الصفحة الرئیسیة / المقالات / الإسکافي، أبوجعفر /

فهرس الموضوعات

الإسکافي، أبوجعفر

الإسکافي، أبوجعفر

المؤلف :
تاریخ آخر التحدیث : 1442/9/15 ۲۱:۵۲:۱۶ تاریخ تألیف المقالة

اَلْإسْكافيّ، أبوجعفر محمد بن‌ عبدالله‌، المتكلم‌ الشهير والمتشيع‌ في مدرسة الاعتزال‌ البغدادية (تـ‍ 240ه‍/854م‌). رغم‌ أن‌ أجداده‌ كانوا من‌ أهل‌ سمرقند (ابن‌ النديم‌، 213)، إلا أنه‌ لقب‌ بالإسكافي بسبب‌ إقامته‌ في إسكاف و هي ناحية من‌ النهروان‌ كانت‌ تقع‌ بين‌ بغداد و واسط (ياقوت‌، 1/252؛ السمعاني، 1/234).

لاتتوفر معلومات‌ واضحة عن‌ سنة ولادة الإسكافي كما هو الحال‌ بالنسبة إلى‌ تفاصيل‌ حياته‌ الأخرى‌، فمعلوماتنا عنه‌ تقتصر على‌ إشارات‌ متفرقة تطالعنا في طيات‌ روايات‌ المصادر التاريخية والكلامية. يبدو أنه‌ تعلق‌ في شبابه‌ بعلم‌ الكلام‌، و انهمك على‌ تلقي هذا العلم‌ في حلقات‌ المتكلمين‌ الدراسية. و لم‌‌يمض وقت‌ طويل‌ حتى‌ اضطره‌ والداه‌ بسبب‌ ضيق‌ المعيشة إلى‌ ترك الدراسة والعمل‌ في مهنة‌ الخياطة. و لكن‌ جعفر بـن‌ حرب‌ (تـ ‍236ه‍/850م‌) المتكلم‌ المعروف‌ في مدرسة بغداد و الذي كان‌ قد فطن‌ إلى‌ موهبته‌، لم‌‌يتحمل‌ حرمانه‌ من‌ الدراسة، فقد هيأ ظروف‌ مواصلته‌ للدراسة من‌ خلال‌ دفع‌ مبلغ‌ من‌ النقود إلى‌ أسرته‌ شهرياً (ابن‌‌النديم‌، ن‌.ص‌). ويبدو من‌ عبارات‌ الإطراء التي استخدمها ابن‌‌النديم‌ (ن‌.ص‌) بشأن‌ الإسكافي، أنه‌ كان‌ يتقدم‌ بشكل‌ مدهش‌ في كسب‌ العلم‌ و الكمال‌.

يبدو أن‌ الإسكافي كان‌ قد اكتسب‌ الشهرة و الاحترام‌ في عهد‌خلافة المعتصم‌ العباسي (218-227ه‍/833-842م‌)، ذلك لأن‌ المعتصم‌ كان‌ قد أدخله‌ البلاط، و أولى‌ له‌ احتراماً فائقاً بحيث‌ أن‌ الإسكافي عندما كان‌ يتكلم‌ في مجلس‌ المعتصم‌ كان‌ الجميع‌ يرون‌ أن‌ من‌ الواجب‌ عليهم‌ أن‌ يصمتوا حتى‌ ينتهي من‌ كلامه‌ (ن‌.ص‌). كما كان‌ المعتصم‌ يهتم‌ أيضاً بابنه‌ أبي القاسم‌ جعفر، حتى‌ ولاه‌ رئاسة أحد الدواوين‌ بعد أن‌ علم‌ مهارته‌ في فن‌ الكتابة. نسب‌ ابن‌‌النديم‌ إلى‌ أبي القاسم‌ كتاباً بعنوان‌ المعيار والموازنة (ن‌.ص‌). وتدل‌ بعض‌ الروايات‌ على‌ أن‌ الإسكافي حافظ على‌ مكانته‌ حتى‌ السنوات‌ الأخيرة من‌ عمره‌ (ابن‌ المرتضى‌، طبقات‌ ...، 78-79).

كان‌ الإسكافي كالمتكلمين‌ الآخرين‌ المعاصرين‌ له‌ تجمعه‌ النقاشات‌ و المناظرات‌ مع‌ سائر المتكلمين‌. وقد كان‌ الحسين‌ بن‌‌علـي‌ الكرابيسي، والسكـاك ــ الذي كـان‌ مـن‌ أصحاب هشام‌ بن‌‌ الحكــم‌ ــ و أبـوعفان‌ الفارقي من‌ الأشخـاص‌ الذين‌ ناظرهم‌ (ابن‌‌النديم‌، 220، الهامش؛ الخياط، 142؛ الخطيب‌، 5/416). ويبدو أن‌ مناظرات‌ الإسكافي مع‌ المتكلم‌ الشيعي السكاك كانت قد تمت‌ على‌ عدة مراحل‌، ذلك لأن‌ نص‌ هذه‌ المناظرات‌ كانت‌ قد جمعت‌ في كتاب‌ بعنوان‌ المجالس‌ (ظ: الخياط، ن‌.ص‌؛ القاضي عبدالجبار، «فضل‌...»، 285؛ أيضاً ظ: ابن‌ أبي الحديد، 17/132-133). صنف‌ الإسكافي في الطبقة السابعة على‌ أساس‌ تصنيف‌ المعتزلة (ن‌.ص‌؛ ابن‌ ‌المرتضى‌، المنية ...، 28). و مما يجدر ذكره‌ أن‌ هذا التصنيف‌ مختلق‌ لأن‌ القاضي عبدالجبار و البعض‌ الآخر من‌ المعتزلة حاولوا أن‌ يوصلوا الخلفية التاريخية للمعتزلة إلى‌ الشخصيات‌ الدينية الكبيرة التي كانت‌ تعيش‌ قبل‌ واصل‌ بن‌ عطاء؛ حتى‌ إنهم‌ صنفوا واصلاً نفسه‌ في الطبقة الرابعة (القاضي عبد‌الجبار، ن‌.ص‌، 214-234؛ أيضاً ظ: ن‌.د، أبوالهذيل‌ العلاف‌).وفي الحقيقة فإن‌ الإسكافي ينتمي إلى‌ الطبقة الرابعة من‌ المعتزلة.

 

آثـاره‌

1. إبطال‌ قول‌ من‌ قال‌ بتعذيب‌ الأطفال‌؛ 2. إثبات‌ خلق‌ القـرآن‌؛ 3. الأشربـة؛ 4. البـدل‌؛ 5 بيـان‌ المشكل‌ على‌ برغـوث‌؛ 6. التمويه‌ نقض‌ كتاب‌ حفص‌؛ 7. جمل‌ قول‌ أهل‌ الحق‌؛ 8. الرد على‌ المشبهة؛ 9. الرد على‌ من‌ أنكر خلق‌ القرآن‌؛ 10. الشرح‌ لأقاويل‌ المجبرة؛ 11. العطب‌؛ 12. الرد‌ على‌ حسين‌، في الاستطاعة؛ 13. كتاب‌ على‌ النظام‌، في أن‌ الفعل‌ يصدر من‌ طبيعتين‌ مختلفتيـن‌؛ 14. كتـاب‌ عـلـى‌ هشـام‌؛ 15. فضـائـل‌ علـي (ع‌)؛ 16. القاضي بيـن‌ المختلفـة؛ 17. اللطيـف‌؛ 18. مـا اختلـف‌ فيـه‌ المتكلمـون‌؛ 19. المخلوق‌ على‌ المجبرة؛ 20. المقامات‌، في فضائل‌ علي (ع‌)؛ 21. النعيم‌؛ 22. النقض‌ لكتاب‌ الحسين‌ النجار؛ 23. نقض‌ كتاب‌ ابن‌‌شبيب‌، في الوعيد؛ 24. نقض‌ العثمانية (ابن‌‌النديم‌، 213؛ القاضي عبدالجبار، ن‌.م‌، 195؛ ابن‌ أبي الحديد، 4/73، 7/35-36).

و نقض‌ العثمانية رسالة ردية كان‌ قد كتبها الإسكافي على‌ كتاب‌ العثمانية للجاحظ. لم‌‌يصلنا من‌ نص‌ هذه‌ الرسالة على‌ مايبدو سوى‌ مانقله‌ ابن‌ أبي الحديد في مواضع‌ مختلفة من‌ شرح‌ نهج‌ البلاغة، و مخطوطته‌ الوحيدة المعروفة (المركزية، 11/2162) مقتبسة أيضاً من‌ هذا الكتاب‌. و قد جمعت‌ نقض‌ العثمانية مرتين‌ على‌ أساس‌ منقولات‌ ابن‌ أبي الحديد، وطبعتا: 1. ضميمة العثمانية للجاحظ و التي نشرت‌ في 1374ه‍/1955م بالقاهرة بتحقيق عبدالسلام‌ هارون؛ 2. في مجموعة الرسائل‌ للجاحظ بتحقيق حسن‌ السندوبي سنة 1352ه‍ في القاهرة. كما كتبت‌ رديات‌ أخرى‌ على‌ كتاب‌ العثمانية للجاحظ، و من‌ الطريف‌ أن‌ الجاحظ نفسه‌ له‌ ردية على‌ هذه‌ الرسالة (ابن‌‌النديم‌، 210؛ الغُريفي، 45-46).

و مما يجدر ذكره‌ أن‌ محمد باقر المحمودي نشر في بيروت‌ في 1402ه‍/1981م‌ كتاباً بعنوان‌ المعيار و الموازنة باسم‌ الإسكافي، ولكن‌ لايوجد أي مبرر‌ على‌ أن‌ نعتبر انتساب‌ هذا الكتاب‌ إلى‌ الإسكافي صحيحاً، ذلك لأن‌ ابن‌ النديم‌ اعتبر أولاً أن‌ هذا العنوان‌ هو من‌ آثار ابن‌‌الإسكافي، ثم‌ أن‌ المحمودي لم‌‌يتحدث‌ في مقدمة الكتاب‌ عن‌ مواصفات‌ المخطوطة، بل‌ إنه‌ لم‌‌يذكر حتى‌ دليلاً واحداً على‌ صحة نسبة هذا الكتاب‌ إلى‌ الإسكافي.

 

معتقداته‌

تكمن‌ صعوبات‌ دراسة أفكار تلك المجموعة من متكلمي القرنين‌ 2و3ه‍ واللذين لم‌‌تصلنا آثارهم‌، في أن‌ الباحث‌ يجب‌ أن‌ يفكر في مخطط من‌ جانبه‌ على‌ أساس‌ أجزاء متفرقة من‌ معتقداتهم‌ تبقت‌ في المصادر، ثم‌ يعيد بناء أفكارهم‌ في إطار ذلك المخطط، كما هو حال‌ الكوز المتكسر الذي لم‌‌يتبق‌ منه‌ سوى‌ قطع‌، و يجب‌ التكهن‌ بالقطع‌ الأخرى‌ للتوصل‌ إلى‌ تصميمه‌ (ظ: فان إس‌، 174). و هنا أيضاً نقوم‌ بطرح‌ و دراسة الروايات‌ التي تبقت‌ من‌ مؤلفاته‌ في مجموعة الاعتقاد بالعدل‌ الإلٰهي للمعتزلة من‌ أجل‌ إعادة بناء معتقدات‌ الإسكافي الكلامية:

 

التوحيد

كان‌ الإسكافي كما كان‌ حال‌ عموم‌ المعتزلة فيما يتعلق‌ بمفهوم‌ وجود الله‌ و إدراكه‌، يرى‌ أن‌ كل‌ إنسان‌ يحمل‌ بشكل‌ ذاتي و غريزي ذلك الإدراك منذ بداية ولادته‌. و بالطبع‌ فإن‌ وجهة النظر هذه‌ لم‌‌تكن‌ في تاريخ‌ الفكر انطباعاً جديداً، فقد كان‌ مثل‌ هذا الرأي‌ يطالعنا في تعليمات‌ الحكماء الرواقيين‌ حول‌ الله‌. وعلى‌ أي حال‌، فبالنسبة إلى‌ معتزلة مثل‌ الإسكافي، فإن‌ الوحي أيضاً يؤدي إلى‌ تعزيز و تأييد مفهوم‌ وجود الله‌ في الإنسان‌ بالإضافة إلى‌ هذا الوعي و المعرفة الفطرية لوجود الله‌ (البغدادي، أصول‌ الدين‌، 210-211، 256- 258؛ فان‌ إس، 175-177). و هكذا فقد كان هناك فرق‌ بين‌ المعرفتين‌ الأولى‌ والثانية. فالمعرفة الأولى‌ كامنة في فطرة كل‌ إنسان‌، و ليست‌ هناك حاجة إلى‌ وجود الرسل‌ للتوصل‌ إليها. و قد كانت‌ هذه‌ المعرفة تسمى‌ آنذاك بالمعرفة «الضرورية» أو «الفطرية» بعبارة أخرى‌ (ن‌.صص‌). و أما المعرفة الثانية فتحصل‌ خلافاً للأولى‌ نتيجة المعتقدات‌ الدينية، و تضم‌ إلى‌ المعرفة الأولى‌ بواسطة الوحي. وفي المراحل‌ التالية، حيث‌ يحصل‌ الإنسان‌ على‌ الاستقلال‌ الفكري، فإن‌ ممارسة التفكير تكون‌ حسب‌ اختياره‌، و هو في الحقيقة مكلف‌ بالتفكير. و من‌ جهة فلأن‌ هذا التفكير هو في حدود اختيار الإنسان‌ نفسه‌، يمكن‌ القول‌ إنه‌ مسؤول‌ إزاء سلوكه‌ و أفعاله‌. و قد كان‌ أبوالهذيل‌ العلاف‌ يرى‌ أن‌ الإنسان‌ يعرف‌ الله‌ بشكل‌ طبيعي و في فطرته‌، و لكن‌ إلى‌ جانب‌ هذه‌ المعرفة بالله‌ عليه‌ عندما يصل‌ إلى‌ البلـوغ‌ الفكـري أن‌ يسعـى‌ للحصـول‌ علـى‌ المعتقـدات‌ الدينيـة (=‌ المعرفة الثانية) بالتفصيل‌ و دون‌ أي تأخير. و بعبارة أخرى‌ فإن‌ عليه‌ أن‌ يفكر فيما جاء في القرآن‌، و إذا ما تخلف‌ عن‌ هذا الأمر فإنه‌ يعد مذنباً (ن‌.صص‌). و رغم أن‌ الإسكافي كان‌ قد أذعن‌ لرأي أبي الهذيل‌ فيما يتعلق‌ بوجوب‌ مثل‌ هذه‌ المعرفة كما كان‌ حال‌ متكلمي بغداد المعروفين‌، لكنه‌ كان‌ يرى‌ خلافاً له‌ أن‌ المعارف‌ الاكتسابية لاتتحصل،‌ إلا بتخصيص‌ الوقت، و الدقة و الفكر، ولايمكن‌ تكليفه‌ بتحصيل‌ مثل‌ هذه‌ المعارف‌، إلا بإعطائه‌ مهلة التفكير (ن‌.صص‌).

الملاحظة الأخرى‌ هي إن‌ نظرة المعتزلة إلى‌ ذات‌ الله و عدله وصفاته و أفعاله‌، تختلف‌ أساساً بشكل‌ جوهري عن‌ نظرة أصحاب‌ الحديث‌ ثم‌ الأشاعرة (ن.ع‌). فمن‌ وجهة نظر أصحاب‌ الحديث‌ الذين‌ اعتبروا التعقل‌ في الإلٰهيات‌ عديم‌ القيمة، و لم‌‌يثقوا بشيء سوى‌ النقل‌، فإن‌ الله‌ له‌ طابع‌ إنساني بالكامل‌، و بصورة عامة فإن‌ مسألة الاعتقاد بشباهة الله‌ للبشر تموج في أفكارهم‌. فكل‌ شيء وكل‌ شخص‌ تحت‌ رحمة القضاء و القدر، ذلك لأن‌ الله‌ قدر كل‌ شيء منذ الأزل‌، و كل‌ صغيرة و كبيرة من‌ برنامج‌ حياة كل‌ إنسان‌ مثبت‌ على‌ لوح‌ التقدير، وليس‌ بمستطاع‌ أي إنسان‌ أن‌ يتخلف‌ مقدار‌ ذرة مما قدّر له‌. و ليس‌ هناك أي دور لاختيار الإنسان‌ ومسؤوليته‌ (ابن‌‌أبي‌يعلى‌، 1/24-31، 2/293-303). و أما المعتزلة الذين‌ يرون‌ أن‌ العقل‌ هو الأساس‌ و المعيار الوحيد للأفكار الدينية و الكلامية، فإن‌ نظرتهم‌ إلى‌ الله‌ تخالف‌ تماماً ذلك المعتقد. و في الحقيقة فإن‌ توحيد المعتزلة هو توحيد تنزيهي، و يعبر عنه‌ بعبارات‌ سلبية، ويحافظ على‌ اختيار الإنسان‌. و الإسكافي يؤمن‌ هو الآخر بهذه‌ النظرة متماشياً مع المعتزلة الآخرين، و مما يدل‌ على‌ هذا المعنى‌ الردية التي كتبها ضد المؤمنين‌ بالتشبيه‌ (ظ: الخياط، 5- 8؛ القاضي عبدالجبار، شرح‌...، مخ‍).

و في أفكار الإسكافي فيما يتعلق‌ بالتوحيد، تؤدي «محورية الله‌» دوراً أكبر من‌ أي عنصر آخر. و هو يرى‌ أن‌ جميع‌ حوادث‌ الوجود تنشأ من‌ الله‌، سوى‌ الأعمال‌ التي يؤديها الإنسان‌ باختياره‌ وبالقدرة التي منحها الله‌ له‌. و يبدو من‌ حديثه‌ في هذا المجال‌ أنه‌ ينكر قاعدة العلية، و ينسب‌ الأفعال‌ التي تصدر من‌ طبائع‌ الأشياء، إلى‌ الخلق‌ الإلٰهي بشكل‌ مباشر. و هو يصرح‌ أن‌ من‌ الممكن‌ أن‌ يتجاور الحطب‌ و النار لفترة طويلة دون‌ أن يخلق‌ الله‌ الاحتراق‌؛ ومن‌ الممكن‌ أيضاً أن‌ يكون‌ الحجر بين‌ السماء و الأرض‌ دون‌ أن‌ يخلق‌ الله‌ «السقوط» (الأشعري، مقالات‌ ...،313). و بالطبع‌ فإن‌ تأثير أفكار أبي الهذيل‌ العلاف‌ على‌ الإسكافي في هذا المجال‌ واضح‌ تماماً.

و الملاحظة المهمة أن‌ أفكاراً من‌ هذا القبيل‌ تنسب‌ في تاريخ‌ الأفكار الكلامية إلى‌ الأشاعرة دون‌ أية إشارة إلى‌ المعتزلة (ظ: ن‌.د، الأشاعرة). و رأي الإسكافي في مجال‌ ظهور الوجود هو كبقية المتكلمين‌ و هو أن‌ عالم‌ الخلق‌ له‌ بداية زمنية، و باختصار فإنه‌ يرى‌ أن‌ مناط حاجة الشيء إلى‌ الخلق‌ هو «الحدوث‌». وبالطبع‌ فإنه‌ و خلافاً لأبي الهذيل‌ العلاف‌، لايلتزم‌ بهذه‌ القاعدة القديمة وهي إن‌ كل‌ ماله‌ بداية له‌ نهاية. وهنا أثار أبوالهذيل‌ نقاشاً مدوياً فقال‌ إن‌ عالم‌ الوجود له‌ نهاية مادامت‌ له‌ بداية، و بذلك سيحل‌ يوم‌ يتعرض‌ فيه‌ أهل‌ الجنة و النار إلى‌ السكون‌ و الخمود الأبديين‌ (ظ: ن‌.د، أبوالهذيل‌ العلاف‌). و قد واجهت‌ هذه‌ العقيدة مخالفة الكثير من‌ المتكلمين‌ و منهم‌ الإسكافي. و هنا قام‌ الإسكافي بحل‌ هذا المسألة في الكتاب‌ الذي كان‌ قد ألفه‌ حول‌ التوحيد، و نقل‌ الخياط قسماً منه‌ في الانتصار (ص‌ 13-14)، فقال‌ إن‌ الخلق‌ الإلٰهي له‌ بداية، و لكن‌ ليست‌ له‌ نهاية، لأن‌ ذات‌ الإلٰه‌ الذي بدأ الخلق‌ لاتتعرض‌ للتغيير و التحول‌، و على‌ هذا فإن‌ الخلق‌ ليست‌ له‌ نهاية، وهذا الأمر سيستمر إلى‌ الأبد، و سوف‌ لايتعرض‌ أهل‌ الجنة و أهل‌ النار لأي سكون‌ (ن‌.ص‌).

و من‌ بين‌ المسائل‌ المهمة التي كانت‌ قد ارتبطت‌ ارتباطاً وثيقاً بمسألة التوحيد من‌ وجهة‌ نظر معتزلة مثل‌ الإسكافي، مسألة كون‌ الكلام‌ الإلٰهي مخلوقاً، أوحادثاً. و قد كتب‌ الإسكافي رسالتين‌ مستقلتين‌ في هذا الموضوع‌ (ظ: عد 2 و 9 من آثاره في هذه‌ المقالة). وهذا مايدل‌ على‌ اهتمامه‌ الكبير بهذا الموضوع‌، و في الحقيقة فإن‌ أوضاعاً تاريخية و ثقافية خاصة كانت‌ قد دفعت‌ المعتزلة إلى‌ أن‌ ينفوا قِدَم‌ القرآن‌، و يبالغوا في الإصرار على‌ هذه‌ المسألة. و قد بلغت‌ حساسية هذه‌ المسألة حداً بحيث‌ أن‌ المعتزلة الذين‌ دخلوا البلاط خلال‌ 198-233ه‍ أي في عهد حكم‌ المأمون‌ والمعتصم‌ و الواثق‌، و كانوا يحظون‌ بنفوذ كبير، نقلوا هذه‌ المسألة من‌ نطاق‌ النقاش‌ إلى‌ نطاق‌ السياسة و الاجتماع‌، و دفعوا الحكومة إلى‌ أن‌ تقيم‌ محكمة لتفتيش‌ العقائد، لتنتزع‌ الاعتراف‌ من‌ العلماء والشخصيات‌ البارزة بأن‌ القرآن‌ مخلوق‌. و قد كان‌ من‌ بين‌ التبعات‌ المريرة لذلك أن‌ معارضي هذه‌ العقيدة واجهوا أضراراً مختلفة. فقد جلد البعض‌، و سجن‌ البعض‌ الآخر، و قتل‌ عدد آخر. وقد شهد الإسكافي جميع‌ هذه‌ النزاعات‌ (ظ: الطبري، 8/631-645؛ نادر، 57-59؛ لدراسة أكثر، ظ: جدعان‌، مخ‍ (. و تعود جذور هذه‌ المسألة إلى‌ هجوم‌ المتكلمين‌ المسيحيين‌ على‌ الإسلام‌. فقد أشاعوا منذ بداية القرن‌ الثاني فما بعد فكرة أن‌ القرآن‌ اعتبر من‌ جهة المسيح‌ كلمة (آل‌ عمران‌ /3/45؛ النساء/4/171)، و من‌ جهة أخرى،‌ فإن‌ التقليديين‌ يرون‌ أن‌ كلام‌ الله،‌ أو كلمته قديم‌، وذلك بهدف‌ إفراغ‌ الأفكار الإسلامية من‌ القيمة، و تثبيت‌ مواقفهم‌ الكلامية. وقد أضاف‌ المسيحيون‌ مقدمة ثالثة إلى‌ هاتين‌ المقدمتين‌ و هي أن كل‌ أمر قديم‌ و غير مخلوق‌ هو الله‌ و لذلك كانوا يستنتجون‌ أن‌ «المسيح‌ هو الله‌»، و قد كانت‌ هذه‌ النظرة تناقض‌ بشكل‌ واضح‌ المعتقدات‌ الإسلامية، ذلك لأن‌ القرآن‌ يرفض‌ بشدة كون‌ المسيح‌ هو الله،‌ أو ابنه‌. لذلك فقد كان‌ بعض‌ المعتزلة مثل‌ الإسكافي يرى‌ أن‌ أنسب‌ دفاع‌ عن‌ التوحيد الإسلامي، و محاربة التثليث‌ المسيحي هو أن‌ ينفوا بشدة فكرة قدم‌ القرآن‌، و يثبّتوا الاعتقاد بحدوث‌ الكلام‌ الإلٰهي (ابن‌ النديم‌، 230، الأسطر 7-12؛ الطبري، 8/631-637؛ ولفسن‌، 259-263؛ نادر، ن‌.ص‌). و بالطبع‌ يجدر ذكره‌ أن‌ المعتزلة اصطدموا بشدة مع‌ جماعة من‌ التقلديين‌ المسلمين‌ مثل‌ أصحاب‌ الحديث‌، بطرحهم‌ لهذه‌ الفكرة، ذلك لأنهم‌ كانوا يدافعون‌ عن‌ فكرة قدم‌ القرآن‌. و مع‌ كل‌ ذلك فإن‌ المعتزلة لم‌‌يكونوا عموماً ينكرون‌ وجود القرآن‌ الموجود مسبقاً، و كانوا ينكرون‌ قدمه‌ فحسب‌ (ولفسن‌، 285). و لكنهم‌ لم‌‌يكونوا متفقين‌ في الرأي فيما يتعلق‌ بكيفية هذا الخلق‌ و ماهو الشيء المخلوق‌. و قد كان‌ الإسكافي كما كان‌ الحال‌ بالنسبة إلى‌ أستاذه‌ جعفر بن‌‌حرب‌ يرى‌ أن‌ كلام‌ الله‌ عرض‌ و ليس‌ جسماً (الأشعري، مقالات‌، 193)، وكان‌ يعتقد من‌ جهة أخرى‌ بأن‌ الله‌ خلق‌ القرآن‌ على‌ اللوح‌ المحفوظ (النسفي، 260؛ ولفسن‌، 599-600). و بذلك، يمكن‌ الاستنتاج‌ أن‌ الموضع‌ المخلوق‌ الذي خُلق‌ فيه‌ كلام‌ الله‌ هو اللوح‌ المحفوظ، ولأن‌ اللوح‌ المحفوظ هو من‌ جملة الأشياء التي كانت‌ قد خلقت‌ قبل‌ خلق‌ العالم‌، فإن‌ القرآن‌ كان‌ قد خلق‌ من‌ وجهة نظر الإسكافي قبل‌ خلق‌ العالم‌، و أن‌ هذا الكلام‌ أوحي في الحقيقة إلى‌ النبي محمد (ص‌).

المسألة الأخرى‌ التي اختلف‌ بشأنها المعتزلة، هي أننا نمتلك قرآناً من‌ جهة خُلق‌ قبل‌ خلق‌ العالم‌ على‌ اللوح‌ المحفوظ، و من‌ جهة أخرى‌ فإننا نمتلك قرآناً أرضياً يتكون‌ من‌ خلال‌ التلاوة، أو السماع،‌ أو الحفظ، أو الكتابة؛ و فيما يتعلق‌ بالعلاقة بين‌ هذين‌ القرآنين‌، فإن‌ جعفر بن‌ حرب‌ و غالبية البغداديين‌ كانوا يرون‌ أن‌ من‌ المحال‌ أن‌ يوجد كلام‌ الله‌ في مكانين‌ في آن‌ واحد، فكانوا يعتبرون‌ أن‌ تلاوة القرآن‌، أوكتابته‌ هي «حكاية» عن‌ القرآن‌ الموجود من‌ قبل‌، و لم‌‌يكونوا يرونها القرآن‌ نفسه‌. و لكن‌ الإسكافي كان‌ يرى‌ خلافاً لهم‌ أن‌ القرآن‌ من‌ الممكن‌ أن‌ يوجد في آن‌ واحد في عدة أمكنة على‌ شكل‌ سماع‌، أو حفظ، أو تلاوة، أو كتابة. و هو يعتقد أن‌ هذا الشيء يستحيل‌ فيما يتعلق‌ بكلام‌ البشر، و أن‌ كلام‌ الله‌ هو وحده‌ الذي يمتلك مثل‌ هذه‌ الخصوصية (الأشعري، ن‌.م‌، 193، 599-600؛ النسفي، ن‌.ص‌؛ البغـدادي، الفرق‌...، 170).

 

العدل‌

يظهر أصل‌ العدل‌ النظرة الخاصة للمعتزلة إلى‌ الله‌ وأفعاله‌ أكثر. ففي هذا المذهب‌ يكتسب‌ العدل‌ الإلٰهي تبريراً ومعنى‌ بمعيار عقلي صرف‌ أيضاً. فمعنى‌ أن‌ الله‌ عادل‌ في ظل‌ هذا المذهب‌ أنه‌ لايرتكب‌ العمل‌ «القبيح‌»، و لايتعلل‌ و لايخل‌ في القيام‌ بالعمل‌ «الحسن» (القاضي عبدالجبار، شرح‌، 301). و هنا يطرح‌ السؤال‌ التالي: كيف‌ يمكن‌ تعيين‌ حسن‌ الأفعال‌ و قبحها؟ أجاب‌ معتزلة مثل‌ الإسكافي بأن‌ العقل‌ هو الذي يستطيع‌ أن‌ يميز بين‌ هذه‌ الأعمال‌، و يحكم‌ بشأن أفعال‌ الله‌ بهذا المقياس‌ (م‌.ن‌، «فضل‌»، 139). وعلى‌ هذا الأساس‌ اعتقد المعتزلة أن‌ الإنسان‌ مخير، و كانت‌ مسألة الاختيار من‌ وجهة نظرهم‌ من‌ فروع‌ أصل‌ العدل‌، لأن‌ الاعتقاد بالجبر كان‌ يستلزم‌ أن‌ نقبل‌ بأن‌ الله‌ يقوم‌ بالأفعال‌ القبيحة، و هذا المعنى‌ كان‌ يتناقض‌ مع‌ نظرتهم‌ إلى‌ أصل‌ العدل‌. و أما نظرة أهل‌ السنة إلى‌ العدل‌ الإلٰهي فقد كانت‌ مختلفة تماماً، فكانوا يرون‌ أن‌ أفعال‌ الله‌ لاتقتصر على‌ حدود الحسن‌ والقبح‌ العقليين‌، و أن‌ الله‌ لايواجهه‌ أي مانع‌ للقيام‌ بأفعاله‌. و هنا يكتسب‌ العدل‌ معنى‌ آخر و هو أن‌ العدل‌ هو كل‌ عمل‌ يقوم‌ به‌ الله‌، و أن‌ أفعال‌ الله‌ لايمكن‌ الحكم‌ عليها بالقياسات‌ العقلية، وخلافاً للمعتزلة الذين‌ يأبون‌ نسبة أعمال‌ الإنسان‌ القبيحة إلى‌ الله‌، فإن‌ الله‌ هو الفاعل‌ الحقيقي للأعمال‌ و منها أعمال‌ الإنسان‌ القبيحة، و إن‌ الشريعة هي التي تعيّن‌ حسن‌ الأفعال‌ و قبحها (ظ: الأشعري، اللمع‌، 71-73، 117).

و على‌ أي حال‌، فإن‌ آراء الإسكافي حول‌ أصل‌ العدل‌، يجب‌ أن‌ تدرك في إطار إلٰهيات الاعتقاد بالعدل للمعتزلة. و قد خصص‌ الإسكافي 6 عناوين‌ من‌ عناوين‌ رسائله‌ لهذا الموضوع‌ (ظ: الأعداد 1، 6، 10، 12، 19و22 قسم الآثار في هذه‌ المقالة) وهذا مايدل‌ على‌ عظم‌ اهتمامه‌ بهذا الأصل‌. و يصرح‌ الإسكافي بأن‌ حسن‌ أفعال‌ الإنسان‌ و قبحها ليس‌ لهما سبب‌ خارج‌ عن‌ هذه‌ الأفعال‌ نفسها. فقبح‌ الفعل،‌ أو حسنه‌ هو فعل‌ كامن‌ في الفعل‌ نفسه،‌ والعقل‌ يحدد هذه‌ الجوانب‌ (ظ: الأشعري، مقالات‌، 356). و على‌ هذا الأساس‌، فإن‌ عدل‌ الله‌ يقتضي أن‌ الله‌ لاتصدر منه‌ الأفعال‌ القبيحة. و على‌ سبيل‌ المثال‌ فلأن‌ الظلم‌ عمل‌ قبيح‌ فإن‌ الله‌ ليس‌ ظالماً. و بالطبع‌ فإن‌ الإسكافي خلافاً للمتكلمين‌ الذين‌ تجمعهم‌ معه‌ عقيدة واحدة، و هم‌ النظّام‌ و الأسواري اللذان‌ كانا يعلّلان‌ عدم‌ كون‌ الله‌ ظالماً بأنه‌ لايمتلك القدرة على‌ الظلم‌، يرى‌ أن‌ الله‌ قادر على‌ ذلك، ولكنه‌ لايقوم‌ بهذا العمل‌ لأنه‌ عادل‌ (الخياط، 90؛ الأشعري، ن‌.م‌، 202، 395، 557- 558؛ البغدادي، الملل‌ ...،103). وللأسف‌ فإن‌ ابن‌ الرواندي (ن.ع) فسر بشكل‌ خاطئ في فضيحة المعتزلة أقوال‌ الإسكافي في هذا المجال، و انتقده‌، و طلب‌ الخياط في الانتصار (ن‌.ص‌) الإنصاف‌ من‌ القارىٔ من‌ خلال‌ نقل‌ كلام‌ الإسكافي بحذافيره‌. و قد نفذ هذا التفسير السيئ إلى‌ المصادر المعارضة للاعتزال‌، و تسبب‌ في لعن‌ الإسكافي (الأسفرايني، 48؛ البغدادي، ن‌.ص‌، الفرق‌، 169).

و قد كتب‌ الإسكافي استناداً إلى‌ هذه‌ العقيدة بشأن‌ أصل‌ العدل‌، ردية على‌ الأزراقة (ن‌.ع‌) (ظ: عد 1، قسم الآثار في هذه‌ المقالة)، ذلك لأنهم‌ كانوا يعتقدون‌ أن‌ الله‌ سيعذب‌ الأطفال‌ الكافرين‌ و المشركين‌ إن‌ هم‌ رحلوا عن‌ الدنيا قبل‌ البلوغ‌ (ابن‌‌حزم‌، 4/127). و هذه‌ العقيدة مرفوضة من‌ وجهة نظر الإسكافي، لأن‌ تعذيب‌ الأطفال‌ غير المكلفين‌ ظلم‌، و الله‌ لايقوم‌ بالعمل‌ القبيح‌. ولذلك، يعتقد الإسكافي أن‌ جميع‌ أفعال‌ الله‌ خير، و لايوجد أي شر في أفعاله‌؛ وحتى‌ عذاب‌ جهنم‌ هو خير و رحمة، لأن‌ خلق‌ جهنم‌ أدى‌ إلى‌ أن‌ يبتعد الكثير من‌ الناس‌ عن‌ الكفر و الذنب‌ (الأشعري، ن‌.م‌، 249، 537).

و رغم‌ أن‌ الإسكافي كان‌ يرى‌ فيما يتعلق‌ بمسألة الاستطاعة (ن‌.ع‌) أو قدرة الإنسان‌ على‌ القيام‌ بالأفعال‌، أن‌ هذه‌ المقدرة توجد في الإنسان‌ قبل‌ وقوع‌ الفعل‌، كما كان‌ يرى‌ ذلك سائر المؤمنين‌ بالعدل‌ و الاختيار، إلا أنه‌ لم‌‌يكن‌ يستحسن‌ مبالغة أبي الهذيل‌ العلاف‌ في هذا المجال‌. فقد كان‌ أبوالهذيل‌ يرى‌ أن‌ الإنسان‌ لايملك الاستطاعة عند وقوع‌ الفعل‌، و من‌ الممكن‌ أن‌ يصدر الفعل‌ من‌ عضو الشخص‌ العاجز، أو حتى‌ الميت‌ (ظ: ن‌.د، أبو‌الهذيل‌ العلاف‌؛ الأشعري، ن‌.م‌، 232). و لكن‌ الإسكافي كان‌ يرى‌ خلافاً لأبي‌الهذيل‌، أن‌ الاستطاعة توجد في الإنسان‌ في حالة القيام‌ بالفعل‌ المباشر، حيث‌ إن‌ كل‌ جزء منها بحاجة إلى‌ تجديد العزم‌ و الإرادة و القصد (الأشعري، ن‌.م‌، 409) و من‌ المستحيل‌ صدور الفعل‌ من‌ العضو العاجز و الميت‌ (ن‌.م‌، 232، 313).

 

الإمامة و السياسة

تعتبر مسألة الإمامة إحدى‌ أقدم‌ المسائل‌ الكلامية السياسية و أهمها و أصعبها و أكثرها إثارة للجدل‌، و قد طرحت‌ منذ القدم‌ بين‌ المتكلمين‌، و حدثت‌ في نفس‌‌الوقت‌ بسببها حروب‌ و سفك كثير للدماء، كما ظهرت‌ فرق‌ دينية كثيرة. وما‌كان‌ يزيد من‌ هذه‌ الصعوبة، أن‌ الأفكار السياسية و الأفكار الدينية كانت‌ مختلطة مع‌ بعضها، و كانت‌ المذاهب‌ السياسية في أغلب‌ الأحوال‌ بصدد أن‌ تؤسس‌ لنفسها أصولاً دينية. وعلى‌ أي حال‌، فإن‌ الإسكافي كان‌ قد كتب‌ في هذا المجال‌ 3 رسائل‌ بسبب‌ أهمية المسألة (ظ: الأعداد، 15، 20 و24 قسم الآثار في هذه‌ المقالة). ومن‌ أجل‌ أن‌ يتضح‌ لنا رأيه‌ حول‌ الإمامة، علينا قبل‌ كل‌ شيء أن‌ نتطرق‌ إلى‌ أفكار المعتزلة في هذا المجال‌. فقد كان‌ لهم‌ بشكل‌ عام‌ رأيان‌ حول‌ هذا الموضوع‌: الفريق‌ الأول‌ كان‌ يرى‌ أن‌ الإمامة واجبة، كما أن‌ من‌ الواجب‌ على‌ الأمة أيضاً أن‌ تعين‌ إماماً؛ الفريق‌ الثاني، كان‌ يعتقد بأن‌ ذلك ليس‌ واجباً على‌ المسلمين‌. ولكن‌ الفريق‌ الأول‌ لم‌‌يكونوا متفقين بشأن‌ كيفية تعيين‌ الإمام‌ وفلسفة مشروعيته‌. فقد كان‌ الإسكافي و غالبية المعتزلة يقولون‌ بإمامة المفضول‌، و يرون‌ أن‌ لا إشكال‌ في أن‌ يعقد المسلمون‌ الإمامة لرجل‌ يرون‌ أن‌ هناك من‌ هو أفضل‌ منه‌ بين‌ الأمة. و أما الجاحظ و معظم‌ معتزلة البصرة فقد كانوا يخالفونهم‌ في الرأي، ويرون‌ أن‌ الإمامة لايستحقها سوى‌ الفاضل‌، وقد كانت‌ مرتبة أبي‌بكر الأعلى‌ مـن‌ الجميـع‌ بـعـد النـبـي (ص‌) (الإسكـافـي، مخ‍؛ الـجـاحـظ، 1؛ مسائل‌ ...، 50-52؛ الملطي، 39). و أما الإسكافي والفريق‌ الذي كان‌ يقول‌ بإمامة المفضول‌، فقد كانوا يرون‌ أن‌ مرتبة علي (ع‌) كانت‌ هي الأعلى‌ بعد النبي (ص‌)، و أن‌ أبا‌بكر كان‌ في المرتبة التالية، ولكن‌ القرشيين‌ كانوا يميلون‌ إلى‌ أبي‌بكر لأسباب‌ معينة، ولذلك فقد بايعوه‌ (الإسكافي، مخ‍؛ مسائل‌، 56). و على‌ هذا الأساس‌، فإن‌ الإسكافي لايرى‌ ضيراً حتى‌ في ولاية عثمان‌ و فيما يتعلق‌ بأشخاص‌ مثل‌ عائشة و طلحة و الزبير الذين‌ حاربوا علياً (ع‌) في زمان‌ خلافته‌، و إنه كان‌ يرى‌ أنهم‌ تابوا من‌ ذنوبهم‌، رغم‌ أنهم‌ كانوا مذنبين‌ (الخياط، 98).

و على‌ أي حال‌، فمن‌ أجل‌ دراسة أعمق‌ و أشمل‌ لآراء الإسكافي فيما يتعلق‌ بالإمامة، فإن‌ رسالته‌ المعدّلة نقض‌ العثمانية تعد أفضل‌ المصادر و أكثرها قيمة. فهذا الكتاب‌ هو رد على‌ رسالة العثمانية للجاحظ. و قد كان‌ العثمانية يؤيدون‌ عائشة و طلحة والزبير و أهل‌ الشام‌ الذين‌ خرجوا على‌ بيعة علي (ع‌) و مالوا إلى‌ معاوية (مسائل‌، 16). و يطرح‌ الجاحظ في رسالة العثمانية أحقية خلافة أبي‌بكر وعمر و عثمان‌، و يهاجم‌ معتقدات‌ الشيعة في هذا المجال‌. و من‌ العجيب‌ أن‌ الجاحظ نفسه‌ يطرح‌ في رسالته‌ الأخرى‌ فضل‌ هاشم‌ على‌ عبد شمس‌ حديثاً يخالف‌ أفكار العثمانية!، و على‌ أي حال، فإن‌ الجاحظ يحاول‌ في العثمانية أن‌ يثبت‌ أن‌ أبا‌بكر كان‌ أفضل‌ من‌ علي (ع‌). و يجيب‌ الإسكافي في رديته‌ على‌ كل‌ واحد من‌ الأدلة التي يذكرها الجاحظ لتفضيل‌ أبي‌بكر و يصرح‌ بأنه‌ لاينكر فضيلة أي من‌ الصحابة و سابقتهم‌ المشرفة، و لكنه‌ لايحتمل‌ ترجيح‌ أحد الصحابة على‌ علي (ع‌). فهو يقول‌ (ص‌ 53) إن‌ الجاحظ يريد من‌ خلال‌ كلام‌ باطل‌ أن‌ يختلق‌ مناقب‌ لأبي‌بكر. و يشير الإسكافي إلى‌ ظروف‌ تاريخية و سياسية وجدت‌ فيها معتقدات‌ العثمانية بيئة مناسبة للنمو و الانتشار، فكان‌ أتباع‌ مثل‌ هذه‌ العقائد يلقون‌ التكريم‌، و يتصدرون‌ الأمور (ظ: ص‌ 13). في حين أن‌ الوضع‌ كان‌ مختلفاً تماماً فيما يتعلق‌ بعلي (ع‌)، و أبنائه وأتباعه‌، فكانت‌ توجه‌ إليهم‌ الشتائم‌ على‌ المنابر، و هُدّد المحدثون‌ و الوعاظ بأن‌ لايذكروا محاسنهم‌ و فضائلهم‌ (ن‌.ص‌). ومن‌ وجهة نظر الإسكافي فإن ماذكره‌ الجاحظ من‌ أن‌ أحد أدلة مشروعية إمامة أبي‌بكر هو أنه‌ كان‌ أول‌ مسلم‌، إنما هو ظن‌ باطل‌. و هو يأتي بأدلة مختلفة كي يثبت‌ أن‌ علياً (ع‌) كان‌ أول‌ مسلم‌ (ص‌ 16-21)، و يستند إلى‌ الآيات‌ و الروايات و الأشعار لإثبات‌ فضائل‌ علي (ع‌) (ص‌ 17-21). كما يلفت‌ النظر بذكاء إلى‌ تناقضات‌ الجاحظ في هذه‌ الرسالة (ص‌ 39).

 

المصادر

ابن‌ أبي الحديد، عبدالحميد، شرح‌ نهج‌ البلاغة، تق‍ ‍: محمد أبوالفضل‌ إبراهيم‌، القاهرة، 1379ه‍/1959م‌؛ ابن‌ أبي‌يعلى، محمد، طبقات‌ الحنابلة، تق‍: محمد حامد الفقي، القاهرة، 1371ه‍‍‍‍/1952م‌؛ ابن‌ حزم‌، علي، الفصل‌، تق‍ ‍: محمد إبراهيم‌ نصر وعبدالرحمان‌ عميرة، الرياض، 1402ه‍/1982م‌؛ ابن‌ المرتضى‌، أحمد، طبقات‌ المعتزلة، تق‍ : زوزانا ديفالدفيلتسر، بيروت‌، 1380ه‍/1961م‌؛ م‌.ن‌، المنية و الأمل‌، تق‍ ‍: محمد جواد مشكور، بيروت‌، 1399ه‍/1979م‌؛ ابن‌‌النديم‌، الفهرست‌؛ الإسفراييني، شاهفور، التبصير في الدين‌، تق‍ ‍: محمد زاهدالكوثري، القاهرة، 1359ه‍/1940م‌؛ الإسكافي، محمد، «نقض‌ العثمانيـة»، ضمن‌ رسائل‌ (ظ: هم‍، الجاحظ)؛ الأشعري، علي، اللمع‌، تق‍ : حمودة غرابة، القاهرة، 1955م‌؛ م‌.ن‌، مقالات‌ الإسلاميين‌، تق‍ ‍: هلموت‌ ريتر، بيروت‌، 1400ه‍/1980م‌؛ البغدادي، عبدالقاهر، أصول‌ الدين‌، إستانبول‌، 1346ه‍/1928م‌؛ م‌.ن‌، الفرق‌ بين‌ الفرق‌، تق‍ : محمد محيي‌الدين‌ عبدالحميد، القاهرة، مكتبة محمد على‌ صبيح‌؛ م‌.ن‌، الملل‌ و النحل‌، تق‍ : ألبير نصري نادر، بيروت‌، 1970م‌؛ الجاحظ، عمرو‌، «العثمانية»، ضمن‌ رسائل‌، تق‍ : حسن‌ السندوبي، القاهرة، 1352ه‍/1933م؛ جدعان، فهمي، المحنة، عمان‌، 1989م‌؛ الخطيب‌ البغدادي، أحمد، تاريخ‌ بغداد، القاهرة، 1349ه‍؛ الخياط، عبدالرحيم‌، الأنساب‌، حيدرآباد الدكن‌، 1382ه‍/1962م‌؛ الطبري، تاريخ‌؛ الغُريفي، علي العدناني، مقدمة بناء المقالة الفاطمية في نقض‌ الرسالة العثمانية لابن‌ طاووس‌، قم‌، مؤسسة آل‌ البيت‌؛ فان‌ إس‌، ي .‌، «معرفة الله‌ مسئلة دينية في فكر المعتزلة»، تج‍ ‍: إيرج‌ خليفة سلطاني، سير عرفان‌ وفلسفة درجهان‌ إسلام‌، طهران‌، 1367ش‌؛ القاضي عبدالجبار، شرح‌ الأصول‌ الخمسة، تق‍ ‍: عبدالكريم‌ عثمان‌، القاهرة، 1384ه‍/1965م‌؛ م‌.ن‌، «فضل‌ الاعتزال‌» فضل‌ الاعتزال‌ وطبقات‌ المعتزلة، تق‍ ‍: فؤادسيد، تونس‌/ الجزائر، 1393ه‍/1974م‌؛ القـرآن‌ الكريم‌؛ المركزية، المخطوطات‌؛ مسائل‌ الإمامة، المنسوب‌ للناشىٔ الأكبر، تق‍ ‍: يوسف‌ فان‌ إس‌، بيروت‌، 1971م؛ الملطي، محمد، التنبيه‌ و الرد، تق‍ ‍: محمد زاهد الكوثري، القاهرة، 1368ه‍/1949م‌؛ نادر، ألبير نصري، أهم‌ الفرق‌ الإسلامية، بيروت‌، المطبعة الكاثوليكية؛ النسفي، ميمون‌، تبصرة الأدلة، تق‍ ‍: كلود سلامة، دمشق‌، 1990م‌؛ نهج‌ البلاغة؛ ولفسن‌، هري‌ أوسترين‌، فلسفة علم‌ كلام‌، تج‍ : أحمد آرام‌، طهران‌، 1368ش‌؛ ياقوت‌، البلدان‌.     

ناصر گذشته‌/خ‌.

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: