الأصول العملیة
cgietitle
1442/10/10 ۱۲:۵۳:۵۳
https://cgie.org.ir/ar/article/236367
1446/11/14 ۰۷:۴۲:۵۰
نشرت
8
اَلْأُصولُ الْعَمَليَّة، مصطلح في أصول الفقه يعني الأصول، أو الضوابط التي توضح تكليف المكلف في حالات ظهور شك في تعيين الحكم الشرعي و هي الملاذ الأخير للمكلف الذي لم يحصل على دليل، أو أمارة. ويمكن للأصول العملية في الفقه الإسلامي أن تُعَدَّ متناظرة مع «الفرضيات القانونية» في علم القانون التي يلاحظ أساسها في شتى النظم القانونية، بينما يكمن الاختلاف بين المدارس في نطاقها وكيفية استخدامها. و في الأصول المتأخرة للإمامية تشكل الأصول الأربعة: البراءة والاستصحاب والاشتغال والتخيير، الأصول العملية. وبنظرة تاريخية، يتمتع الأصلان الأولان بخلفية قديمة في الفقه الإسلامي، بينما التعرف إلى أسلوبي الاشتغال والتخيير بوصفهما مكمّلين للأصول العملية أمر متأخر. وفي المدارس الأصولية المختلفة على مر التاريخ ــ وبرغم وجود اختلاف في كثير من الأساليب ــ فإن نطاق استخدام الأصول العملية بشكل عام كان محدوداً، واتسع اتساعاً لاسابقة له في أصول الفقه المتأخرة لدى الإمامية فحسب.
خلال متابعة أول أشكال استخدام أصلي البراءة والاستصحاب، يمكن العثور على نماذج من القرن الأول الهجري، لكن تداول هذه الأساليب بوصفها نظرية أصولية، كان له تاريخ يواكب تاريخ تدوين أصول الفقه. وكان المتقدمون من علماء الكلام المعتزلة في القرن 2ه ، مـن أوائل أصحاب النظر الذين طرحوا استخدام الأصل العقلـي ــ خاصة في مفهوم البراءة ــ بشكل نظرية واضحة. و في البدء تجدر الإشارة إلى عبارة قصيرة وأساسية مروية عن واصل بن عطاء مؤسس المذهب المعتزلي في النصف الأول من ذلك القرن اعتبر فيها العقل السليم بأنه هو الذي يحدّد التكليف في حالة عدم العثـور علـى دليل مـن كتـاب الله وخبـر جـاء مجيء الحجـة (ظ: القاضي عبدالجبار، 234). وينبغي البحث عن تفسير العقل السليم الذي يقصده واصل، في تعاليم خَلَفه، إبراهيم النظّام الذي عَدّ في بحثه في مكانة الأدلة الفقهية، الأشياء في حكم «الإطلاق العقلي» في حالة فقدان دليل مـن الكتاب والخبر القاطع للعذر (ابن قبة، 120، 122، 125). و قد أحدث الأسلوب المتزمت والظاهري للمعتزلة الأوائل في التعامل مع النصوص من جهة، ومعارضتهم الشديدة لاستخدام الرأي والقياس من جهة أخرى، فراغاً متوقَّعاً في الفقه المعتزلي المتقدم كان بالإمكان أن يتم تلافيه فحسب بالتمسك بالأصل العقلي. وبهدف تقديم إسناد نظري مقبول لهذا الأسلوب الفقهي، فقد عبَّر المعتزلة عن صمت النصوص في الفحوى بوصفه نوعاً من النصوص الخفية، وعدّوا أسلوبهم في استخدام الأصل العقلي «استخراجَ النص»، أو بعبارة أوضح، إعادة استخراج النص الخفي (ظ: م.ن، 122-123، 125؛ أيضاً ظ: ابن بابويه، 1 / 62). وجدير بالذكر أن هذا الأسلوب الفقهي القائم على الاستخراج كان شائعاً أيضاً في أوساط الفرق الإسلامية القريبة من المعتزلة كمتقدمي الزيدية والصفرية المعتزلين عن المحكِّمة (ظ: ابن قبة، 122؛ أيضاً ن.د، أصول الفقه). ويقف الظاهرية الداودية إلى جانب المعتزلة في بعض السمات، و لما كانوا منكرين لحجِّية القياس والرأي، وكانوا قد اتخذوا في تعاملهم مع النصوص الاعتماد على النطاق المنصوص وتجنب إلحاق حالات غير المنصوص إلى المنصوص أساساً لفقههم، و بغية سدّ الفراغ الحاصل و كقاعدة في حالات غير المنصوص والمسكـوت عنـه، فقـد كانوا يـرون عدم تشريـع حكم شرعـي ــ بالحرمة، أم الوجوب ــ أصلاً، ويميلون إلى البراءة (كمثال، ظ: الطوسي، 3 / 43-44)، لكنهم عند التنظير، كانوا يتهربون من قبول منشأ عقلي للبراءة (ظ: ابن حزم، 1 / 52 و ما بعدها). وجدير بالذكر أن متكلمي الإمامية في القرن 4ه / 10م وأوائل القرن الذي يليه وبرغم اتخاذهم مواقف مشابهة لمواقف المعتزلة في نفي حجية الخبر الواحد وإنكار الرأي والقياس، فقد وسّعوا في أصولهم استخدام إجماع الطائفة وعلى هذا، كانوا يستخدمون الأصل العقلي على نطاق أقل سعة (ظ: ن.د، أصول الفقه). و مع هذا، فقد كان للتمسك بالأصل العقلي ــ وبشكل خاص البـراءة ــ مكانته الخاصة في أصول هؤلاء المتكلمين؛ حيث عَدَّ الشيخ المفيد في التذكرة، طرق الوصول إلى معرفة [الحكم] المشروع ثلاثة: العقل واللسان والأخبار (ص 28؛ أيضاً ظ: الشريف المرتضى، 2 / 352-353).
برغم أن الاستصحاب كان يعرف في الفترات المتأخرة لعلم الأصول بوصفه مصداقاً للأصول العقلية، لكنه و في نظرة تاريخية، لم تكن له مكانة راسخة في بدء شقّه الطريق إلى البحوث الأصولية. و عندما طرح داود الظاهري لأول مرة هذا الأسلوب في قالب نظرية أصولية، تحدث عن «استصحاب الحال»، بحسب تعبير مصادر القرن 5ه / 11م، أو بتعبير أقل وثاقة عن «استصحاب (حكم) الإجماع» مما كان يرتبط بدليل الإجماع بحسب الفهم الثاني (ظ: السبكي، 3 / 169-170؛ أيضاً ن.د، الاستصحاب). و إلى جانب داود، كان جماعة الأصوليين الشافعية في القرنين 2و3ه / 8 و9م ومنهم متقدمون مثل أبي ثور والمزني وابن سريج وأغلب الشافعية من المدافعين عن هذا الاستصحاب؛ بينما كان الحنفية والمعتزلة يعرفون بوصفهم المعارضين الأساسيين له (مثلاً ظ: أبوإسحاق، التبصرة،526؛ علاء الدين البخاري، 3 / 377- 378). وتزامناً مع تدوين الآثار الأصولية الشاملة للمذهب الشافعي، فإن الاستصحاب فُهم وعُرّف من قِبل المدافعين التقليديين عنه، أي الشافعية بوصفه أصلاً عقلياً. فقد تحدث أبو إسحاق الشيرازي في القرن 5ه في كتابه التبصرة (ص 529) عن حجية «استصحاب براءة الذمة» ووضع وجوب العمل بها على أساس الدليل العقلي. وتحدث هو نفسه في أثره الآخر اللمع (ص 116)، عن شكل من الاستصحاب بتعبير «استصحاب حال العقل» الذي كان تعبيراً عن أصل البراءة، و هو طريق يتجه إليه المجتهد عند فقدان الدليل الشرعي (أيضاً ظ: الجويني، 50). و في الحقيقة، فإن هذا القول هو من أوائل المواقف التي ترابط فيها أصلا البراءة والاستصحاب ببعضهما، بل عُدّت البراءة فرعاً من الاستصحاب. و في سياق هذا الترابط وكمنعطف في تاريخ الأصول العملية، تجدر الإشارة إلى مبدأ الغزالي في المستصفى (1 / 217-221) الذي عدَّ «دليل العقل والاستصحاب» الدليل الرابع من أدلة الفقه، ورأى أن أصل البراءة هو أكثر أشكال الاستصحاب أصالة. وكانت هذه الفكرة في مرحلة الظهور، صادرة عن أوساط الأصول الشافعية؛ بينما لم تكن فكرة توسيع نطاق الاستصحاب تلقى دعماً في أوساط المذاهب الأخرى، خلافاً لأصل البراءة، و كانت نظرية الاستصحاب طوال القرن 5ه عرضة للنقد اللاذع من قبل أصوليي المذاهب، بل وحتى من بعض الشافعية (ظ: ن.د، الاستصحاب). وقد أدخل التدقيقُ والتنقيح في بحث الاستصحاب على مدى ذلك القرن، وخاصة شكله المتكامل في كلام الغزالي، الاستصحاب بوصفه مصداقاً بارزاً للأصل العقلي في أصول فقه المذاهب المختلفة، وهيأ الأرضية اللازمة لتوسيع استخدام الأصول العملية.
بقدر ما نعلم، فإن أول مصدر إمامي تحدث عن الأدلة الأربعة، وعدَّ العقل رابعها هو كتاب السرائر لابن إدريس الحلي (تـ 598ه(. و في إيضاحه للدليل الرابع، قال ابن إدريس بإجمال: في حالة فقدان دليل من الكتاب والسنة والإجماع فحسب، يتمّ التمسك إلى الدليل العقلي (ص 3). وبمعرفتنا للأسلوب الفقهي لابن إدريس ونظراً للتمايز الذي اعتمده بين الأدلة الثلاثة والدليل العقلي من حيث المرتبة في الاستناد، يمكن أن ندرك أن ما يقصده بالدليل العقلي لم يكن سوى «الأصل العقلي» (قا: الغزالي، ن.ص).وبعد مرور ما يقارب القرن، يُلاحظ تحول خاص في كلام المحقق الحلي (تـ 676ه(. فخلافاً للمشهور، عدَّ أدلة الأحكام خمسة وأضاف الدليل العقلي و في عرضه الاستصحاب إلى الكتاب والسنة والإجماع. ويتضح من إيضاحاته حول هذا التقسيم أنه بإلحاقه أصل البراءة بالاستصحاب، لم يضع الأصل العقلي في القسم الرابع (الدليل العقلي)، بل في القسم الخامس (الاستصحاب بمعناه الأعم)، ورأى أن للدليل العقلي مصاديق أخرى (ص 7). وفي نظرة تحليلية للمنظومة الفقهية للحلة، ينبغي القول إنه إلى ما أبعد من النظريات الأصولية، و من الناحية العملية أن أكثر ظهور لاجتهاد الحليين لم يكن في استخدام الأساليب ذات النزعة المضمونية، بل في كثير من الحالات في توسيع نطاق استخدام الأساليب ذات النزعة الشكلية وهذه الخصيصة هي نفسها التي تطرح فقه الحلة بوصفه مرحلة مهمة في توسيع نطاق استخدام الأصول العملية والتي هي من أبرز مظاهر النزعة الشكلية في الأسلوب الفقهي. وفيما بعد، قدّم الشهيد الأول (تـ 786ه( في الذكرى (ص 5) و في سياق تعاليم مدرسة الحلة، تقسيماً أكثر تفصيلاً للدليل العقلي. وضمن اقتصاره الأدلة الفقهية على الأدلة الأربعة المشهورة، رأى الدليل الرابع، أي الدليل العقلي على قسمين: الأول، تلك المجموعة من الدلالات العقلية التي لاتقوم على الخطاب (الخطابات الشرعية) والتي تضم المستقلات العقلية و الأصول العقلية (البراءة والاستصحاب)؛ والثاني، تلك المجموعة من الدلالات العقلية القائمة على الخطاب.
خلال القرن 10ه / 16م و مع ازدهار النزعات الأخبارية في أوساط الإمامية، أصبح النظام الأصولي الحلي عرضة للانتقاد من شتى الجوانب، و في هذا السياق، عُرّض أصلا البراءة والاستصحاب أيضاً للنقد. وبوصفه شخصية من شخصيات مدرسة الأصوليين، فإن الشيخ حسن صاحب المعالـم (تـ 1011ه( وجه إليهم انتقادات، وفي كتابه المعالم وضمن تفصيله الحديث في بحث الاستصحاب، تخلى عن موقف الحليين بهذا الشأن وأصبح من المتقدمين و في مصاف الشريف المرتضى في تحديد استخدام الاستصحاب (ظ: ص 262-267). و في الجيل الذي أعقبه، فإن المولى محمد أمين الإسترابادي (تـ 1036ه( والذي عُرِف بوصفه مؤسس المدرسة الأخبارية، تناول بالنقد هذين الأصلين بشكل أكثر عمقاً، حيث لم يحدد بشدة استخدام الاستصحاب فحسب، بل استخدام أصل البراءة أيضاً (ظ: ص 106، مخ (. وباتخاذه مجموعة من الروايات أساساً في تبيان المكانة الشرعية للأصول وبشكل خاص البراءة والاستصحاب و في نظرية حـول أساس مشروعية العمل بالأصول، قـال الفيض الكاشانـي (تـ 1090ه( والذي كان له أسلوبه الخاص في النزوع نحو الأخبار إن الأئمة (ع) قدّموا لنا أصولاً تنسجم والعقل الصحيح وأجازوا لنا التفريع على أساسها بشكل جزئي، وبذلك فتحوا أبواب العلم أمامنا (ظ: ص 65 و ما بعدها). وخلال القرون 11-13ه / 17-19م، كانت هناك خلافات بين الأخباريين والأصوليين بشأن سعة نطاق استخدام هذين الأصلين وكان المعلم البارز لهذا الخلاف هو العمل بالبراءة في الشبهة التحريمية؛ كان الأخباريون بصورة عامة يتقبلون البراءة في الشبهة الوجوبية فحسب، بينما لميكن عامة الأصوليين يقولون في استخدامهم هذا الأصل بوجود فرق بين الشبهتين الوجوبية والتحريمية (ظ: الحر العاملي، 18، 119-120؛ أيضاً الخوانساري، 1 / 129-130؛ شبر، 212 و ما بعدها). وكان الاختلاف المذكور اختلافاً في الاستخدام، و في الأسس النظرية كان هناك اختلاف أكثر عمقاً بين الأصوليين والأخباريين في مصدر حجية هذين الأصلين؛ ذلك أن الأخباريين كانوا يستندون في الأصلين العمليين إلى مشروعيتهما على أساس الروايات فحسب، وكان الأصوليون و إلى جانب النصوص المدعمة لحجيتهما، يقولون بمنشأ عقلي أيضاً (ظ: صاحب الفصول، فصل «مما دلّ عليه العقل...»؛ أيضاً ظ: سكارتشا، 211 ff.). و في معرض نقده الترابط بين حجية هذه الأصول والدليل العقلي وعندما تحدث عن الدليل العقلي، أبدى الشيخ يوسف البحراني (تـ 1186ه( و هو من الفقهاء الأخبارية المعتدلين، تعجبه كيف أن بعض الأصوليين فسرّوه بالبراءة والاستصحاب، وفسره فريق بالاستصحاب فحسب، بينما فسره فريق ثالث بلحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطـاب، وأضاف إليه فريق رابـع ــ بعد البراءة والاستصحاب ــ مسائل مثل مقدمة الواجب (1 / 40-41). وخلال عصر البحراني وعلى النقيض منه، ينبغي أن نذكر الوحيد البهبهاني (تـ 1205ه( الذي أحيا بنضاله المتواصل ضد الأخباريين تيار الأصولية في الأوساط الإمامية، وكان مؤسس مدرسة في فقه الإمامية مهّدت الأرضية لمدرسة الشيخ الأنصاري الأصولية (لمزيد من الإيضاح، ظ: مدرسي، 55-57)؛ فبغية تقديم فقه منتظم يقوم على الأصول، أولى أهمية خاصة للأصلين المذكورين. فقد خصص الوحيد في منظومته الأصولية، مكانة مهمة للأصول العملية، وعزّز استخدام أصلي البراءة والاستصحاب، وألّف كتابين في هذا المجال خصص كل واحد منهما لموضوع، هما رسالة في أصالة البراءة ورسالة في الاستصحاب (ظ: الأمين، 9 / 182).وبرغم الدور المهم الذي أداه الوحيد البهبهاني في إحياء الأسلوب الأصولي وبشكل خاص الأصلين العمليين، ينبغي التذكير بـأن توسيع نطاق منظومة الأصول العملية إلى أكثر من أصليـن لم يتحقق حتى زمان الشيخ الأنصاري. و إن بحث «الأدلة العقلية» الذي كان توسيعاً لبحث الدليل العقلي السابق في الآثار الأصولية الشاملة بين الوحيد البهبهاني والشيخ الأنصاري والذي كان يشمل البحث في الأصول العقلية أيضاً، لم يشمل أبعدَ من أصلي البراءة والاستصحاب حتى في مؤلفات أصوليين آخرين معاصرين للشيخ. و من بينها يمكن أن نشير إلى كتاب أصول الفقه للمولى محمد علـي الشـاهـرودي (تـ 1293ه( وأصـول الفقـه للمولـى محمـد الإيرواني (تـ 1306ه( )ظ: آقا بزرگ، 2 / 207، 209).
إن ما يميـز الفكر الأصـولي للشيخ مرتضى الأنصـاري (تـ 1281ه( عما كان لدى الأصوليين السابقين، هو كيفية نظرته إلى الأسس الفقهية والتي تجلت في مقدمة موجزة ومعبرة لكتاب فرائد الأصول. فقد انبرى الشيخ الأنصاري في كتابه الأصولي هذا لطرح الموضوع بشكل خاص لايشبه ما طرح في آثار الأصوليين الآخرين، فبدلاً من الخوض في دقائق البحوث الأصولية القديمة، سواء أكانت بحوث الألفاظ، أم بحوث الأدلة، اكتفى بالبحث في الأصول العملية، وقدّم فيها نظرية جديدة. ففي هذه المقدمة، و من خلال نظرة فلسفية الشكل وطرح الحصر العقلي، اتخذ الشيخ من ظروف مكلَّف متحير إزاء مجموعة واسعة من الأحكام والمسائل الشرعية، أساساً لكلامه، وقصر اطلاعه على الحكم الشرعي وتكليفه على 3 مراتب: القطع والظن والشك. وعلى هذا الأساس، وبغية توضيح تكليف المكلف في التعامل مع كل واحدة من هذه المراتب الثلاث، فتح أولاً بحثاً غير مطوَّل إلى حدّ ما في حجية القطع والظن، ثم وببلوغه بحث الشك، بدأ بحثه الأساسي. و في الحقيقة، فإن هذا البحث الذي هو الأرضية لطرح الأصول العملية الأربعة، احتل جزءاً رئيساً من الكتاب. إن الأصول الأربعة التي طرحها الشيخ الأنصاري، أي أصول الاستصحاب والتخيير والبراءة والاشتغال (أو الاحتياط)، لم يكن أيّ منها بحد ذاتها من ابتكارات الشيخ، بل لها جميعاً خلفية في التعاليم الأصولية والفقهية للماضين. فباستثناء أصلي البراءة والاستصحاب اللذين تمت دراسة خلفيتهما، فإنه يمكن العثور على أرضية لبحث الاشتغال في النقاشات بين الأصوليين والأخباريين، وعلى أرضية للتخيير في أساليب الفقهاء الماضين لدى التعامل مع مسألة التعارض. و إن ما يلفت الانتباه هنا بوصفه إبداعاً للشيخ الأنصاري هو كيفية وضعه هذه الأساليب الأربعة إلى جانب بعضها وتخطيطه لمنظومة جامعة ومانعة لإزالة الشك تقتصر على هذه الأصول الأربعة. ومرة أخرى، وباتخاذه أسلوباً قريباً من الحصر العقلي أساساً، بحث الشيخ الأنصاري الحالات المتصورة للشك في التكليف وبوبها على الشكل التالي: في المواضع التي يعرض فيها الترديدو الشك للمكلف، فإذا لوحظت حالة سابقة في موضع الشـك ــ مع الأخذ بنظر الاعتبار ضوابط في التفاصيل ــ وُضعت على أساس الحالـة السابقة و تم الرجوع فيها إلـى أصل الاستصحـاب. و إذا لم تلاحظ حالة سابقة، فإن كان في الشك وموضع الترديد، حكما الوجوب والحرمة، استخدم أصل التخيير، فاختير أحد الحكمين. وفي حالة إمكانية القبول بالاحتياط، إذا كان موضوع الشك هو أصل التكليف، وُضع على أساس عدم التكليف ويجري أصل البراءة كما يصطلح، و في حالة كون أصل التكليف محرَزاً وموضع الشك كان المكلف به، يوضع على أساس اشتغال الذمة ويطبق عليه أصل الاشتغال (ظ: الشيخ الأنصاري، 3 و ما بعدها). وجدير بالذكر أن الأصول العملية اتسع نطاق العمل بها كثيراً في فقه الشيخ الأنصاري و أتباع مدرسته، و قد أدى هذا التعامل في الأساليب الفقهية، إلى زيادة الاتجاه إلى تشديد النزعة نحو الاستدلالات الشكلية. و قد اتخذ الأسلوب الفقهي القائم على منظومة الأصول الأربعة شكلاً عملياً في المكاسب، الكتاب الفقهي للشيخ الأنصاري. و قد قدّم الشيخ في أثره هذا الذي أصبح نصاً يُدرَّس في الحوزات العلمية الإمامية من بعده، أنموذجاً بارزاً للفقه القائم على فكره الأصولي. و قد حظيت نظرية الأصول العملية الأربع في فترة تزيد على القرن بشرح وتدقيق جمع من أصوليي الإمامية، وفضلاً عن طرحها في البحث الخاص بها في كتب أصولية جامعة مثل كفاية الأصول لآخوند الملّا محمد كاظم الخراساني (ص 337 و ما بعدها)، كانت هي لوحدها موضوعاً لمؤلفات مستقلة أيضاً. و من جملة هذه الآثار تنبغي الإشارة بشكل خاص إلى بحر الفوائد في شرح فرائد الأصول للشيخ الأنصاري الذي ألفه الميرزا محمد حسن الآشتياني (طهران، 1300و1315ه( ودرر الفوائد لآخوند الخراساني في شرح نفس الأثر (طهران، 1315و1343ه( )أيضاً للاطلاع على آثار تحمل عنوان الأصول العملية، ظ: آقا بزرگ، 2 / 200). و لـم يقصر بعضُ الأصولييـن بعـد الشيـخ ــ ومنهم آخونـد الخراساني ــ الأصول القابلة للتصور على الأصول الأربعة التي قال بها الشيخ الأنصاري (ظ: آخوند الخراساني، 337؛ أيضاً المظفر، 4 / 269-270)، لكن حصر الأصول على هذه الأربعة عُرف بوصفه حصراً استقرائياً، وأُقر أن أهم الأصول العملية هي هذه الأصول الأربعة (ظ: ن.صص). و في بعض الآثار الأصولية للقرن الأخير، طرح بحث الأصول العملية بوصفه القسم الرابع من الأصول، و وُضع في عداد بحوث الألفاظ والملازمات العقلية وبحوث الأدلة (الحجة) (مثلاً ظ: المظفر، فهرست الموضوعات). وفي المحاضرات والمؤلفات الأصولية لهذا القرن، وبرغم أن البحوث كانت تنصب في باب الأصول الثلاثة الأخرى، لكن من بين الأصول الأربعة، كان أكثر البحث والنقاش ينصب على الاستصحاب. وتكمن في أساس نظرية الأصول العملية فكرة أنه في حالة الحصول على أمارة لايبقى موضع لإعمال الأصل، وبحسب المصطلح، فإن الأمارة حاكمة على الأصل، لكن في بعض الدراسات الأصولية المتأخرة ولدى دراسة العلاقة الداخلية بين الأصول العملية، عُدَّ الاستصحاب متميزاً عن الأصول الثلاثة الأخرى وعُرف بأنه حاكم عليها. والخصيصة الأخرى في البحوث المتأخرة هي الفصل بين البراءة الشرعية والاحتياط الشرعي والتخييرالشرعي وبين البراءة العقلية والاحتياط العقلي والتخيير العقلي، وبنظرة عامة عُدّت الأصول العملية الثلاثة منقسمة إلى شكلين: أصول شرعية وأصول عقلية (لمزيد من التفصيل، ظ: الشاهرودي، 3 / 52-53، 142 وما بعدهـا، أيضاً مخ ؛ الحكيم، 445 و ما بعدها).
آخوند الخراساني، محمد كاظم، كفاية الأصول، قم، 1409ه ؛ آقابزرگ، الذريعة؛ ابن إدريس، محمد، السرائر، طهران، 1270ه ؛ ابن بابويه، محمد، علل الشرائع، النجف، 1385ه / 1966م؛ ابن حزم، علي، الإحكام، بيروت، 1407ه / 1987م؛ ابن قبة، محمد، «نقض الإشهاد»، مع كمال الدين لابن بابويه، تق : علي أكبر الغفاري، طهران، 1390ه ؛ أبو إسحاق الشيرازي، إبراهيم، التبصرة، تق : محمد حسن هيتو، دمشق، 1403ه / 1983م؛ م.ن، اللمع، تق : محمد بدر الدين النعساني، القاهرة، مكتبـة الكليات الأزهرية؛ الأميـن، محسن، أعيـان الشيعة، بيـروت، 1403ه / 1983م؛ أمين الإسترابادي، محمد، الفوائد المدنية، ط حجرية، 1321ه ؛ البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة، قم، 1363ش؛ الجويني، عبدالملك، الورقات، تق : حسن زاده، طهران، 1368ش؛ الحر العاملي، محمد، وسائل الشيعة، بيروت، دار إحياء التراث العربي؛ الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، بيروت، 1979م؛ الخوانساري، محمد باقر، روضات الجنات، قم، 1390ه ؛ السبكي، علي وعبد الوهاب السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج، بيروت، 1404ه / 1984م؛ الشاهرودي، علي، دراسات في الأصول العملية (تقريرات درس آية الله الخوئي)، النجف، المكتبة الحيدرية؛ شبر، عبد الله، الأصول الأصلية، قم، 1404ه ؛ الشريف المرتضى، علي، الذريعة، تق : أبو القاسم گرجي، طهران، 1348ش؛ الشهيد الأول، محمد، الذكرى، ط حجرية، 1372ه ؛ الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول، طهران، 1296ه ؛ صاحب الفصول، محمد حسين، الفصول الغروية، ط حجرية، إيران؛ صاحب المعالم، حسن، معالم الأصول، تق : مهدي محقق، طهران، 1362ش؛ الطوسي، محمد، الخلاف، قم، 1411ه ؛ علاء الدين البخاري، عبد العزيز، كشف الأسرار، إستانبول، 1308ه ؛ الغزالي، محمد، المستصفى، القاهرة، 1322ه / 1904م؛ الفيض الكاشاني، محسن، الأصول الأصيلة، قم، 1412ه ؛ القاضي عبد الجبار، «فضل الاعتزال»، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تق : فؤاد سيد، تونس، 1393ه / 1974م؛ المحقق الحلي، جعفر، المعتبر، ط حجرية، إيران، 1318ه ؛ المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، النجف، 1386ه / 1967م؛ المفيد، محمد، التذكرة، قم، 1413ه ؛ وأيضاً:
Modarressi Tabātabāʾ ī, H., An Introduction to Shīʾī Law, London, 1984; Scarcia, G., «Intorno alle controversie tra Aңbārī e UŞūlī…», RSO, 1958, vol. XXXIII. أحمد پاكتچي / ه
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode