أبو البرکات
cgietitle
1442/12/20 ۱۰:۲۱:۲۹
https://cgie.org.ir/ar/article/234647
1446/8/10 ۰۲:۰۲:۲۷
نشرت
4
أَبو الْبَرَکات، هبة الله بن علي (إلي) بن مَلکا (مَلکان) البغدادي، الملقب بأوحد الزمان و فیلسوف العراقین، من أطباء وفلاسفة النصف الأول من القرن 6هـ/12.
حیاته: لایُعرف تاریخ ولادته علی وجه الدقة، ومانعلمه عنه أنه ولد في ناحیة بَلَد بالقرب من الموصل في أسرة یهودیة (EI2)، ونشأ ببغداد و أقام فیها، ولهذا کان یُشار إلیه بالبلدي (ظ: ابن أبي أصیبعة، 1/278) والبغدادي (ظ: البیهقي، 110).
درس الطب في بغداد علی أبي الحسن سعید بن هبة الله و کان من أساتذة هذا الفن المشهورین (ابن أبي أصیبعة، ن.ص؛ الشهرزوري، 2/79)، ثم أصبح في خدمة الخلفاء العباسیین لمهارته في الطب. وبلغت شهرت في معالجة المرضی حداً بحیث کان یُدعی إلی کل حدب وصوب، حتی إن السلاطین السلاجقة کانوا یستدعونه من بغداد إلی همدان عند حاجتهم إلیه، ولهذا کان یحصل عن هذا الطریق علی العطایا و الأموال (القفطي، 224). وکان یتمیز بأسالیب خاصة في تشخیص الأمراض ومعالجتها مما کان یثیر إعجاب أطباء عصره. وتُلاحظ نماذج من إبداعاته العلاجیة المرفقة بالعلاج النفسي في آثا رابن أبي أصیبعة (ض/279-280) و القفطي (ص 225-226). وأورد القفطي أن الأطباء في وقته کانوا یسألونه عن مسائل في الأمراض فیجیب عنها بخطه فیسطّرون ذلک عنه إلی أن صارمؤلَّفاً یتناقلونه بینهم (ص 226).
ومن جانب آخر فقد ذاعت آراؤه الفلسفیة إلی الحد الذي انبری معه مفکرو القرن 6هـ لنقدها، وعبّر عنه شهابالدین یحیی السهروردي في کتاب المطارحات بـ «المتطبب المتشبه بالحکماء» وانتقد أفکاره عن الإرادة الإلهیة (ص 435-436، 468، 471). ومع هذا لم یحظ باهتمام أبناء دینه السابقین وذلک لاعتناقه الإسلام، ویبدو أنه لم یترک تأثیراً بالغاً علی الفکر الیهودي لنفس السبب (جودائیکا، V/984). وهناک أقوال مختلفة عن سبب اعتناقه للإسلام: فیری البعض أن استخفاف قاضي قضاة بغداد به کان مؤثراً في اتخاذه مثل هذا لاقرار (ابن أبي أصیبعة، 1/280؛ الشهرزوري، 2/80)، في حین قال البعض الآخر إن الخوف الناجم عن وفاة زوجة السلطان محمود السلجوقي (حکـ 498-511هـ) والتي کانت تحت معالجته، کان العامل الأساس وراء ذلک الحدث (القفطي، 226-227). هذا في حین أورد البیهقي أن أبا البرکات وقع أسیراً في الحرب التي دارت عام 529هـ بین الخلیفة العباسي المسترشد بالله (حکـ 512-529هـ) والسلطان مسعودالسلجوقي (حکـ 527-547هـ)، فدعلن إسلامه خوفاً من القتل، فنجا من الموت بهذه الطریقة ونال خلعة السلطان (ص 151-152؛ الشهرزوري، ن.ص). وأصیب في آخر عمره بمرض الجذام، ورغم أنه قد عالجه بأسلوبه الخاص، إلا أنه فقد بصره إثر ذلک (البیهقي، 151؛ الشهرزوري، 2/79؛ القفطي، 226)، ولهذا السبب کان یملي کتاب المعتبر – الذي یُعد أهم آثاره الفلسفیة – علی تلامذته (ابن أبي أصیبعة، ن.ص؛ الذهبي، 20/419).
ولایعرف عام وفاته بدقة، کما هو الحلا في عام ولادته. وأورد الصفدي أنه عمّر 80 عاماً وتوفي في حدود 560هـ (ص 304). وذکر ابن أبي أصیبعة أنه عاش 80 عاماً دون أن یشیر إلی تاریخ وفاته (ن.ص). وذکر الذهبي (ن.ص) أنه مات سنة نیف وخمسین و خمسمائة و عاش نحو الثمانین عاماً، في حین انفرد البیهقي (ن.ص) و حذا حذوه الشهرزوري (ن.ص) في القول بأنه توفي عام 547هـ و عاش 90 عاماً. ویبدو أن قول البیهقي (تـ 565هـ) أصح من باقي الأقوال، وکتب البیهقي بهذا الصدد: مرض السلطان مسعود بن محمد بن ملکشاه في 547هـ، فجيء بأبي البرکات من بغداد إلی همدان لمعالجته، فلما یئس الناس من حیاة السلطان خاف أبوالبرکات علی نفسه و مات ضحوة و مات السلطان بعد العصر، وحُمل تابوت أبي البرکات إلی بغداد مع قافلة الحُجاج (ن.ص؛ الشهرزوري، 2/79-80). ویعتقد البغدادي، و هو من المتأخرین، بوفاته ببغداد في 570 هـ (2/505)، کما قال جورج سارتون دون أن یعتمد علی مصدر ما: توفي ببغداد عن 80 عاماً بعد إصابته بداء الفیل (II/82).
خلّف أبوالبرکات 3 بنات (الذهبي، ابن أبي أصیبعة، ن. صص) بقین علی الدیانة الیهودیة (القفطي، 225)، ولهذا السبب کان یُخشی أن لایرثن أباهن بعد وفاته، غیر أن الخلیفة آنذاک وافق – بعد تضرع آبي البرکات إلیه – علی وراثتهن له بعد وفاته، وقد وقع ذلک بالفعل (ن.ص).
وکان أبوالبرکات رجلاً مغروراً متکبراً، ولهذاوصفه أغلب المؤلفین بدناءة الطبع و سوء الخلق. وأشارت المصادر إلی عدائه لأمین الدولة أبي الحسن ابن التلمیذ و تآمره علیه، وکان طبیباً معاصراً له و مقرباً من جهاز الخلافة ورجلاً کثیر التواضع (ابن أبي أصیبعة، ن.ص؛ یاقوت، 19/277-278)، وأورد القفطي (ص 226) وابن خلکان (6/75) شعراً للبدیع الأسطر لابي بهذا الشأن.
وفضلاً عن مؤلفاته القیمة، فقد کانت له حلقات درس وتلامیذ من بینهم: الشیخ یوسف والد موفقالدین عبداللطیف البغدادي و جمالالدین ابن فضلان و ابن الدهان المنجم ومهذبالدین ابن النقاش (ابن أبي أصیبعة، ن.ص). ومنتلامذته الاخرین أشیر إلی إسحاق بن إبراهیم ابن عزرا الذي کانت تربطه به علاقة صداقة وقد مدحه بشعر بالعبریة (ظ: EI2).
1. مقالة في سبب ظهور الکواکب لیلاً واختفائها نهاراً (ابن أبي أصیبعة، ن.ص). ونُسبت هذه الرسالة أیضاً إلی الخواجه نصیرالدین الطوسي (المرکزیة، 16/339)؛ وهناک رسالة تدعی رؤیة الکواکب في اللیل لافي النهار، وقد نُسبت إلی ابن سینا (آستان، 8/343، 10/252)، لکن و کما یُفهم من مطلع هذه النسخ، فإن الرسالة قد کُتبت في جواب السلطان محمد بن ملکشاه السلجوقي، ولهذا لایصحّ انتسابها إلی ابن سینا، أو الخواجه نصیرالدین.
ترجم فیدمان هذه الرسالة إلی الألمانیة و طبعت في «تقویم إدرس التصویري» (1909م، ص 49-54) (GAL, S/I/831؛ للاطلاع علی مخطوطات هذاالکتاب، ظ: GAL, I/602؛ آستان، 11/311؛ المرکزیة، 10/1635، 14/3682).
2. اختصار التشریح، تلخیص و تهذیب لأقوال جالینوس (ظ: ابن أبي أصیبعة، ن.ص).
3. کتاب الأقراباذین (مجموعة توصیات في صناعة الأدویة المرکبة و بیان أجزائها و طریقة ترکیبها) في 3 مقالات (ن.ص).
4. رسالة في العقل و ماهیته (ن.ص)، أطلق الذهبي علی هذه الرسالة اسم رسالة في ماهیة العقل (ن.ص؛ للاطلاع علی مخطوطة منها، ظ: GAL, S، ن.ص، بعنوان کتاب صحیح أدلة النقل في ماهیة العقل).
5. بَرشِعثا، مقالة في دواء بهذا الاسم (ابن أبي أصیبعة، ن.ص)، تدعی هذه المقالة تریاق برشعثا أیضاً (الذهبي، ن.ص، للاطلاع علی مخطوطاتها، ظ: المرکزیة، 15/4157، بعنوان شربت برشعثا؛ کوپریلي، 1/501، بعنوان صفة تریاق برشعثا).
6. أمین الأرواح، حول المعجون (ابن أبي أصیبعة، ن.ص)، توجد نسخة من هذه الرسالة في مغنیسا، سُمیت خطأ بـ أمیر الأرواح (ظ: فهرس …، 90).
7. ومنالآثار المنسوبة إلیه تفسیر باعربیة و بالخط العبري علی سفر الجامعهة في التوراة (قسم المواعظ)، توجد مخطوطته في أکسفورد ولینینغراد. أملی أبوالبرکات هذا الکتاب علی تلمیذه إسحاق بن إبراهیم ابن عزرا، وقد مدح إسحاق أستاذه في مقدمة الکتاب بأبیات شعریة. نُشرت أ}زاء من هذا التفسیر بتحقیق پوزانسکي (جودائیکا، VIII/461).
8. ومن الکتب المنسوبة إلیه قواعد اللغة العبریة مکتوبة باللغة العربیة، توجد مخطوطتها في لینینغراد (ن.ص).
9. کتاب النفس (البیهقي، 150)، أو تفسیر کتاب النفس لأرسطو (صفا، 1/278).
10. المعتبر في الحکمة، وهو أشهر آثاره الفلسفیة، وقیل فیه: «هو أحسن کتاب صنف في هذا الشأن في هذا الزمانم (القفطي، 224). ویبدو أن أبا البرکات کان علی علم أیضاً بأهمیته، ولهذا – وطبقاً للروایات – عندما حانت وفاته أمر أن یُکتَب علی قبره: «هذا قبر أوحد الزمان أبي البرکات ذي العبر صاحب المعتبر» (م.ن، 226). صنف هذا الکتاب في ثلاثة حقول: المنطق والطبیعیات والإلهیات وتتضح لنا أهمیته حینما نجد اهتمام المفکرین به أمثال فخرالدین الرازي و صدر المتألهین الشیرازي و ابن تیمیة و شموئیل بن إلی العالم الیهودي العراقي (EI2). کما کتب علي بن زید البیهقي کتاباً باسم المشتهر في نقض المعتبر (یاقوت، 13/228). نُشر کتاب المعتبر بحیدرآبادالدکن (1357-1358هـ) في 3 أجزاء بتحقیق زین العابدین الموسوي مع تعلیق و خاتمة لسلیمان الندوي. وهناک ترجمة ناقصة لحقل الإلهیات من هذا الکتاب طبعت بإستانبول في 1932م.
یعدّ أبوالبرکات من نقّاد الفلسفة المشائیة. ورغم أنه ألّف المعتبر علی غرار آثار أرسطو و المشائین، لکنه لم یقلد الماضین تقلیداً أعمی، ولم یقم وزناً للأسس المنطقیة والبراهین العقلیة (ظ: أبو البرکات، 1/4). ولما کان هدفه معرفة الحقیقة لا التحیز لشخص معین، أو فکر خاص، لذلک نجده قلّما یهتم بالمنقولات عن الفلاسفة، کما کانت الموضوعات التي یطرحها هي ثمرة بحوثه و حصیلة الملاحظات التي دوّنها طوال حیاته: «فلما قدّرلي الاشتغال بالعلوم الحکمیة بقراءة الکتب التي نقلت فیها عن المتقدمین والتفاسیر والشروح والتصاریف التي شرحها وصنّفها المتأخرون، کنت أقرأ کثیراً وأکبّ علیه إکباباً طویلاً حتی أحصل منه علماً قلیلاً، لأن کلام القدماء کان یصعب فهم کثیر منه لاختصاره وقلة تحصیله و محصوله و اختلال عبارته في نقله من لغة إلی لغة؛ و کلام المتأخرین لأجل طوله وبُعد دلیله عما یدل علیه و حجته عن محجته و إعواز الشرح والبیان المحققین في کثیر من المواضع … فکنت أجتهد بالفکر و النظر في تحصیل المعاني وفهمها والعلوم وتحقیقها، فیافق في شيء لبعض ویخالف في شيء آخر لبعض من القدماء في أقاویلهم، وتحصل بإشباع النظر في صحیفة الوجود من ذلک مالم یقل أو لم ینقل. وکان ذلک جمیعه لاینضبط بالحفة، بل یتعلق في أوراق استبقیتها للمراجعة والتحصیل فاطلع علی تلک الأوراق من رغب في تبییض مصنف منها فامتنعت عن ذلک لما قدر من وقوعه إلی غیر أهله ممن یقبل أو یردّ مافیه أو شیئاً منه بجهل وقلة تأمل. فلما کثرت تلک الأوراق وتحصل فیها من العلوم مالایسهل تضییعه مع تکرار الالتماس ممن تتعین إجابتهم، أجبتهم إلی تصنف هذا الکتاب» (1/3-4). وکان یُعبّر عن علم المنطق بـ «قوانین الأنظار و عروض الأفکار» (1/4) وسعی في هذا الحقل إلی التذکیر بنقائص المنطق الأرسطي، وتنقیته من الحشو والزوائد. أما في حقل الطبیعیات، فقد أشار إلی بعض مشاهداته ضمن نقده وتحلیله أفکار المشائین (مثلاً 2/209، 224، 243).
یرفض أبوالبرکات – علی صعید بدء الخلقة وکیفیة ظهور کثرات الوجود – نظریة الفلاسفة المشائین التي تقوم عل أساس قاعدة «الواحد لایصدر عنه إلا الواحد». ویعتقد المشاؤون أن المبدأ الأول وحید وبسیط من کافي الجهات، ولیست فیه أیة کثرة، وصدور الموجودات عنه یکون علی سبیل اللزوم، ثم یستنتجون اعتماداً علی القاعدة المذکورة: إن المبدأ الأول یجب أن یصدر عنه شيء واحد. فالصادر الدول، أو أول معلول إلهي هو دمر واحد وجوهر مجرد من المادة یُدعی العقل الأول. والعقل الأول بتعقل ذات الباري أفاض العقل الثانيف ویتعقل ذاته أفاض الفلک الأول والنفس المتعلقة به. وظهر العقل الثاني من العقل الدول، والعقل الثالث من العقل الثاني، واستمر هذا الظهرو أو الصدور حتی العقل العاشر. والعقل العاشر، أو العقل الفعال هو آخر عقل من العقول العشرة وله تأثیر مباشر في عالم المادة. والعقل سبب وجود النفوس الأرضیة من جهة، وموجِد بواسطة الأفلاک العناصرَ الأربعة ومرکبات عالم الکون و الفساد من جهة أخری. وتتم إفاضة صور المرکبات من جانبه (3/148-151).
ویعتقد أبوالبرکات أن حدیث المشائین حول العقل الفعال مشوش ومضطرب، ولایخلو رأیهم حول عدد العقول من المؤاخذة. فالمشاؤون قد یطلقون أحیاناً تعبیر العقل الفعال علی عقل فلک القمر الهادي والمعلم والمربي للنفوس البشریة، ویعتقدون أن النفوس صادرة عنه. وقد یقولون أحیاناً إن العقل الفعال معلول عقل فلک القمر، ولیس هو عقل فلک القمر (3/151).
ومن جانب آخر بعتقد المشاؤون أن عدد العقول المفارقة یبلغ عشرة، تأثراً منهم بکلام علماء الهیئة، حیث یعتقدن أن عدد العقول یساوي عدد الأفلاک (ن.ص)، لکن هل یمکن حصر العقول بعدد معین، أو أن العقل الفعال هو عین عقل فلک القمر؟
وینبري أبوالبرکات بعد هذه الملاحظات إلی نقد کلام المشائین حول قاعدة «الواحد» التي هي من مبادئ نظریة الصدور (3/156-158). فهو یری أن هذا قول حق في نفسه أخذ منه الفلاسفة المشاؤون نتائج غیر لازمة ولایتسخدمونه بالشکل الصحیح (3/156)، لأنهم یقولون إن المبدأ الأول الذي هو واحد لایصدر عنه سوی موجود واحد (= العقل الأول)، ثم یجعلون العقل الأول الذي هو واحد بذاته (= واحد الذات)، مصدراً لثلاثة صدورات أخری، أي صدور العقل الثاني وجرم الفلک الأول والنفس المتعلقة به. وهم بهذا ینقضون القاعدة التي وضعوها بأنفسهم، حیث کیف یمکن تبریر الصدورات الثلاثة الأخری عن العقل الأول – الذي هو واحد أیضاً – من خلال الالتزام بهذه القاعدة؟ بعبارة أخری لو کان العقل الأول واحداً حقاً، فالمفروض أن لایصدر عنه إلا واحد، وإذا لم یکن واحداً حقاًف بل یضم في وجوده کثرة – کما یقول المشاؤون – فإن صدوره عن الواحد (= المبدأ الأول) ینقض القاعدة المذکورة.
لماذا لانقول إن المبدأ الأول بما یعقل ذاته عقلاً أولیاً بوحدانیته وبذاته یصدر عنه موجود هو أول مخلوقاته. فإذا أوجده عرفه وعقله موجوداً حاصلاً في الوجود معه کان بما یعقله یصدر عنه آخر غیره، وکذلک یعقل فیوجد ویوجد فیعقل وتکون مخلوقاته عنده دواعي مخلوقاته، فیوجد الثاني لأجل الأول والثالث لأجل الثاني، کما جاء في خبر الخلیقة أنه خلق آدم أولاً وخلق منه ولأجله حواء، ومنهما ولأجلهما ولداً (ن.ص).
وخلاصة کلام أبي البرکات هو أن الله تعالی هو الفاعل الحقیقي والخالق المباشر لکافة الموجودات دون أن تکون هناک واسطة في خالقیته وفاعلیته، والمقصود بالوساطة هنا وساطة سلسلة العقول في عملیة صدور و ظهور کثرات عالم الوجود کما یعتقد المشاؤون. فالمبدأ الأول الفاعل المختار القادر بإمکانه أن یخلق موجوداً واحداً ثم یخلق لأجله وله مخلوقاً آخر ویکون في نفس الوقت أولیاً وفاعلاً مباشراً إزاء العلتین. ویضر أبو البرکات مثلاً في توضیح هذا الأمر: هبْ أنّ رجلاً اشتري لنفسه عبداً، ثم اشتری عبداً آخر للعبد الأول، ثم عبداً آخر للعبد الأول، ثم عبداً آخر للعبد الثاني و هکذا، فیکون المشتري في کافة هذه الحالات هو الرجل وإن کان قد اشتری الثاني للأول والثالث للثاني (ن.ص).
والنقد الأساس الذي یوجهه أبو البرکات لنظریة صدور قاعدة الواحد هو أن کلام المشائین یحدّد القدرة الإلهیة، لأن نتیجة القاعدة المذکورة کما یوضحونها هم هي أن عملیة الصدور لن تتکثر إلاطولاً، أي أنسلسلة الصدورات لاتستمر إلا في جهة طولیة واحدة. وعلی هذا الأساس کیف یمکن تفسیر کثرة الموجودات التي تتکثّر عرضاً ولیس بعضها علة للبعض الآخر؟ (3/151). إن أساس رأي أبي البرکات، علی غرار المتکلمین الأشاعرة (ظ: فخرالدین الرازي، 2/501-508) هو أن الله لیس فاعلاً موجَباً ومضطراً ومجبراً، بل فاعل مختار، وقاعدة «الواحد» - التي هي صحیحة في نفسها – لاتصدق علی الفاعل المختار القادر. وحدث الخلق لیس صدوراً ضروریاً، بل فعل إرادي یحصل عن الإرادة المطلقة التامة علی علم بما تفعل. وقاعدة «الواحد» کما یفسّرها المشاؤون تقتضي أن یکون الله وحده هو الخالق المباشر والفاعل الحقیقي لشيء واحد (= العقل الأول)، هذا في حین أن قدرة الله وفاعلیته لیست محدودة، ولیس لسلسلة العقول أي فاعلیة في عمل الخلق، وبإمکان البارئ تعالی أن یخلق کل مایرید بدون واسطة – والمقصود بها وساطة العقول في عمل الصدور و الخلق – وأن کل ما ظهر في عالم الوجود و یظهر إنما هو فعله و خلقه بشکل مباشر.
وهنا لابد من الإشارة إلی نقطتین: الأولی: و خلافاً لما یقوله أبوالبرکات فإنه نظراً للعلاقة الطولیة بین مراتب الوجود، وانطلاقاً من القاعدة التي تقول إن علة علة الشيء، علة ذلک الشيء، فإن الفلاسفة المشائین الإسلامیین و من بینهم ابن سینا یرون المبدأ الأول فاعلاً حقیقیاً ، وسلسلة العقول لیست سوی واسطة للفیض لامبدأ للفیض، ویبدو أن أبا البرکات قد خلط بین هاتین الفکرتین. وکلامه لایقدم حلاً للمشکلة. والثانیة: إن أسلوب أبي البرکات قد لایفي بالغرض في بعض الأحیان، وتشبیه حالة الصدور بشراء العبد من قبل رجل فرضي لایحل المشکلة، لأن صدور المخلوق الثاني عن المبدأ الأول من أجل المخلوق الأول، إذا کان من نفس الجهة التي صدر عنها المخلوق الأول، فسیکون الثاني في هذه الحالة الأول نفسه لاشیئاً آخر، وإذا لم یکن من نفس الجهة، تبرز في هذه الحالة کثرة الجهات في ذات المبدأ الأول، وهو الإشکال الأصلي.
2. یناقش أبوالبرکات في الفصل الثاني من مقالة الإلهیات الثانیة الاستخدامات المختلفة لمفردة العقل. ویرفض وجود العقل الفعال باصورة التي یطرحها المشاؤون. فهؤلاء یعتقدون أن العقل الفعال هو الذي یرتفع بالنفس الإنسانیة من مرحلة العقل بالقوة إلی مرتبة العقل بالفعل، وهو بمثابة الأستاذ و المربي للنفوس الإنسانیة. فالعقل الفعال مبدأ تصدر عنه النفوس و تعود إلیه من منتهی الکمال أیضاً (أبوالبرکات، 3/148-149).
واتخذ أبوالبرکات موقفین إزاء هذا الرأي: فقد صرّح في قسم الطبیعیات أن بإمکان النفس الوصول بذاتها إلی الکمال دون أن تحتاج إلی شيء آخر یوصلها إلی مرتبة الکمال والفعلیة (2/411)، وبهذا فهي غیرمحتاجة إلی العقل الفعال إلا أنه طرح المسألة في قسم الإلهیات بشکل آخر، وحیث قال إن القول بوجود المربي والمدبر للنفوس الإنسانیة کلام صحیح، لکن لایُعلم هل هو معلم لکافة النفوس، أم معلم خاص لکل نفس، أو عدّة معلمین لنفس واحدة؟ (3/152).
ویقول المشاؤون إن العقل الفعال علة قریبة تصدر عنها النفوس الإنسانیة. والنفوس لاتختلف فیما بینها جوهریاً وماهویاً، والفرق بینها یعود إلی أمور عراضة تعتمد علی الأبدان و الأمزجة و التربیة و العادات، ولهذا یکفي وجود معلم، أو علة قریبة والتي هي العقل الفعال. إلا أن أبا البرکات یری أن النفوس الإنسانیة تختلف عن بعضها اختلافاً ماهویاً وجوهریاً، ولهذا یجب أن یکون لها أکثر من مبدأ قریب لصدورها، وأکثر من معلم لتعلیمها (ظ: 3/152-153).
عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.
مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع
هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر
تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول
استبدال الرمز
الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:
هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول
الضغط علی زر التسجیل یفسر بأنک تقبل جمیع الضوابط و القوانین المختصة بموقع الویب
enterverifycode