الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / التاریخ / إسماعیل باشا الخدیوي /

فهرس الموضوعات

إسماعیل باشا الخدیوي

إسماعیل باشا الخدیوي

تاریخ آخر التحدیث : 1442/9/20 ۱۳:۳۰:۵۱ تاریخ تألیف المقالة

إسْ‍ماعيلْ باشا، اَلْخُدَيْويّ (17 رجب 1245-5 رمضان 1312ه‍/12 كانون الثاني 1830-2 آذار 1895م)، ثاني أبناء إبراهيم باشا (ن.ع) و الوالي الخامس لمصر من أسرة محمد علي باشا وأول حاكم لمصر لقب رسمياً بـ‍‌ «الخديوي».

تعلم إسماعيل تحت إشراف جده، محمد علي في مدرسة البلاط الخاصة مقدمات العلوم و اللغات العربية و التركية والفارسية و شيئاً من الرياضيات و العلوم الطبيعية (عمون، 218؛ زيدان، 62-63). أرسل و هو في سن الرابعة عشرة إلى فينا لمعالجة عينه المريضة (شبيكة، 515) و بعد سنتين أرسل إلى باريس مع مجموعة من شباب مصر الممتازين و عدد آخر من أبناء محمد علي و درس فيها اللغة الفرنسية و الرياضيات والطبيعيات و الهندسة، و خاصة التصميم و التخطيط (ن.صص). توجه إسماعيل بعد العودة من أوروبا في 1264ه‍/ 1848م إلى إستانبول لدى السلطان العثماني مع بعض أفراد أسرة محمد علي لحل بعض الخلافات العائلية، و لكنه بقي في عاصمة الدولة العثمانية خلافاً لمرافقيه الذين عادوا إلى القاهرة، و اختير في عضوية مجلس الأحكام بلقب باشا (IA,V(2)/1115). وفي 1270ه‍ عاد إسماعيل إلى القاهرة في عهد ولاية سعيد باشا (1270-1272ه‍/1854-1856م) على مصر، وبعث في السنة التالية إسماعيل باشا إلى باريس لدى نابليون الثالث عندما كان سعيد باشا يطالب بدعم الدول الأوروبية الكبرى للحصول على استقلال أكبر من الدولة العثمانية. ثم تولى إسماعيل رئاسة وفد سياسي كان متوجهاً إلى الفاتيكان و في 1272ه‍ ‌أصبح رئيس «مجلس الأحكام» في مصر (EI2,IV/192). و بعد فترة تولى ولاية العهد في شوال 1274 بعد أن غرق أخوه الأكبر أحمد رفعت في النيل، حيث كان إسماعيل قد اتهم بتدبير هذه الحادثة (ظ: شبيكة، ن.ص).

أرسل إسماعيل في أواخر سنة 1278ه‍ لقيادة جيش في السودان و قمع بشدة تمرد قبائلها. و قد تولى ولاية مصر بعد موت سعيد باشا في 27 رجب 1279ه‍/18 كانون الثاني 1863م (IA,V(2)/ 115-1116؛ عمون، ن.ص).

كانت الأحداث الهامة في عهد حكم إسماعيل قائمة على محور الانتهازية و النزعة التجددية دون معرفة كافية و عميقة لعوامل التجدد، و قد تمثلت سلوكياته و سياساته الاقتصادية والمالية الطائشة في تبعيته الظاهرية للإمبراطورية العثمانية الآيلة إلى السقوط و اعتماده غير المدروس على القوى الأوروبية.

كانت علاقات إسماعيل بالدولة العثمانية ودية، سوى في برهة قصيرة عند إقامة الاحتفالات بافتتاح قناة السويس، فقد كان إسماعيل قد أدرك جيداً أنه يستطيع أن يحصل على تأييد العثمانيين، بل و أن يتدخل في شؤون تلك الدولة من خلال دفع الأموال و تقديم الهدايا (رمضان، 64؛ IA، ن.ص). نجح إسماعيل في 1283ه‍/1866م و بعد أن استغل المكانة التي كان قد احتلها لدى الصدر الأعظم و السلطان العثماني، و كذلك من خلال زيادة المبلغ المدفوع سنوياً إلى الدولة العثمانية، في الحصول على مرسوم من السلطان (ن.ص) يقضي بانتقال الحكم الوراثي إلى الابن الأكبر للوالي خلافاً للتقليد العثماني بانتقاله إلى أكبر أفراد الأسرة (ن.ص، إينال، II/173؛ رمضان، 71). و في السنة التالية حصل إسماعيل على لقب «الخديوي» من السلطان بشكل رسمي من خلال التدابير نفسها، بموجب مرسوم من السلطان (5 صفر 1284ه‍/ 8 حزيران 1867م) (م.ن، 77؛ أيضاً ظ: عمون، 218 الذي أورد تاريخ المرسومين المذكورين باختلاف قليل) و قد كان هذا اللقب، يجعل إسماعيل في منصب أعلى من الولاة العثمانيين الآخرين (IA، ن.ص). و منذ ذلك الحين سعى إسماعيل لأن يحصل على امتيازات أكثر من الدولة العثمانية، حتى أنه كان يتصرف أحياناً مثل حاكم مستقل، و قد أدى هذا السلوك الاستقلالي لإسماعيل إلى أن تتوتر العلاقات بين مصر و الدولة العثمانية حتى اشتدت شائعة هجوم السلطان على مصر؛ ذلك لأن خديوي مصر قام بالتفاوض مع الدول الأوروبية لإقامة محاكم مختلطة في مصر دون الرجوع إلى الباب العالي، و دعا خلال احتفالات افتتاح قناة السويس (شعبان 1286/تشرين الثاني 1869)، رؤساء الدول الأجنبية إلى مصر دون الاكتراث بالباب العالي، و قام بمجادلة السلطان عبر الصحف. فاضطر السلطان، في مرسوم له (24 شعبان 1286) أن ينتزع منه بعض امتيازات الخديوي و منها صلاحية الاستدانة الخارجية. و في هذه الأثناء، كانت بعض الدول الأوروبية مثل بريطانيا، تمنع السلطان من ممارسة الضغط أكثر على إسماعيل، كما كانوا يطلبون من الخديوي أيضاً أن يعدل عن فكرة إعلان استقلال مصر (IA، ن.ص؛ رمضان، 65، 68). و لكن إسماعيل و بعد أن وقع في ضائقة مالية، سافر إلى إستانبول لاسترضاء السلطان و نجح في استلام مرسومين من خلال تقديم هدايا كثيرة (7و22 رجب 1289ه‍/10و25 تشرين الأول 1872م) تمكن من خلالهما استعادة الامتيازات السابقة و في السنة التالية أيضاً سافر إلى العاصمة العثمانية، و استلم فرماناً من السلطان العثماني بعد أن دفع حوالي 4 ملايين ليرة (11 ربيع الثاني 1290ه‍/ 8 حزيران 1873م)، أعطيت له بموجبه جميع الامتيازات التي كانت قد منحت له في المراسيم السابقة (IA، ن.ص؛ رمضان، 70؛ للاطلاع على متن المرسوم، ظ: زيدان، 64-67). و قد كان هذا المرسوم يعني في الحقيقة قبول استقلال مصر و انفصالها عن الدولة العثمانية. و قد أدت الأزمة المالية للدولة العثمانية منذ 1288ه‍/1871م، و كذلك العناصر المقتدرة التي كانت تدعم إسماعيل في الباب العالي (ظ: إينال، II/175,III/330,434,IV/498-499)، إلى أن يحصل الخديوي على مطالبه بسهولة نسبياً من البلاط العثماني.

كان إسماعيل يسعى تزامناً مع الحصول على استقلال أكثر أن يبسط حدود حكمه في المناطق الجنوبية و سواحل البحر الأحمر والصومال من خلال تعزيز القوة الدفاعية و الهجومية لمصر. كما ضم السلطان العثماني في مرسوم له (1282ه‍/1865م) مينائي المصوع و سواكين (على ساحل البحر الأحمر) بالإضافة إلى السودان، إلى رقعة حكم إسماعيل و قد كان الإنجليز بدورهم يشجعونه في هذه النزعات التوسعية (أليور، 85-86).

وسع إسماعيل منذ 1286ه‍/ 1869م، رقعة حكمه باتجاه خط الاستواء من خلال الاعتماد على المسؤولين الإنجليز، فاستولى على غوندوكورو (الإسماعيلية فيما بعد) و أونيورو حتى أوغندا (IA، ن.ص؛ طوسون، 1/12-13، 107--\108-116، 157؛ زيدان، 73). وتقدمت قوات الخديوي، تزامناً مع اتساع نفوذها في جنوب السودان، باتجاه المناطق الساحلية من شرق أفريقيا في جنوب البحر الأحمر و حتى المناطق القريبة من الصومال، و استطاعوا النفوذ في أعماق اليابسة حتى هَرَر من خلال الاستقرار في ميناء زيلة (عدن). و لو كان هذا التحرك انتهى بإقامة خط ارتباط بين النقطتين النهائيتين لتقدم قوات الخديوي في الساحل و الداخل، لكان ذلك بمعنى محاصرة الحبشة (إليور، 82-87). و في الحقيقة فإن إسماعيل كان يفكر أيضاً في ضم الحبشة إلى رقعة حكمه؛ ولكن تحركاته العسكرية في الحبشة خلال 1292-1293ه‍/1875-1876م واجهت الفشل و انتهت بالمصالحة مع النجاشي (يوحنا) حاكم السودان (شبيكة، 545؛ عمون، 221).

كانت أبرز خصائص عهد حكم إسماعيل، أعماله في نشر مظاهر الحضارة الأوروبية في مصر و تنظيم ذلك المجتمع على النمط الغربي. تلقى إسماعيل العلم في أوروبا في فترة شبابه، و قد أثرت ثقته بالأوروبيين و انجذابه إليهم كما كان حال عمه سعيد، في فكره التجددي الغربي. و قد تجلت نزعته التجددية والتحديثية في مجالات حياته الشخصية المختلفة و جهاز حكمه، و الهيئة الحاكمة، و كذلك في المجتمع. و قد أبدى الخديوي نفسه عند دراسته في باريس رغبته في الهندسة و التصميم، و اهتم في عهد حكمه اهتماماً كبيراً ببناء المدن و تجميلها، و بناء القصور؛ و يبدو أنه كان ينوي تحديث القاهرة بحيث تضاهي باريس (زيدان، 71-72). فأحدث الشوارع المنظمة و الواسعة و المباني الفخمة، والحدائق ومنها: قصر الجزيرة و قصر الزعفران و القصر العالي وقاعة الأوبرا و قاعة الآثار التاريخية (المتحف) و المرصد ومكتبة درب الجماميز التي انتقلت فيما بعد إلى باب الخلق وسميت باسم دار‌الكتب المصرية. و قد بنيت مستوطنة الإسماعيلية في عهده وباسمه، حيث تحولت بفضل حديقة الأوزبكية فيها إلى أجمل محلات القاهرة. كما كان هو الذي صمم مدينة الإسماعيلية الساحلية. و قد حدثت أيضاً في الإسكندرية وحلوان و مدن مصر الأخرى أعمال أخرى من هذا القبيل . و من جملة أعماله الأخرى تطوير مطبعتي بولاق و الأميرية، و خطوط السكك الحديدية و مد خطوط التلغراف حتى السودان (عمون، 218-219؛ زيدان، 71-73؛ رمضان، 32-37).

و تطورت التربية و التعليم و الثقافة في عهد إسماعيل تطوراً ملحوظاً، فأعيد افتتاح المدارس المغلقة في عهد سعيد باشا، و بدأ تأسيس المدارس الجديدة، كما تأسست مدارس لإعداد أساتذة اللغة العربية (دارالعلوم) و اللغات الأجنبية و العلوم الأخرى، والمدارس الخاصة بالأجانب و الأقليات الدينية. و كان يتم إرسال الطلاب الممتازين إلى أوروبا لإكمال الدراسة، و أقر في الأزهر أسلوب الامتحان و الشهادة العلمية.

و أمر إسماعيل باستخدام نموذج مكتبة باريس الوطنية لإغناء المكتبة الخديوية و قرر أن تهيأ لها الكتب من كل مكان مثل أوروبا و الحجاز و الشام و... . و كان علي باشا مبارك أبرز أصحاب المناصب الثقافية في عهد الخديوي، حيث أسست دارالعلوم بفضل مساعيه (رمضان، 45-50؛ شبيكة، 529؛ المقتطف، 155). و تم اتخاذ بعض الخطوات فيما يتعلق بتوفير الإمكانيات التعليمية للفتيات. و قد أسست إحدى زوجات إسماعيل مدرسة للبنات على النمط الغربي (رمضان، 52-54) و كان إسماعيل نفسه يهتم بالأمور التعليمية في المدارس و نشاطاتها. و كان يحضر احتفالاتها و جمعياتها و يشارك في توزيع الجوائز (عمون، 220). و قد تأسست في هذه الفترة بعض الجمعيات العلمية و البحثية مثل جمعية الخديوي الجغرافية و كذلك مركز البحوث الزراعية (آمريكانا، مادة مصر).

و في عهد حكم إسماعيل، ازدهرت الصحافة، و تم تأسيس مصنع للورق لتأمين موادها الأولية. و اكتسبت صحيفة الوقائع المصرية الرسمية شكلاً جديداً، وتحولت إلى ناطق رسمي للحكومة إزاء انتقادات صحيفة إيجبت في الإسكندرية، و فضلاً عن ذلك، فقد كانت تطبع في عهد إسماعيل حوالي 40 نشرة أخرى بلغات مختلفة. فكانت المطبوعات تعتبر أحد أركان الحياة الاجتماعية. كما ظهرت مطبوعات تخصصية عسكرية و طبية واقتصادية مثل يعسوب الطب و الجريدة العسكرية المصرية والتجارة. و من المطبوعات الاجتماعية و السياسية و الأدبية المعروفة في ذلك العهـد الأهرام و مصـر و الوطـن ( البستانـي، 13/ 299؛ عـوض، 1-2/407- 408؛ رمضان، 43-44). و من عوامل ازدهار الصحافة في تلك الفترة هجرة الكثير من المثقفين المسيحيين في سورية و لبنان إلى مصر الذين كانوا يهربون بسبب شدة الاستبداد العثماني، وليناضلوا ضد السلطان عبدالحميد من خلال إصدار الصحف وتأليف المقالات (شبيكة، ن.ص؛ عنايت، 40).

و في عهد إسماعيل، كان يولى الاهتمام أيضاً بتجديد النظام الحكومي و الإداري في مصر و الذي كان قد تأسس على النمط العثماني. و في عهده تحولت جميع الدواوين السابقة إلى «نضارة» (وزارة) و أهمها «ديوان الخزينة» الذي سمي ب‍ـ «النظارة المالية». وقسمت مصر إلى 14 مديرية مع المراكز المعينة. و تم تنظيم المحاكم العرفية و الشرعية، و حدود و علاقات كل منها. و منذ جمادى الآخرة 1292/حزيران، 1875 أقيمت «محاكم الإصلاح»، ووضعت منذ رمضان تلك السنة مجموعات القوانين المدنية والتجارية و البحرية و الجزائية (المويلحي، 24-25,96-97,125؛ زيدان، 72). كما حد إسماعيل من امتيازات القنصليات الأوروبية وتقرر تأسيس المحاكم المختلطة من القضاة المصريين والأوروبيين لتتابع الشؤون الدينية و الجنائية من خلال الاستناد إلى القوانين المأخوذة من القانون الفرنسي و التي كانت تؤيدها لجنة دولية وأن تقتصر القنصليات على التدخل في شؤون رعايا حكوماتها فقط (عمر، 253-257). و تم استخدام ضباط من إيطاليا لتشكيل القوة العسكرية، و أرسلت القوة العسكرية السابقة التركية و الألبانية التي كانت تتعدى على الأهالي، إلى السودان و تم اعتماد التاريخ الميلادي و التقويم الأوروبي في الأمور المالية لتسهيل التعامل مع الأوروبيين و الحكومات الأجنبية منذ شعبان 1292/أيلول 1875، و اختير منذ السنة التالية النظام العشري (النظام المتري) في الأوزان و المقاييس بدلاً عن الأسلوب السابق المتنوع للغاية (رمضان، 40-42).

و قد كان أكبر إنجاز لإسماعيل في مجال تحديث نظام الحكم تأسيس مجلس الشورى في 1283ه‍/1866م و إصدار أول قانون عام في نفس السنة و اللذين أصبحا الأساس بعد 13 سنة لمجلس النواب و الدستور (شكري، 212) و اكتسب مجلس الوزاة (مجلس النظار) نظاماً جديداً في السنة الأخيرة من حكم إسماعيل على أثر ضغوط الغربيين و لحفظ مصالحهم، حيث كان هذا المجلس يعكس الأزمـة الاجتماعيـة و التناقـض بيـن مصالح الأوروبييـن و إسماعيل بدلاً عن الاهتمام بالمنافع العامة و حقوق الشعب؛ حتى إن الهيئة الحاكمة تغيرت 3 مرات خلال 8 أشهر، و في كل مرة كان يتواجد وزيران أوروبيان (شبيكة، 525- 528؛ كرم، 1/5، 35).

و قد بلغ من انبهار إسماعيل بالثقافة الأوروبية حداً بحيث أنه و عندما دفعه الأوروبيون إلى تشكيل مجلس الوزراء في آخر سنوات حكمه ادعى بفخر قائلاً «نحن الآن جزء من أوروبا» (شبيكة، 525). و قد بلغت مساعيه في عهد اقتدراه في هذا السبيل درجة بحيث يمكن القول إن القسم الأكبر من تحديث مصر في القرن 13ه‍/ 19م حدث في عهد حكمه؛ حتى قيل فيما بعد إن مصر تطورت خلال 70 سنة من هذا القرن بما يعادل 500 سنة في البلدان الأخرى (IA,V(2)/1118). و مما يجدر ذكره أن الملامح الشرقية للقاهرة التي كانت تسمى «درة الشرق» زالت بسبب نزعة إسماعيل هذه (رمضان، 21- 28).

ومن أكبر مظاهر الحضارة الجديدة في عهد إسماعيل شق قناة السويس. و رغم أن فكرة هذا الممر المائي كانت مطروحة قبل عهد إسماعيل، و أن اتفاقيته كانت قد عقدت مع الفرنسيين، ولكن القسم الأكبر من أعماله تم انجازه في عهد إسماعيل. و يبدو أن الإنجليز لم‌يكونوا يشعرون بالرضا من هذا الإنجاز، فكانوا يحرضون السلطان العثماني على معارضة هذا العمل، و لكنهم لم‌يحققوا نتيجة (شبيكة، 508-514؛ هاردي، 121). و أخيراً، أقيمت احتفالات افتتاح هذا الممر المائي في 11-15 شعبان 1286 بحضور بعض الرؤساء الأوروبيين و حوالي 6 آلاف ضيف. و قد تصرف إسماعيل في هذه المراسم كملك و سلطان مستقل بحيث أن ذلك دفع السلطان العثماني إلى عدم المشاركة فيها، و بعد 10 أيام من نهاية المراسم صدر الأمر من الباب العالي بإلغاء امتيازات الخديوي (شبيكة، 518؛ البستاني، 13/300؛ عمون، 220؛ IA,V(2)/1116). و قد تسببت الغرامات التي دفعتها حكومة مصر إلى الشركة الفرنسية، و النفقات الباهظة للاحتفالات، في وقوع الحكومة المصرية في ضائقة مالية بحيث أنها اضطرت في 1292ه‍/1875م إلى بيع 602,176 سهم من أسهم مصر (حوالي أقل من النصف) من القناة إلى الحكومة الإنجليزية و أصبحت انجلترا المساهمة الرئيسة فيه و بلغ اهتمام هذه الحكومة بالقناة و مصر والسودان (بوابات الهند) حداً بحيث أنها تدخلت بشكل رسمي في تلك البلدان و احتلتها بعد بضع سنوات. و هكذا لم‌تستفد مصر كثيراً من هذا الأنجاز الحضاري الذي تم فيها و الذي يعد الحديث الأكبر في هذا القرن، و اعتبر من الناحية السياسية أكبر عقبة أمام استقلال هذا البلد (شبيكة 518-519؛ هاردي، ن.ص؛ بريتانيكا، V/900

و من الناحية الاقتصادية و المالية، كان عهد حكم إسماعيل يمثل حركة عجولة باتجاه الإفلاس و السقوط، رغم ظاهرها المتحرك و المزدهر. و قد تزامنت السنون الأولى من حكمه مع الحروب الأهلية الأميركية (حروب الانفصال: 1861-1865م) وازدهار صادرات القطن المصري و ارتفاع سعره العالمي؛ و لكن سوق صادرات القطن المصري أصابه الركود مرة أخرى مع نهاية تلك الحرب و استئناف تصدير القطن الأميركي، فقد تدهورت أسعار القطن المصري. و ازدادت نوسانات فيضانات النيل في عهده، فتسبب ذلك في إلحاق خسائر كبيرة بالزراعة كما أدى الجفاف في أواخر حكمه (1294ه‍/1877م) في مصر إلى القحط والمجاعة. و رغم أن إسماعيل كان ينحي باللائمة على عمه في بداية حكمه بسبب استقراضه من الخارج، و لكن برامجه التوصلية و رغباته المنفلتة ذات النفقات الباهظة، دفعته إلى أن يستدين 5 ملايين ليرة بفوائد باهظة و ذلك في السنة الثانية من حكمه. و قد استمرت هذه الاستدانات إلى درجة بحيث أن الحكومة عجزت عن تسديدها، و لم‌يتبق اعتماد و اعتبار كافيان لعمليات الاستدانة الأخرى. و قد بلغت مبالغ قروض مصر التي كانت تصل في بداية حكم إسماعيل إلى أقل من 3 ملايين ليرة، 91 مليون ليرة في أواخر حكمه. في حين أن أراضيه الخاصة به كانت قد بلغت في بداية حكمه من 70 ألف فدان (الفدان = 200,4م2) إلى حوالي مليون فدان من أفضل الأراضي الزارعية في أواخر حكمه، هذا بالإضافة إلى قصوره و أمواله المنقولة (شبيكة، 520-521؛ للتفاصيل، ظ: رمضان، 79-96). ومنذ 1292ه‍/1875م تأزم الوضع المالي في مصر بحيث أن إسماعيل طلب من أجل كسب ثقة الدائنين قدوم لجنة خبراء ماليين من بريطانيا. و كانت نتيجة تحقيق هذه اللجنة أن مبالغ القروض تم هدرها في مجالات عديمة الجدوى و حروب باهظة التكاليف، و اقترحت جدولة جميع القروض و دفعها خلال فترة محددة و بفوائد معينة؛ شريطة أن تشرف لجنة مالية أوروبية على مالية مصر (شبيكة، 523). و في نهاية المطاف، تقرر أن تجمع جميع قروض مصر البالغة 91 مليون ليرة في «صندوق مشترك»، وأن يتم تسديدها بفوائد تبلغ 7٪ لمدة 65 سنة (م.ن، 524). ثم تشكلت لجنة من 5 أعضاء (بريطانيين ومصريين و فرنسيين) لدراسة عائدات مصر الحكومية. و اقترحت اللجنة، أن يوكل الخديوي صلاحياته المطلقة إلى أعضاء الحكومة المسؤولين (م.ن، 525). فاضطر الخديوي إلى قبول هذا المقترح وأصدر أمر تشكيل مجلس الوزراء الجديد برئاسة نوبار باشا. وفي هذا المجلس الذي تشكل في 28 رجب 1295م/ 28 أب 1878م، تولى وزير بريطاني (ويلسون) و وزير فرنسي (دي بلينير) وزارتي المالية و العمل (م.ن، 525-526). وبذلك، فقدت مصر في عهد الخديوي استقلالها إلى حدما.

كانت الأزمة الناجمة عن التجدد و النزعة الأوروبية في مصر تقترب من ذروتها. و في الحقيقة، فإن سياسات محمد علي وخاصة إسماعيل كانت قد أحدثت تغييرات عديدة و متناقضة في المجتمع المصري. فإذا كان محمد علي قد اتجه إلى أوروبا لدخول العالم الجديد و الحصول على الاستقلال من الدولة العثمانية، ففي عهد إسماعيل كانت أوروبا هي التي جاءت لتكبيل مصر (شكري، 143). و قد أدى اتساع الشبكة المواصلاتية و المالية في مصر وازدهار التجارة الخارجية، إلى توسيع العلاقات مع أوروبا، وتكثيف حضور الأوروبيين في مصر. فقد كان التجار الأجانب يكسبون أرباحاً طائلة من خلال استغلال الحصانة و ينقلون مداخلهم إلى خارج مصر. و لذلك، ظهرت تناقضات عديدة في حيات المصريين الاجتماعيـة و الاقتصادية: مظاهـر الإسـراف المنفلتة لحاكـم مصر و وضع الضرائب الفادحة (رمضان، 99-102)؛ ميل حكام مصر إلى الاستقلال في نفس الوقت الذي كانوا فيه تابعين عملياً للدول والأوساط المالية الغربية؛ ازدهار الصناعات والتجارة في المدن تزامناً مع فقر القرويين و عجزهم؛ الوعي النسبي للأقلية المثقفة إزاء غالبية المجتمع؛ مصالح التجار الأجانب في مقابل مصالح سكان المدن و الطبقات المتوسطة (عنايت، 14-15)؛ ظهور فئة جديدة من ضباط مصر المحليين أمام الأرستقراطيين العسكريين الأتراك؛ ظهور الملكيات الواسعة للأراضي إلى جانب تدهور وضع القرويين و حدوث بعض الثورات في القرى (لاپيدوس، 616-617)؛ و نفوذ فكرة الديمقراطية الغربية بين المثقفين المصريين إلى جانب معارضة السياسات الرسمية لأوروبا بإقرار نظام سياسي ينسجم مع مصالح المجتمع المصري (شكري، 213).

و نتيجة لدعم إسماعيل للصحافة و تشجيع المثقفين على نقد الأوضاع لإخافة الأجانب، و على أثر اتساع الحرية الفكرية ومعارضة علماء الدين لبعض سياسات الخديوي، كانت أرضية ظهور الحركات السياسية قد تهيأت لتغيير الوضع القائم وإصلاحه (عنايت، 39-40). و كان السيد جمال‌الدين الأسد‌آبادي (الأفغاني) من أهم العناصر غير المصرية التي بدأت الحركة الاجتماعية في مصر بالتعاون مع بعض المثقفين المصريين و النقد السافر للأوضاع و الذي قام بإشعال مشعل النهضة الاجتماعية في مصر (شكري، 164). و منذ بضع سنوات قبل ذلك، و مع الإفلاس المالي للخديوي و هزيمة قواته في الحبشة، كانت روح المعارضة قد اتسعت بين الضباط المحليين (من طبقة الفلاحين) (دخانياتي، 132-133). و قرر مجلس الوزراء الأوروبي لحكومة نوبار باشا أن تخفض النفقات الحكومية مع المحافظة على مرتبات الموظفين الأجانب الضخمة. و على إثر ذلك لم‌يتم دفع مرتبات مأموري الحكومة و الجيش بشكل منظم. و لذلك، اتجه في 25 صفر 1296ه‍/ 18 شباط 1879م مايقرب من 600 ضابط بشكل جماعي إلى وزارة المالية. و انضم إليهم أثناء ذلك بعض أعضاء مجلس النواب، و تصرفوا بعنف مع نوبار باشا و وزير ماليته البريطاني (ويلسون). و ذهب الخديوي بنفسه إلى الوزارة و فرق المحتجين بإلقاء كلمة و إعطاء بعض الوعود و أثبت أنه مايزال يمسك بزمام الأمور (پيترز، 93؛ رمضان، 97- 98)؛ و لكن حكومة نوبار سقطت على أثر هذا التمرد (أول ربيع الأول 1296ه‍/23 شباط 1879م)، وأجبرت الدول الأوروبية الخديوي الذي كان يريد أن يتولى رئاسة الوزراء بنفسه، على تشكيل حكومة برئاسة ولي العهد ابنه محمد توفيق (شبيكة، 528). و أحدثت غالبية نواب المجلس موجة اعتراض واسعة في أرجاء البلاد من خلال إصدار بيان، والتأكيد على حق الشعب في تعيين الحكومة و ضرورة توسيع صلاحيات المجلس، حيث كان موضوعه الرئيس الاعتراض على حضور الأجانب (دخانياتي، 134). و هكذا، سقطت الحكومة الأوروبية الثانية بعد أقل من شهر و تولت زمام الأمور حكومة وطنية برئاسة محمد شريف باشا. و بعد أن أدرك الأوروبيون معارضة الخديوي لهذه الحكومة الوطنية الجديدة، حرضوا السلطان العثماني عبدالحميد الثاني على عزله. و أخيراً، اعتزل الخديوي إسماعيل في 6 رجب 1296ه‍/26 حزيران 1879م بأمر السلطان، لصالح ابنه محمد توفيق باشا، و ازدادت سيطرة الأوروبيين على مصر بتاتاً (م.ن، 135؛ شبيكة، ن.ص).

غادر إسماعيل بعد عزله القاهرة إلى الإسكندرية، و منها إلى نابولي. و بعد حوالي 10 سنوات، توجه إلى إستانبول في 1305ه‍/ 1888م و أقام في قصر أميرجان و أخيراً توفي هناك في 5 رمضان 1313. نقل جثمانه إلى مصر، و دفن في مقبرة جامع الرفاعي بالقاهرة (IA,V(2)/1117).

كان إسماعيل يتمتع بجرأة و إرادة قوية، و كان يتابع بنفسه أدق التفاصيل في البلاط؛ و كان ذكياً و يتمتع بالفراسة، و يجيد اللغات العربية و التركية و الفارسية و الفرنسية؛ و كان ميالاً إلى الجلال و الفخامة، و غارقاً في الترف و اللهو؛ و مع كل ذلك، فقد كان يهتم أيضاً بالعلم و الثقافة، و لم‌يكن ينسى الشعب في المحن الكبرى (زيدان، 75-76). و رغم أن إسماعيل كان يسعى كثيراً من أجل تحديث مصر وخلاصها من التسلط العثماني، و لكن سياساته الاقتصادية غير المدروسة أدت إلى أن تقع مصر في قبضة الاستعمار الأوروبي و خاصة بريطانيا، و عندما سقط النظام الملكي في مصر، و آخر سلطان من سلالة إسماعيل، ذُكر سلوكه هذا باعتباره خيانة، في ميثاق مجلس قيادة الثورة لتأسيس الجمهورية (18 تموز 1953م) (خليل، 497).

 

المصادر

البستانـي؛ پيترز، رادلف، إسـلام و استعمار، يا جهاد در عصر حاضـر، تج‍ : محمد خرقاني، مشهد، 1365ش؛ دخانياتي، ع.، تاريخ آفريقا، طهران، 1358ش؛ رمضان، صالح، الحياة الاجتماعية في مصر في عصر إسماعيل من 1863-1879، الإسكندرية، 1977م؛ زيدان، جرجي، تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، بيروت، دارمكتبة الحياة؛ شبيكة، مكّي، تاريخ شعوب وادي النيل، مصر والسودان في القرن التاسع عشر الميلادي، بيروت، 1965م؛ شكري، علي، النهضة و السقوط في الفكر المصري الحديث، بيروت، 1982م؛ طوسون، عمر، تاريخ مديرية خط الاستواء من فتحها إلى ضياعها من سنة 1869 إلى 1889م، الإسكندرية، 1355ه‍؛ عمر، عمر عبدالعزيز، تاريخ المشرق العربي، 1516-1922، بيروت، 1405ه‍؛ عمون، هند إسكندر، تاريخ مصر، القاهرة، 1341ه‍؛ عنايت، حميد، سيري درأنديشۀ سياسي عرب، طهران، 1358ش؛ عوض، لويس، تاريخ الفكر المصري الحديث من الحملة الفرنسية إلى عصر إسماعيل، القاهرة، مكتبة مدبولي؛ كرم، فؤاد، النظارات والوزارات المصرية، القاهرة، 1969م؛ المقتطف، أعلام، القاهرة، أيلول و تشرين الأول 1925م؛ و أيضاً:

 

Americana ; Britannica, Macropaedia, 1978; EI2; Hardy, G., Vue générale de l’histoire de l’Afrique, Paris, 1948; IA; İnal, M.K., Osmanlı devrinde son sadrıazamlar, Istanbul, 1965; Khalil, M., The Arab States and the Arab League, Beirut, 1962; Lapidus, I. M., A History of Islamic Societies, Cambridge, 1991; Mouelhy, I., Organisation et fonctionnement des institutions Ottomanes en Egypte (1511-1917), Ankara, 1989; Oliver, R. and A. Atmore, Africa Since 1800, Cambridge, 1967.

يوسف رحيم‌لو/خ.

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: