الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الفلسفة / الإبداع /

فهرس الموضوعات

الإبداع


تاریخ آخر التحدیث : 1442/12/29 ۱۳:۴۹:۴۳ تاریخ تألیف المقالة

وکما أشرنا یمکننا أن نجد کلمة ومعنی الإبداع عند العلماء والمفکرین الإسماعیلیین أکثر من غیرهم. فقد فاقوا الآخرین في اعتبارهم حملة الفکر الشیعي لمفهوم الإبداع. ویبدو بوضوح التشابه في تناوله بینهم و بین ابن سینا وأیضاً الأفلاطونیة الحدیثة في کتاب أثولوجیا. فمعنی الإبداع عند مفکري الاسماعیلیة هو «الموجدیة المطلقة» أو «الإیجاد عن لیس» و أنّ المُبِدع أو معطي الوجود، یخلق جمیع الموجودات بدون «رَویّة وفکر» في اصطلاح أثولوجیا، أي دونتکوّن صورها في علمه من قبل. و یصّر علی‌هذه النقطة أبویعقوب السجستاني (تـ 360/971) أحد أوائل المؤلفین الإسماعیلیین و أبرزهم. وقد أثّرت أفکاره ونظریاته علی تکوین عقائد المؤلفین الإسماعیلیین بعده. یقول في معنی الإبداع: «والذي قال إن الباري عزّوجلّ أبدع هذا العالم، وصورته معلومة عنده قبل الإبداع … لم یعط القیاس حقّه … فأما المبدع الذي یبدع الشيء لامن شيء فلایحتاج إلی علم مایبدعه … فمن ههنا قلنا: إذ أبدع هذا العالم فلاصورة له عنده معلومة قبل إبداعه هذا العالم، لامن شيء… وهو الحقّ الواضح» («کتاب الینابیع»، 76-77). وکان الإسماعیلیون یربطون بین کلمة الإبداع و بین الکلمات القرآنیة «کُن» و «أَمر» و «کلمةُ الله»، ثم یؤوّلون کلمة کُن و کلمةُ الله لإثبات سلسلة المراتب الصدوریة (العقل، النفس الکلّیة، الطبیعة)، وعلاقتها بعلم الوجود ومسألة الإمامة من وجهة نظرهم.  یتحدّث السجستاني في کتابه الفارسي عن هذه الفکرة و یکزرها قائلاً: «وأما الذي هو مطلق في الجوهر، یعنی العقل، کانه هو مبدَع بإبداع من مبدِع و معلول بعلیة عن عالَ. والمعلولیة والمبدعیة صفتان للعقل الأول، المخلوق لامن شيء و صفة المخلوق الأول و جمیع المخلوقات بعیدة عن الخالق … و هذه الوجودات بعیدة عن الخالق لأنه مجد الوجودات. و بأمره ظهرت جمیع الوجودات … واعلم أنه طالما لم تنتقل الأشیاء من حدّ الإبداع إلی حدّ التکوین والتولید، لایظهر العقل، ولا البذر الموجود داخله … إذن في الوقت الذي یصل أمر الله و هو الإبداع إلی الناس، صار الإنسان ناطقاً و متمیزاً و اتحد العقل معه» (السجستاني، کشف المحجوب، 7 و 13، 19، قا: ن. م، 22). ویستعمل السجستاني کلمة «هَست کُن» مقابل، مُبدِع و «هَست کَرده» مقابل مُبدَع. کما یستعمل «هَست کَردَن» مقابل إلابداع (ن. م، 13، 23). العالم والمؤلف الآخر الإسماعیلي هو أحمد بن عبدالله الملقّب بحمید‌الدین الکرماني (تـ 411/1020)، کان تلمیذاً لأبي یعقوب السجستاني. و ربّما یمکن اعتباره أبرز الواضعین للنظریات الفلسفیة عند الاسماعیلیة، یؤیّد ذلک تألیفاته الکثیرة، وأنه عرف بحُجة العراقین بعد فترة من نشاطاته العلمیة والعملیة وأهم کتبه الفلسفیة والقائم علی أساس النظرة الکونیة للإسماعیلیة، کتاب راحة العقل. وقد أشرنا إلی أن مؤلفي الإسماعیلیة کانوا أکثر استعمالاً من غیرهم لکلمة الإِبذاع في بحوث الخلق، وذلک لأن معنی الإِبداع أنسب وأکثر ملاءمة مع اهتمامهم الکلّي بعالم الوجود خالقه. لذلک استعمل أکثر هم کلمة الانبعاث بدل کلمات الخلق أو الفیض أو الصدور. و کتابات الکرماني المهمّة طافحة بلکلمات الإِبداع والمُّدِع والمُبدَع. نکتفي هنا بنقل نماذج منها، یقول في أحد المواضع: «إن الذي یترتّب أولاً في الوجود هو المتصوّر أنه لم یکن، فوجد علی طریق الإِبداع والاختراع لامن شيء ولاعلی شيء ولافي شيء ولابشيء ولالشيء ولا مع شيء الذي هو الشيء الأول» (ص 157)، ویعرف الکرماني بناء علی هذه النظریة المخلوق الأول أو «المُبَدع» بقوله: «المُبَدع الأول الذي هو العقل الأول، لایعقل ما هو خارج عنه الذي هو مبدعه سبحانه» (ص 194). ویقول في موضع آخر «المبدَع الأول علة لوجود الموجودات الکائنة کالواحد الذي هو أول الأعداد … فالمبدَع الأول علة لوجود ما سواه، فهو المحرک الأول والعلة الأولی» (ص 200-201). وهنا یمکن بیان أن أرسطو هو المصدر الأول لاتفاق الرأي حول العقل الأول بین جمیع الفلاسفة المسلمین بمختلف اتجاهاتهم المذهبیة ونحلهم. یقول الکرماني: «إن العقل الأول، هو المحرک الذي لایتحرک (ص 199)، وهکذا العقل یحرک الأشیاء الأخری بالحب أو الشوق و تحریکه للغیر علی نحو ماتکون حرکة المحبوب للمحبّ إلیه، أو علی نحو تحریک حجر المغناطیس للحدید (ص 199-202). ویری أرسطو أن هذا العمل الذي یعمله الله، لأنه أول محرک بلاحرکة (ظ: أرسطو، أن هذا العمل الذي یعمله الله، لأنه أول محرک بلاحرکة (ظ: أرسطو، «عن الطبیعة»، الکتاب الثامن، الفصل الخامس، ولاسیّما بدء الفصل السادس،  258 b 10: to prōton Kinoun akinēton). و یورد الکرماني من ناحیة أخری نظریة معروفة ثانیة یشترک فیها جمیع الفلاسفة المسلمون. وهي اتحاد العاقل والمعقول فیقول: «إن المُّدَع الأول عقل و عاقل ومعقول… والمعلوم هو العالِم هو المعلوم» (ص 202؛ قا: ابن سینا، النجاة، 243-245: وإذ قد ثبت واجب الجود، فنقول إنه بذاته عقل و عاقل ومعقول»؛ وأیضاً ظ: أرسطو، متافیزیک، 399 و ما بعدها).
 وکان ناصرخسرو (394-481/1004-1088) من المتعصّبین للنظرة العالمیة للإسماعیلیة في المناطق الشرقیة من العالم الاسلامي، وعاش في عهد الخلافة الفاطمیة في مصر والمغرب و هو یطرح مسألة «الإبداع» من جهة نظر الإِسماعیلیین الفلسفیة بشکل یبدو التشابه فیه واضحاً مع آراء السجستاني والکرماني. فقد خصّص في کتابه جامع الحکمتین فصلاً مشبعاً بمفهوم الإبداع. یقول في أحد المواضع: یقولون الإبداع و یقولون الاختراع هما إیجاد شيء لامن شيء ویقولون الخلق هو تقریر شيء من شيء، کما یصنع النجار السریر من الخشب فهو خالق السریر و مبدع صورته، والناس غیر قادرین علی إبداع الجسم (ص 210، 211؛ وأیضاً ظ: کربن، 144-1). ویقول في موضع آخر: إن جود العالم بمافیه بأمر من الله، ویقولون عنه الإبداع وهو أمر یکون بحرفین هما «کُن» … کما قال الله تعالی: إنّما قولُنا لشیءٍ إذا أردناهُ أن نَقولَ لَهُ کُن فَیکون (النحل / 16/40)، ثم یضیف تبعاً للإدارک الباطني والتأویلي للإسماعیلیین المشترک لظهور تسلسل مراتب الوجود، قائلاً: «وتنبعث النفس الکلیة من العقل الکلّي بقوة أمر الباري سبحانه، وقیل: کانت الکاف بمثابة العقل الکلّي وجاءت النون بمثابة النفس الکلّیة لیکون العالم» (ن. م، 77). و یتحدّث ناصرخسرو في کتابه الفارسي الآخر خوان الاخوان عن معنی الإِبداع والفرق بینه وبین الخلق کحدیثه تقریباً في جامع الحکمتین، فیقول: «المُبدِع الحق هو الذي یظهر الشيء لامن شيء. وجمیع المبدَعات یعجزون عن هذا الصنع … والمُّدَع هو شيء لامن شيء آخر، والمخلوق هو شيء یکون من شيء. فالمُبدِع الحق لیس له اسم من جهة «الهُوِیّة»، واسمه من جهتنا – ونحن المظهَرون – المُبدِع الحق، أي مظهر الشيء لامن شيء… والمخلوق الأول النفس الکلّیة، وهي أول شيء ظهر من شيء، أي أن ظهوره بواسطة العقل بأمر من الباري سبحانه» (ص 285، 286). و بالتالي یقول في موضع آخر من هذا الکتاب: «وقیل یظهر من العقل جوهر آخر بالإنبعاث، بلازمان، حسيّ و همي. والفرق بین الإِبداع والانبعاث أن الإنبعاث شيء لایکون في مکان و زمان، ولکنه یظهر من شيء آخر، والإبداع شيء لایکون في زمان ومکان و لکنه لایظهر من شيءآخر» (ن.م، 67). وعلی‌هذا فإن ناصر خسرو کان یستعمل کلمة «الإنبعاث» التي کان قداستعملها الإسماعیلیون واستحسنوها، کما یبیّن الفرق بینها و بین الإبداع. والکرماني یفرّق بدقّة بین الإبداع والإنبعاث: «الإنبعاث انفعال ما، لاعن قصد أول، وهو وجود یحصل عنه ذات جامعة لأمرین، بأحدهما تکون محیطة، وبالآخر تکون محاطة، فتشرق تلک الذات عند ملاحظتها ذاتها، واغتباطها بها، فیحصل من بین الأمرین خارجاً عنها أمر یثبت بثبوت الذات… فالإنبعاث سطوح نور عن ذات المُبدَع الذي هو العقل الأول ثابت قائم» (ص 207، 209).
إن کل ما وجدناه عند ناصرخسرو حول انبعاث النفس الکلیّة من العقل الکلّي نجده في کتاب أحد الإسماعیلیین الآخرین، الحسین بن علي بن محمد بن الولید ثامن الدعاة الإسماعیلیین في الیمن (تـ 667/1268)، فبعد أن یشیر إشارة عابرة في رسالة المبدأ والمعاد التي تتناول الإِبداع والانبعاث، إلی مسألة التوحید وعلم الوجود وعلم الکونیات لدی الغنوصیة یلفت النظر إلی أنها تقوم علی أساس نظریة الإبداع: اعلم أن غیب الغیوب – جلّ و علا – أبدع العالم مرة واحدة بدون زمان و مکان، و بصور نورانیة کثیرة لاتحصی … ثم إن إحدی هذه الصور المبدعة نظرت إلی نفسها و غیرها وفکرت بها … فعلمت أن لها وللأخریات مبدعا لاتستطیع إدراکه … و بعملها هذا أصبح جدیراً أن تسمّی «الأول» و «السابق» وهذا یسمّی «العقل الأول» و «المُبدَع الأول» و «القلم». ثم إن صورتین من بین تلک الصور (النورانیة التي لاتحصی) أدرکتا کالمُبدَع الأول، ونظرتا مثله إلی نفسیهما و نفتا عنهما و عن الأخریات الألوهیة. واعترفتا بألوهیة مُبدِعهما وشهدتا علی ذلک… وبعد هذا العمل سمّیت کل منهما «منبعثاً» لأنهما انبعثتا باتباعهما لـ (المُبدَع) الأول وفعله … و کانت احداهما أسبق من الأخری في التسبیح والتقدیس والتوحید فصار من الأولی أن ینتخبها العقل الأول السابق باباً و حجاباً لیخاطب من هناک الأشیاء الأخری… وهذه تسمّی «النفس الکلیة» و «الانبعاث الأول» … و «اللّوح» (ص 102، القسم 4، 103، القسمان 7 و 8، 104، القسم 9، وکذلک ظ: جمیع المباحث حتی ص 100؛ کربن، 140-133).
واذا ما تابعنا المسیرة التاریخیة لمسألة الإبداع عند العلماء والفلاسفة المسلمین في القرن 6/12 نلتقي أولاً بفیلسوف مشائي أصیل و هو ابن رشد (تـ 595/1198)، حیث یشرح کلمة الإبداع ومفهومها في المواضع التي یتحدّث فیها عن نظریات وعقائد الجماعات المختلفة حول الخلق و بدء خلق العالم وینتقدها. ولکنه عندما یبادر إلی البحث عن بدء الوجود وخلق العالم یستعمل کلمات الاختراع والخلق والإیجاد وصنع الصانع، کفیلسوف متعصّب لأرسطو تارة، وکعالم مسلم ومؤمن بالنظرة الاسلامیة والقرآنیة للعالم تارة أخری. وحینما یعالج مسألة ظهرو الأشیاء من المبدأ الأول یستنتج ضمن انتقاده لنظریات ابن سینا أن عالم الوجود و جمیع ما فیه من أشیاء معلول علّة واحدة و تتعلّق بها. ویقول: یری الفلاسفة أن لها (أي لمبادئ الموجودات) من المبدأ الأول مقامات معلومة لایتمّ لها وجود إلا بذلک المقام منه کما قال سبحانه: ومامِنّا إلا لهُ مقامٌ معلومٌ (الصافات/ 37/164)، وأن الارتباط الذي بینها هو الذي یوجب کونها معلولة بعضها عن بعض و جمیعها عن المبدأ الأول وأنه لیس یفهم من الفاعل والمفعول والخالق والمخلوق في ذلک الوجود إلا هذا المعنی فقط، وما قلناه من ارتباط وجود کل موجود بالواحد، فذلک خلاف مایفهم ههنا من الفاعل والمفعول والصانع والمصنوع، فلو تخیّلت آمراً له مأمورون کثیرون و أولئک المأمورون لهم مأمورون آخرون، ولا وجود للمأمورین إلا في قبول الأمر وطاعة الأمر، و لا وجود لمن دون المأمورین إلا بالمأمورین، لوجب أن یکون الآمر الأول هو الذي أعطی جمیع الموجودات المعنی الذي به صارت موجودة، فإنه إن کان شيء وجوده في أنه مأمور فلاوجود له إلا من قبل الآمر الأول و هذا المعنی هو … الخلق و الاختراع والتکلیف … (تهافت التهافت، 186، 187). و کما أشرنا سابقاً کان ابن رشد من أتباع أرسطو المتعصّبین والموالین له في نظرته العالمیة من جهة، کما کان فیلسوفاً متدیّناً ومسلماً مؤمناً یسعی إلی إقامة الأسس الإیمانیة علی البراهین العقلیة ویجعلها کما یقول متمیّزة عن عقائد «الجمهور» و کان یسعی أیضاً في بحثه لمسألة بدء عالم الوجود وخلقه إلی الاعتماد علی أساس النظرة القرآنیة والاسلامیة للعالم. وبأسلوب عقلي والاستعانة بالأدلة والبراهین العقلیة والمنطقیة، وأن یوفّق بین التعالیم القرآنیة والوحي الإلهي والمبادئ الفلسفیة، ولذلک ألّف کتابین في هذا الخصوص: أحدهما فصل المقال في مابین الحکمة والشریعة من الاتصال، والآخر (الکشف عن) مناهج الأدلّة في عقائد الملّة، وهو یورد في کتابه الثاني الذي یبدو أکثر بحثاً عمقاً آراءه الخاصة وما استنتجه حول الخلق والإبداع. ولکن لابد من الإشارة هنا إلی أن ابن رشد کان یمتنع إلی حد الإمکان عن استعمال کلمة الإبداع في إطار نظرته الفلسفیة ویستبدلها بالکلمتین القرآنیتین: الصنع والخلق، ثم الاختراع. وهنا نشیر أولاً إلی استنتاجاته الکلیة من خلال نظرته کمسلم مؤمن، ثم نورد باختصار أدلّته الفلسفیة، حیث یقول: «اعلم أن الذي قصده الشرع من معرفة العالم هو أنه مصنوع لله تعالی و مخترع له. و أنه لم یوجد عن الاتفاق و من نفسه. فالطریق التي سلک الشرع بالناس في تقریر هذا الأصل لیس هو طریق الأشعریة» («الکشف…»، 108) وبعد أن یدرس عقائد المتکلّمین ولاسیّما الأشاعرة وینتقدهم، وکذلک طریقة الصوفیین یستنتج أن الطریقة للوصول إلی حقیقة الخلق ومعرفة الله في نظر الشرع و کتاب الله وعقائد الصحابة تنحصر في طریقتین: أحداهما طریقة الوقوف علی عنایة الله بالانسان و خلق جمیع الموجودات من أجلها، ولنسّم هذه دلیل العنایة والطریقة الثانیة ما یظهر من الاختراع لجواهر الأشیاء الموجودات مثل اختراع الحیاة في الجماد و الإدراکات الحسّیة و العقل، ولنسمّ هذه دلیل الاختراع، فأما الطریقة الأولی فتنبني علی أصلین: أحدهما أن جمیع الموجودات التي ههنا (في هذا العالم) موافقة لوجود الانسان، الأصل الثاني: أن هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلک مرید. إذ لیس یمکن أن تکون هذه الموافقة بالاتفاق… وأما دلالة الاختراع فیدخل فیها وجود الحیوان کله ووجود النبات ووجود السموات (ن. م، 65). ثم یبادر إلی الاستدلال علی کل من هاتین الطریقتین فیقول: إن الطریقة الأولی أي موافقة جمیع الموجودات لوجود الانسان فیحصل الیقین بذلک باعتبار موافقة اللیل والنهار، والشمس والقمر لجود الانسان، وکذلک موافقة الأزمنة الأربعة له. والمکان الذي هو (الانسان) فیه أیضاً و هو الأرض، وکذلک تظهر أیضا موافقة کثیر من الحیوان له والنبات والجماد، وجزئیات کثیرة مثل الأمطار والأنهار والبحار و بالجملة الأرض والماء والنار والهواء وکذلک أیضاً تظهر العنایة في أعضاء البدن وأعضاء الحیوان. وأما الطریقة الثانیة أي دلالة الاختراع، فهي موجودة بالقوة في فطرة جمیع الناس و تنبني علی أصلین: أحدهما أن کلّ الموجودات مخترعة، وهذا معروف بنفسه في الحیوان و النبات، کما قال تعالی: … إن الذین تدعون من دون الله لن یخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له (الحج/ 22/73)، فإنّا نری أجساماً جمادیة ثم تحدث فیها الحیاة، فنعلم قطعاً أن ههنا موجداً للحیاة وهو الله تبارک و تعالی. وأمّا السموات فنعلم من قبل حرکاتها التي لاتفتر أنها مأمورة «بالعنایة» بما ههنا و مسخّرة لنا، والمسخّر المأمور «مُختَرَع» من قبل غیره ضرورة. وأما الأصل الثاني: أن کل مُخترَع فله مُخترِع، فیصح من هذین الأصلین أن للموجود فاعلاً مخترِعا له، و لذلک کان واجباض علی من أراد معرفة الله حق معرفته أن یعرف جواهر الأشیاء، لأن من لم یعرف حقیقة الشيء لم یعرف حقیقة الاختراع. ثم یضیف ابن رشد قائلاً: إن جمیع الآیات القرآنیة التي تشیر إلی وجود الصانع تنحصر في هذین الجنسین من الدلالات. ثم یورد آیات تتضمن دلالة العنایة: ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً … (النبأ / 78/ 6-7) و أیضا: تبارک الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فیها سراجاً وقمراً منیراً (الفرقان/ 25/61) و: فلینظر الانسان إلی طعامه (عبس/ 80/24). أما الآیات التي تتضمن دلالة الاختراع فهي: فلینظر الانسان ممّ خلق، خلق من ماء دافق (الطارق / 86/5-6) وأیضاً «أفلا ینظرون إلی الإِبل کیف خلقت (الغاشیة/ 88/17)، و: إني وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض (الأنعام/ 6/79)، وأیضاً: یا أیها الناس اعبدوا ربکم الذي خلقکم والذین من قبلکم … (البقرة /2/21). وهنا یؤکد ابن رشد علی أن قوله «الذي خلقکم والذین من قبلکم» تنبیه علی دلالة الاختراع. وقوله: «الذي جعل لکم الأرض فراشاً» (البقرة/2/22) تنبیه علی «دلالة العنایة» («الکشف…»، 65-68).
وإذا ماتابعنا المسیرة التاریخیة لمسألة الإبداع عند الفلاسفة المسلمین نلتقي بعالم کبیر آخر هو شهاب‌الدین السهروردي (أو الشیخ المقتول، تـ 587/1191) الذي یتحدّث عن مسألة الإِبداع و یدرسها من وجهة النظر المشّائیة من جهة، والإشراقیة التي هو أحد أعضائها البارزین من جهة أخری. فیبدأ أولاً بالنظرة الفلسفیة عند العامة والقائلة بأن «الفعل» هو أن یکون وجود شيء عن غیره بعد أن لم یکن، وبناء علی ظن العامة هذا، کثیر منهم قال «إن الباري فرض عدمه لایخل بوجود العالم، إذ الموجود بوجوده استغنی عن الفاعل، فلا یوجد ماوجد، ومثّلوا بالبناء الباقي بعد البنّاء. والسهرودي یعتبر بانتقاده هذه النظریة أن التقیید بسبق العدم لاوجه له. و یقول: إن العدم للحادث لاینسب إلی الفاعل، بل نسبة الحادث إلیه من حیث إفادة الوجود حتی لو وجد بذاته بعد العدم لم یکن «فعلاً»، فإذن التعلّق بالفاعل من حیث تعلّق وجوده «الممکن» به، ومفهوم الوجوب بالغیر لذاته لایمنع الدوام … فإذا کان شیئان: واجب بغیره دائماً، وواجب به وقتاً ما، فلم یلحق الجوب بالثاني إلا وقد کان لاحقاً بالأول، فیصح أن یقال للدائم إنه واجب بغیره وقتاً ما، ولم یمکن أن یقال للحادث إنه واجب به دائماً، فهو أحقّ بالنسبة إلی الفاعل والمفعولیة، وان لم یسمّ مفعولاً اصطلاحاً فلا مشاحة فیه، فلیخترع له اسم أعلی وهو الإبداع («التلویحات»، 1/42، 43). ثم یضیف: «الإبداع هو أن یکون جود شيء عن شيء غیر متوقّف علی غیره أصلاً کمادة ووقت و شرط ما، وهو غیر التکوین المنسوب إلی المادة، والإحداث المنسوب إلی وقت، وأعلی منهما» (1/44).
ویورد السهروردي مسألة الإبداع ثانیة في کتابه الآخر کما أوردها في التلویحات، ویقول: لمّا قسّم «الموجود» إلی علّة ومعلول، فقد قسّم المعلول إلی دائم وغیر دائم، ولمّا قسّم الموجود إلی الدائم و غیردائم فقد یقسّم الدائم إلی معلول وغیرمعلول. ویقول: «جماعة من العوام» یأخذون في مفهوم «الفعل» سبقُ العدم و کونه صادراً عن إرادة، ولکن هذا غیر صحیح. لأن الإرادة داخلة في مفهوم الفعل، وسبق العدم أو عدم السبق للحادث لیس بفعل الفاعل. فإنه لو امتنع انسان عن أن یسمّي دائم الوجود بالغیر مفعولاً بناء علی اصطلاحه فلامشاحة معه في الاصطلاح، فلنصطلح علی هذا القسم بالمبدع («المشارع والمطارحات»، 1/405، 406). ومن ناحیة أخری لایتمکن التحدّث عن الإبداع بمعناه الاصطلاحي من وجهة النظر الاشراقیة الخاصة عند السهروردي بناء علی مبادئه الفکریة و بواعثها، فهو یری أن مبدأ جمیع الوجودات والکائنات (الموجودات) عنده نور الأنوار، وجمیع المراتب والمظاهر النوریة الأخری صادرة عنه، ولامبدع للأنوار غیره. ولمّا لم یتصوّر أن یحصل به علی وحدته کثرة، ولا إمکان لحصول ظلمة من غاسق أو هیئة، ولانوردین، فأول مایحصل منه نورد مجرد واحد. ثم یستنتج من ذلک قائلاً: «فإذاً التمییز بین نور الأنوار وبین النور الأول الذي حصل منه لیس إلا بالکمال والنقص … فما وراء نور الأنوار کماله ونقصه یکون بسبب رتبة فاعله، وکمال نور الأنوار لاعلّة له، بل هو النور المحض الذي لایشوبه فقر ولانقص («حکمة الإشراق» 2/126-127؛ قا: «أثولوجیا»، 119، وقال في هذا الصدد «الأُنّ الأول هو النور الأول و هونور الأنوار لانهایة له ولاینفذ ولایزال ینیر ویضيء العالم العقلي دائماً»). ونجد السهروردي من ناحیة أخری في «اعتقاد الحکماء» وهي رسالة في الدفاع عن فلسفة المتاًلهة وفلاسفتهم وفي الرد علی اللائمین الذین یقولون الفلاسفة دهریون لایقولون بالصانع ویستنتج بعد أن یبیّن عقائد الحکماء المتألهة الحقّة، والمبنیّة علی أن «العالم ممکن الوجود وکل ممکن الوجود یکون محدثاً باعتبار أنه یتوقّف وجوده علی غیره ولایکون موجوداً بذاته» فیقول: «إنهم یبرهنون علی أن العالم ممکن الوجود … فإذن لابدّ من صانع مبدع … غیر أنهم یقولون بأن الباري لایبدع الأجسام مطلقاً، بل إمّا أن یتکوّن الجسم ناراً أو هواءً أوماءً أوتراباً، وإذ کان کذلک فلایمکن إبداعه إلا بجهات مختلفة». ثم یقول السهروردي عن المخلوق الأول: «فأول ما أبدع الله تعالی أبدعه أمراً عقلیاً حیّاً عالماً، کما قال النبي (ص): أول ما خلق الله تعالی العقل» (2/262-264). ثم یتحدّث عن اعتقاد الفلاسفة المبني علی عدم تأخّر الموجودات عن المبدع في الزمان والمکان. فیقول: «غیر أنهم یقولون: لایکون تأخر هذه الموجودات عن المبدع الحق بالزمان والمکان، إذ الزمان والمکان تابع لهذه الموجودات، بل یکون تأخّر هذه الموجودات عن الله تعالی بالذّات، وهو تأخر المُبدَع عن المُبدِع، إذ المُبدَع أبدا یتأخر عن المُبدِع، والمُبدِع یتقدّم علیه» (ن.م، 2/265).

الصفحة 1 من3

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: