة مبدعة و خالقة للمادة و الصورة، و محرکة لهما (ص 81) ولکن وإن کانت الإرادة مبدعة للمادة و الصورة و با عثة لاتحادهما غیر أنه لایمکنها أن تنفصل تماماً عن مخلوقاتها، بل هي تشمتمل علی کل الأشیاء و ساریة و نافذة فیها. و الکلمة الفاعة التي هي الإرادة منشأ حرکة کل الأشیاء، ولکن الفرق بین الحرکة و الکلمة الفاعلة هو أن الکلمة قوة متفرقة في الجواهر الروحانیة تمنحها المعرفة والحیاة، والحرکة قوة متفرقة في الجواهر الجسمانیة، تعطیها قوة الفعل والانفعال، وذلک لأن الکلمة، أي الإرادة حینما تبدع المادة و الصورة تتصل بهما کما تتصل الروح بالجسد. والکلمة تنتشر فیها دون أن تفترق عنها، و هي نافذة فیها کلها من الحد العالي إلی الحد النازل (ص 309). و هنا یشیر ابن جبیرول إلی نقطة رائعة، وهي کیفیة الاتصال بین الذات الأولی والمادة، فالمادة لاتتلقی الصورة من الذات الأولی بدون واسطة وإنما بواسطة الإرادة» ولذلک یقال: المادة مثل عرش أو أریکة واحدة، والإرادة التي تمنح الصورة متربعة علی ذلک العرش و مستلقیة» (ص 319).
ویجدر بنا أن نشیر في آخر هذه الدراسة إلی نزعة ابن جبیرول الفکریة نحو الأفلاطونیة المحدثة – العرفانیة کما نجدها في آخر ینبوع الحیاة. إن نهایة مرحلة المعرفة هي معرفة الإرادة، والتي هي في النهایة قوة لاتمتزج بالمادة و الصورة، غیر أن معرفتها لایمکن إلا بقدر امتزاجها بالمادة واصورة. وبعد هذه المرحلة، یجب السعي إلی تسامي الروح بالتدریج بمساعدة الإرادة لتصل إلی المبدأ و الأصل. و یصف ابن جبیرول الثمرة النهائیة لهذا السعي بقوله: «التحرر من الموت و الاتصال بینوبع الحیاة»؛ والذي یساعد الروح في هذا المسیر هو أنه «یجب أن یبعد نفسه أولاً عن الأشیاء المحسوسة، وأن ینفذ بواسطة الروح في الأشیاء المعقولة، و یتصل بشکل کامل و کلي بـ «مَن» هو معطي الخیر» (ص 322؛ قا: بدوي، أفلوطین، 182).
إصلاح الأخلاق، هو أثر ابن جبیرول الوحید الذي ظل مصوناً من صروف الحوادث، و لایزال متنه العربي موجوداً.وهذا الکتاب في الأخلاق العملیة، و کما ذکر أنفاً، فإنه علی عکس نبوع الحیاة لاتوجد فیه نظریات مبتکرة حدیثة في البحوث الأخلاقیة سوی بعض النقاط الانتقائیة و التلفیقیة. وقد تحدث المؤلف في هذا الکتاب جریاً منه علی نظریة العالمیة الکلیة في الأفلاطونیة المحدثة الممتزجة بالمیول العرفانیة عن الخصال و النقائص في الروح الإنسانیة، کما یتابع ابن جبیرول في هذا الکتاب أیضاً الحدیث عن نفس النظریة الأساسیة التي هي المحور الأصلي والهدف النهائي لوجود الإنسان في ینبوع الحیاة و ذلک في رحاب الأخلاق العملیة، و تقوم هذه النظریة علی أن الإنسان أکمل المخلوقات و هو الهدف النهائي للخلق و أن معرفة العالم و سلوکه والعمل الأخلاقي یساعده في التغلب علی شهواته النفسانیة البهیمیة وإطلاق روحه من قیود العلام المادي و أسره، لیستطیع الوصول أخیراً في العالم العقلي إلی الراحة و السعادة، أو کما یقول ابن جبیرول: «تستطیع الروح بالمعرفة (العلم) و العمل أن تتصل بالعالم الآخر (الأعلی)» (ص 36). و من ناحیة أخری فإن للنفس الإنسانیة مرتبتین عالیة و نازلة أحدهما مرتبة النفس العقلیة أو العاقلة و الأخری مرتبة النفس النبانیة (النامیة) والحیوانیة. ولکلتا المرتبتین فضائل و رذائل. فرذائل النفس في عداد الأمراض التي ینبغي علی الإنسان السعي لعلاجها.
ویتبع ابن جبیرول في کتابه الأخلاقي هذا أسلوباً خاصاً. فهو یربط الفضائل و الرذائل في جسم الإنسان بالحواس الخمس و الأخلاط الأربعة (الدم و البلغم و السوداء و الصفراء)، حیث ینطبق کل منها بدوره مع أحد الأرکان أو العناصر الأربعة: النار و الماء و الهواء و التراب، والطبائع الأربع: الحرارة و البرودة و الرطوبة و الجفاف. وهذا الاتصال بین الخصال الأخلاقیة و الناحیة «الفیزیولوجیة» للوجود الإنساني، أو بعبارة أخری فإن الاتصال بین العالم الصغیر و العالم الکبیر هو الناحیة الخاصة الوحیدة لنظریات ابن جبیرول في علم الأخلاق، في حین أن هذه النظریة معروفة و منتشرة تماماً في البیئة العلمیة في عهده و حتی قبله، و أنها تنبع من نظریات أمثال أرسطو و جالینوس و أبقراط. و الفرق هو في براعة ابن جبیرول في تلفیق کل عناصر تلک النظریات في نظریة أخلاقیة متناسقة، وإن کان هذا التلفیق مختلقاً تقریباً في کل الحالات و حتی یمکن القول بأنه مضحک. فهو یربط بکل من الحواس الخمس خصلتین حسنتین و نقیصتین، فقد ربط مثلاً التکبر و التواضع و الحیاء والوقاحة بحاسة البصر التي یری أنها أشرف الحواس؛ و ربط الحب أو العطف و الرحمة، و عدم الرحمة أو القسوة والنفرة بحاسة السمع؛ والغضب و حسن النیة و الحسد و المثابرة علی العمل بحاسة الشم؛ وربط السرور و الحزن و التوبة و التأسف و الهدوء الباطني أو السعادة بحاسة الذائقة؛ و ربط السخاء و البخل و الشهامة و الجبن بحاسة اللمس. و استند خلال البحث في کل من هذه الارتباطات بأقوال التوراة، علی أساس التشابه و التطابق بین الألفاظ، ولکنه لایقوم بدارسة و تحلیل عمیقین. و بصورة عامه فإن کتاب إصلاح الأخلاق لایتمتع بترابط واقعي و هو مایعترف به ابن جبیرول نفسه، فیعتبر ضعفه و نواقصه بسبب المصاعب الشخصیة في حیاته و الاضطرابات الاجتماعیة في زمانه (للاطلاع علی الأرکان الأصلیة لبحوث ابن جبیرول الأخلاقیة، قا: رسائل إخوان الصفا، 2/456-479).
و یجدر أخیراً التنویه إلی التأثیر الإیجابي والسلبي لکتاب ینبوع الحیاة خلال القرن 13م و ما بعده، و کثیراً ماکان لنظریات ابن جبیرول موافقون و معارضون بین المتکلمین و الفلاسفة المسیحیین و الیهود و لاسیما المسیحیین. فکان ممن ینزع إلی نظریاته مباشرة و یعتمد علیه في کتاباته دومینیکوس غوندیسالینوس مترجم ینبوع الحیاة إلی اللاتینیة. و کان من أشهر معارضي نظریات ابن جبیرول الأساسیة و لاسیما حول المادة الکلیة (أو الهیولی الأولی) ووجود المادة و حتی في الجواهر الروحانیة و کذلک نظریة الإرادة أمثال آلبرت الکبیر (1207-1280م) والقدیس توماس آ:ویناس (1225-1275م). و یجب ألّا ننسی أیضاً تأثیر عقائد ابن جبیرول علی أشخاص حکمت الکنیسة الکائولیکیة علی نظریاتهم رسمیاض في القرن 13 م و مابعده، أي النظریات التي وجدت فیها الأوساط الکنسیة صبغة «وحدة الوجود» ویمکن ملاحظة هذا النوع من التفهم لأفکاره – المنبثقة إما عن سوء نیة، أو عدم التعمق في معرفة أسلوبه و نظامه الفلسفي – حتی القرن 16 م و لاسیما عند الفیلسوف الإیطالي المقتول جوردانوبرونو (1548-1600م) (ظ: مونک، 301-291).

المصادر

ابن جبیرول، سلیمان، إصلاح الأخلاق (ظ. ما -، وایز)؛ ابن صاعد الأندلسي، صاعد، طبقات الأمم، تقـ: لویس شیخور، بیروت، 1912م؛ بدوي، عبد الرحمن، الأفلاطونیة المحدثة عند العرب، القاهرة، 1955م؛ م.ن، أفلوطین عند العرب، الکویت، 1977م؛ رسائل إخوان الصفا، بیروت، دار صادر؛ الشهرزوري، محمد، نزهة الأرواح، تجـ: مقصود علي تبریزي، تقـ: محمدتقي دانش پژوه و محمد سرور مولایي، طهران، 1365ش؛ وأیضاً:

Altmann, A. and S.M. Stern, Isaac Israeli, A Neo-Platonic Philosopher of the Early Tenth Century, His Works Translated with Comments and an Outline of His Philosopy, Oxford, 1958; EI2, The Encyclopaedia of Philosophy, England, 1972; Ibn Gabirol, Livre de ta source de vie (Fons vitae), tr. J. Schlanger, Paris, 1970; Judaica; Kaufmann, D., Studien uber Salomon ibn Gabirol, Budapest, 1899; Munk, S., Mélanges de philosophie juive et arabe, Paris, 1955; Schlanger, J., La philosophie de Salomon Ibn Gabirol, Leiden, 1968; Wise, s., The lmprovement of the Moral Qualities, New York, 1902
شرف‌الدین خراساني (شرف)

الصفحة 1 من2

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: