الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / الادب العربی / ابن درید /

فهرس الموضوعات

ابن درید

ابن درید

تاریخ آخر التحدیث : 1442/11/8 ۲۱:۱۰:۴۳ تاریخ تألیف المقالة

اِبنُ دُرَید، أبو بكر محمد بن الحسن بن درید الأزدي (ح 223-18 شعبان 321/838هـ -آب 933م)، لغوي ونحوي وأدیب وشاعر. ذكر الجمیع ابتداءً من أبي الطیب اللغوي (ص 84)، ثم الخطیب (2/195) وانتهاءً بیاقوت (الأدباء، 18/127) أن نسبه یعود إلی قبیلة الأزد. وقد رحلت هذه القبیلة الیمنیة الكبیرة إلی عمان قبل الإسلام. وعرفت بأزد عمان، وكانت أسرة ابن درید من أعیان القبیلة. وذكر ابن درید (ظ: الخطیب، 2/196) أنه ولد في سكة صالح بالبصرة (أیضاً ظ: ابن الندیم، 67؛ ابن الأنباري، 175؛ ابن الجوزي، 6/261؛ یاقوت، ن.ص). وقد اختلف في السنوات التي عاشها، ولما كان تاریخ وفاته معروفاً، فقد اختلف في سنة ولادته فقیل إنها 228هـ (أبو الطیب، ن.ص؛ الزبیدي، 184؛ ابن خلكان، 4/328) و224هـ (أبوالطیب، ن.ص)، و223هـ، وهي الأصح، وذلك عنه أو عن تلمیذه أبي الحسین (ابن الندیم، ن.ص؛ المرزباني، 426؛ الخطیب، ن.ص).

وردت في المصادر معلومات یسیرة عن مختلف مراحل حیاته، ولكنها مفیدة إلی حد ما، وما أن نصل إلی القرن 7هـ وإلی وفیات ابن خلكان حتی تصبح هذه المعلومات أغزر وأدق. ورغم الإحساس بأن ابن خلكان یستقي روایاته من آثار القالي تلمیذ ابن درید، غیر أن ظلال الشك لاتمّحي من ذهن الباحث، وأول شبهة تظهر في فترة صباه، فقد قیل إنه قضي طفولته في البصرة ونشأ فیها (ابن الندیم، ن.ص؛ الیغموري، 342؛ التنوخي، المحسن، 250؛ یاقوت، الأدباء، ن.ص، الذي روی عن التنوخي دون أن نعلم مصدره)، أو في عمان (المرزباني، 425؛ الخطیب، 2/195؛ ابن الجوزي، ن.ص). وقد أشار ابن خلكان (4/325) إلی أنه نشأ في البصرة، وأضاف أنه أخذ عن أبي حاتم السجستاني (تـ 255هـ) والریاشي (تـ 257هـ) وابن أخي الأصمعي والأشنانداني (تـ 288هـ)، وبقي في البصرة حتی ظهور الزنج ونهبها وقتل الریاشي أو قبیل ذلك؛ وعندما رأی اضطراب الأحوال، هرب معه عمه الحسین إلی عمان. وهذا یعني أنه كان في البصرة حتی الـ 34 من عمره، مما ینفي الروایات التي تذهب إلی أن نشأته كانت في عمان، وعلی كل حال فقد كفله عمه الحسین بن درید ذلك بعد أن فقد أباه علی ما یبدو، فأوكل تربیته وتعلیمه إلی أبي عثمان الأشنانداني. وقد تجلت قوة ذاكرته وذكائه منذ صغره، ویدل علی ذلك القصة التي أوردها المحسن التنوخي (ن.ص)، فبینما كان معلمه الأشنانداني یروي له معلقة الحارث بن حلزة، طلب الحسین من ابن أخیه أن یحفظها ووعده بجائزة، ولما عاد عمه والأستاذ من تناول الطعام، كان ابن درید قد حفظ دیوان الحارث كله فضلاً عن المعلقة (أیضاً ظ: الخطیب، 2/196؛ یاقوت، الأدباء، 18/129-130). ویبدو أن الأشنانداني بدأ یملي علیه معاني الشعر بعد عدة سنوات من فترة الدراسة هذه، أثناء التنزه علی نهر البصرة (الأشنانداني، 3).

ثم انتقل ابن درید إلی عمان وبقي فیها 12 سنة (ابن خلكان، 4/325). ولم یبق لنا من هذه الفترة سوی روایة مهمة واحدة، رواها ابن درید نفسه (ظ: یاقوت، الأدباء، 18/141) أنه كان في عمان مع الصلت ابن مالك الشاري (إمام فرقة من الخوارج وكانت الأمطار والسیول الشدیدة تهدم البیوت، فطلب الناس من الصلت أن یدعو الله لینقطع المطر. وفي الیوم الثاني وحینما ركب إلی الصحراء للدعاء كان ابن درید معه، ویذكر المسعودي أن الصلت بن مالك قتل بأیدي عمال الخلیفة في 280هـ (8/143) واستطاع محمد بن نور بمعونة مرتزقته الأحباش أن یهزم جیش الصلت، وكان أكثره من الأزد. فنظم ابن درید الذي تألم لقتل أبناء قبیلته مقطوعة شعریة هجا فیها مرتزقة محمد بن نور ووصف ذلك الجیش بـ «الأعبدُ القنّ التنابیل» (ظ: الدیوان، 110 والهامش). ویبدو أن نزاعاً حدث قبیل ذلك بین مختلف قبائل عمان ومنهم الفخذ الذي نشأ فیه ابن درید، وسالت الدماء، فنظم ابن درید كذلك قصیدة یرثي فیها أبناء القبیلة الذین قتلوا في «الروضة» تضم 47 بیتاً (الدیوان 89-92). ثم نظم قصیدة أخری من 60 بیتاً حرّض فیها قومه علی الأخذ بثأر قتلاهم (الدیوان، 92-97). وقد ترك ابن درید في هذه الدیار وذكریات أسطوریة كثیرة منها ما سمعه عز الدین التنوخي من صدیق عماني وأورده في مقدمة وصف السحاب لابن درید (ص 96-98).

وإذا لم نشك في إقامته مدة 12 سنة في عمان فلابد من أن نستنتج أنه عاد إلی البصرة عام 269هـ وعمره 46 سنة (ابن خلكان، 4/325)، وربما مر في هذه الرحلة بدار خربة وكتب علی جدارها بیتاً من الشعر (الیغموري، 343؛ یاقوت، الأدباء، 18/132)، ومن المحتمل أیضاً أنه تهاجی في هذه الفترة مع الشاعر الشیعي أبي عبد الله المفَجَّع (ابن الندیم، 91) ومدح یحیی بن عبد الوهاب وابن یحیی وكانا من أعیان البصرة (الدیوان، 63-64). وآل نزاعه مع أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي إلی الاحتكام عند أبي خلیفة قاضي البصرة المعروف (تـ 305هـ؛ للاطلاع علی ترجمته، ظ: المسعودي، 8/128-134؛ وعن القصیدة، ظ: GAL, I/113)، فغلّب القاضي ابن درید بحضور أعیان البصرة (الزبیدي، 182). وربما توفي الحسین عم ابن درید في هذه الفترة (ظ: الدیوان، 69-70)، وقد أقام في هذه المرة بالبصرة أكثر من 30 سنة، ولاشك في أنه سافر مرات أثناء ذلك ولعله زار عمان أیضاً. وربما ظهرت بعض الروایات العمانیة في خلال هذه الرحلات، ولكن لیس لدینا من الوثائق ما یساعدنا علی كشف الحقیقة، ویقال فقط إنه رحل من عمان إلی «جزائر البحر» (المرزباني، 425؛ الخطیب، 2/195) وذهب إلی جزیرة ابن عمارة (ابن الندیم، 67؛ یاقوت، الأدباء، 18/128: «ابن عمر»، ولاشك أنه تحریف) ومنها توجه إلی فارس، وهذا المسیر تلفیق بین ما ورد عند ابن خلكان والمصادر الأخری، التي تذكر أن الطریق التي سلكها كانت من عمان إلی -جزائر البحر، فارس (ابن الندیم؛ المرزباني ن.ص) وأحیاناً– عمان- الجزائر –البصرة– فارس (الخطیب، ن.ص).

أما كیف ذهب إلی فارس واتصل بآل میكال في إیران، فلیس لدینا ما یكشف عن زمان ذلك ومكانه. ذلك أن حكم هذه الأسرة وأحوالها غامضة، فقد كان الشاه بن میكال (تـ 302هـ/914م) من قواد الطاهریین، وكان یحارب باسمهم في بغداد والكوفة والبصرة وأماكن أخری، غیر أن مصادرنا أغفلت كلیاً حیاته في السنوات الثلاثین الأخیرة؛ أما ابن أخیه عبد الله بن محمد بن میكال (تـ 308هـ/920م) فقد اتصل بالخلیفة المقتدر بعد أن استوزره الصفاریون مدة، وربما ولّاه الخلیفة أولاً فارس. وعلی كل حال فقد عهد إلیه بولایة الأهواز في أواخر حیاته، وولد ابنه أبو العباس إسماعیل (تـ 362هـ/973م) في نیسابور وتعلم في فارس والأهواز (ظ: ن.د، آل میكال). وتشیر جمیع المصادر التي لدینا إلی سفر ابن درید إلی فارس فحسب، وأحیاناً إلی اتصاله بآل میكال، أما الحاكم النیسابوري (لروایته، ظ: السمعاني، 12/531؛ یاقوت، الأدباء، 7/8) وابن خلكان (4/325) فیصرحان بأنه: «عندما قلّد عبد الله الأعمال بكور الأهواز طلب ابن درید لتأدیب ابنه». وبالنظر إلی تاریخ وفاة عبد الله وولادة إسماعیل فلابد أن هذه الحادثة وقعت قبل 297هـ بعدة سنوات، غیر أن ابن خلكان أورد أنه كان یصاحب في فارس ابني میكال (محمد، تـ 250هـ والشاه) وكانا یومئذ علی عمالة فارس، وعمل لهما كتاب الجمهرة وقلداه دیوان فارس، وكانت تصدر كتب فارس عن رأیه، ولاینفذ أمر إلا بعد توقیعه، فأفاد معهما أموالاً عظیمة، وكان مبیداً لایمسك درهماً سخاءً وكرماً. ومدحهما بقصیدته المقصورة، فوصلاه بعشرة آلاف درهم، ثم انتقل من فارس إلی بغداد ودخلها سنة 308هـ بعد عزل ابني میكال وانتقالهما إلی خراسان (ن.ص). ولایخفی هنا ما في هذه الروایة من ضعف واضطراب وهي التي یعتمد علیها جمیع الكتّاب المعاصرین، أولاً: من المحتمل أن یكون موت محمد بن میكال قبل مجيء ابن درید إلی إیران؛ ثانیاً: لیس لدینا أي علم إن كان محمد بن میكال قد حكم في فارس أم لا؛ ثالثاً لم ترد أیة إشارة إلی المیكالي الأصلي، أي تلمیذه أبي العباس إسماعیل؛ رابعاً: لم یعزل هذان الأخوان ولم ینفیا إلی خراسان، ومما یزید المسألة غموضاً روایة أخری أوردها یاقوت (الأدباء، 18/142) ذكر فیها إلی أن الأمیر أبا نصر أحمد المیكالي -كان رئیس نیسابور– یقول نتذاكرنا المتنزهات یوماً وابن درید حاضر»، ولكن كیف یمكن أن یكون ابن درید حاضراً. وقد توفي أبو نصر هذا في 416هـ أي بعد 95 سنة من وفاة ابن درید، ولذلك یبدو أنه لایمكن الاعتماد البتة كعدد من المعاصرین (مثلاً ظ: ابن سالم، 10-14) علی هذه الرویات ولاسیما روایات ابن خلكان التي لاندري منشأها، وبالتالي یصعب تقسیم سنوات حیاته إلی مراحل دقیقة.

ومما لاشك فیه أنه بادر إلی تأدیب إسماعیل المیكالي في فترة كان فیها شاباً غضّاً مروّجاً للعلم، ونعلم أن إسماعیل هذا ولد في 270هـ، ورأینا أیضاً كما ذكر الحاكم النیسابوري أن عبد الله والد إسماعیل دعا ابن درید إلیه حینما تولّی بعض كور الأهواز في أواخر حیاته –وإن أشارت بعض الروایات إلی اتصاله به في فارس– لذلك یبدو أن اتصاله بآل میكال في أواخر القرن الثالث الهجري أقرب إلی المنطق والعقل، ثم لایمكن أیضاً تحدید السنوات التي كان خلالها في خدمتهم بشكل دقیق، فابن خلكان یصرح بأنه ذهب إلی بغداد في 308هـ. ویمكن أن یكون هذا التاریخ صحیحاً لوفاة عبد الله في هذه السنة، أو قد لایصح لأن تلمیذه وممدوحه إسماعیل كان قد ذهب قبل 10 سنوات من هذا التاریخ إلی نیسابور ومنها إلی هراة عن أحمد الساماني (تـ 301هـ)، ثم عهد إلیه بولایة نیسابور. والذي لانشك فیه أنه ترك آل میكال في شیخوخته وذهب إلی بغداد (المرزباني، 425؛ الخطیب، 2/195؛ ابن الجوزي، 6/261).

ولدینا روایات أخری تسهل الأمر إلی حدّ ما في تعیین الزمان والمكان: یصرح یاقوت (الأدباء، 18/137-138) نقلاً عن أبي علي البیهقي، المعروف بالسلامي أن ابن درید صنّف «المقصورة» لإسماعیل أیام مقامه بفارس. وتتكرر هذه الروایة أیضاً عن الجمهرة. یقول ابن الندیم (ص 67) إنه أملی ذلك الكتاب في فارس (ظ: یاقوت، ن.م، 18/131-132؛ السیوطي، المزهر، 1/94). ثم یورد یاقوت (ن.م، 18/ 138) روایة أخری تلفت النظر وهي أن أبا العباس إسماعیل نفسه یقول إن ابن درید أملی عليَّ كتاب الجمهرة من بدایته إلی نهایته في 297هـ. فعلی هذا ورغم أن المصادر التاریخیة لا تشير إلی أوضاع المیكالیین في فارس، ولكن مما لاشك فیه أن ابن درید أقام فیها مدة طویلة. ومدح هناك حُجر بن أحمد الجُویمي (تـ 324هـ/936م) (الدیوان، 64؛ یاقوت، الأدباء، 18/143).

ویمكن أن یستنبط من هذه الروایات أن ابن درید وصل إلی إیران قبل 297هـ وبعد قلیل من بلوغه السبعین، وأنه ذهب إلی بغداد في 308هـ أو قبلها بقلیل. ویذكر ابن خلكان (4/325-327) أنه لما وصل إلی بغداد أنزله علي بن محمد بن الحواري في جواره، كان عندئذ شیخاً كبیر السن (قد نیّف علی الثمانین) وكانت سمعته بالعلم واللغة قد بلغت كل مكان، فعرف المقتدر مكانته وأمر أن یجري علیه 50 دیناراً في كل شهر، ولم تزل جاریة علیه إلی حین وفاته. وعرض له في رأس التسعین من عمره فالج سقي له التریاق فبرئ منه. ثم ما لبث أن عاوده الفالج بعدم حمیته عن أي طعام، فبطل من محزمه إلی قدمیه وضعفت یداه. ومع ذلك لم یفقد ذاكرته وذكاءه فكان یجیب تلمیذه القالي عن كل ما یسأله عنه حتی قال له: «لئن طفئت شحمتا عیني لم تجد من یشفیك من العلم» وكان آخر ما سمعه القالي منه مثلاً جاهلیاً (ظ: ابن شاكر، 10/223؛ الصفدي، 2/340-341).

دفن ابن درید في مقبرة العباسیة ببغداد من الجانب الشرقي في ظهر سوق السلاح (ابن الندیم، 67)، أو في مقبرة الخیزران (الخطیب، 2/197؛ ابن الأنباري، 178؛ یاقوت، الأدباء، 18/127)، وممن رثاه جحظة. والحادثة التي وقعت في ذلك الیوم ولفتت أنظار الجمیع، أن جنازة المتكلم المعروف الجبائي أدخلت إلی المقبرة من باب آخر لها، فقال الناس: مات الیوم علم اللغة والكلام (التنوخي، المحسن، 210؛ الخطیب، ابن الأنباري، یاقوت، ن.ص؛ ابن خلكان، 4/328).

ویری بین أساتذة وتلامیذ ورواة ابن درید عدد كبیر من علماء اللغة والنحو والأدب، فمن أساتذته أشرنا سابقاً إلی الأشنانداني وأبي حاتم والریاشي وابن أخي الأصمعي، غیر أن عدد أساتذته یبلغ 22 عالماً (السنوسي، 21-23؛ قا: السورتي، 1/5؛ هارون، 5-6)، وممن یجدر ذكره منهم التوّزي (تـ 233هـ). ویبلغ عدد تلامیذه ورواته نحو 64 شخصاً (السنوسي، 24-30؛ قا: السورتي، 1/5-6؛ هارون، 6-8). ولاشك في أننا لانعرف أستاذاً برز من تلامذته ورواته كل هذا العدد من الكتّاب والعلماء الكبار، من أشهرهم: أبو علي القالي (الزبیدي، 162، 187) وقد نقل عنه روایات كثیرة (ظ: القالي، فهرست الأمالي) والمرزباني (ص 425؛ الخطیب، 2/195) والسیرافي (الخطیب، ن.ص؛ الیماني، 93) وابن شاذان (الخطیب، ن.ص؛ ابن شاكر، 10/222) وأبو الفرج الأصفهاني (17/106؛ یاقوت، 18/128؛ ابن شاكر، ن.ص) وابن خالویه (الیماني، 101؛ السیوطي، بغیة، 1/80) والرماني (الیماني، 221) وحمزة الأصفهاني (التنبیه، 75، 91، 92، سوائر الأمثال، 330) والآمدي (ص 269) وأبو علي الفارسي (ابن خلكان، 4/327) والشمشاطي (1/306، 367، 2/41، 108) وأخیراً أبو الحسین علي بن أحمد الذي كان یدعی علی الأغلب بـ «غلام ابن درید». وكان یدافع في بغداد عن «مقصورة» أستاذه ویرد علی ما یوجه إلیها من نقد (الداودي، 2/126).

وقد اجتمع أكثر هؤلاء العلماء الكبار حول ابن درید في بغداد. ولولا هذه الفترة من حیاته ولو لم یره القالي والمرزباني والسیرافي وأبو الفرج وأمثالهم ولم یرووا أقواله وأحواله، ربما لم یبق منه كل هذه الآثار ولكانت معلوماتنا عن حیاته أقل مما نعرفه الآن. لقد كان له في بغداد شهرة ومكانة، وكان یتمتع بما أجری له المقتدر في كل شهر، ویتردد أحیاناً علی مجالس القاضي المعروف عمر بن محمد بن یوسف (ظ: ابن درید، الدیوان، 79؛ ابن شاكر، 11/50). وقد عاتب مرة الوزیر علي بن الجراح (تـ 334هـ/946م) (الدیوان، 80؛ قا: یاقوت، الأدباء، 18/138) وهجا سلیمان بن مخلد (وزارته: 318-319هـ/930-931م) لأنه نقص من رواتب العلماء (الدیوان، 75 والهامش). وكان العلماء الذین یترددون علی الشیخ المسن آنذاك بیجلونه، ویعظمونه، وربما كان الوصف الذي أورده له الخطیب البغدادي (2/196؛ قا: ابن الأنباري، 176؛ یاقوت، ن.م، 18/129) أكثره الأوصاف اختصاراً وأجمعها فهو: أعلم الشعراء وأشعر العلماء. وقال عنه المسعودي (8/304) «كان ممكن برع في الشعر وانتهی في اللغة فقام مقام الخلیل» ولأبي الطیب اللغوي رأي مشابه فیه، وكان یتألم لأنه لم یقدر علی زیارته مراعاة لشیخوخته ویأخذه عن أكابر من أخذ عنه (ص 84). وقد أثارت قوة ذاكرته انتباه الجمیع حتی في شیخوخته، فرأینا كیف كان یملي بعض آثاره حفظاً أو یرویها. وقد قارنه أبو الطیب (ن.ص) بخلف الأحمر، فقال: «ما ازدهكم العلم والشعر في صدر واحد ازدحامهما في صدر خلف الأحمر وابن درید» (أیضاً ظ: یاقوت، ن.م، 18/128-129)، وقال أبو الحسن أحمد ابن یوسف الأزرق: ما رأیته قط قرئ علیه دیوان شاعر إلا وهو یسابق إلی روایته لحفظه له (التنوخي، المحسن، 250؛ الخطیب، 2/196).

وكان ابن درید صاحب نجدة وسخاء وسماحة (ظ: الزبیدي، 184؛ المرزباني، 425). ویبدو أن سخاءه هذا لم یبق له شیئاً من الأموال التي نالها من المیكالیین (قا: الزبیدي، ن.ص) ولذلك عندما جاء سائل إلی منزله ولم یكن عنده غیر دن نبیذ وهبه له ولم یأبه لانتقاد غلامه (ابن الأنباري، 177؛ یاقوت، ن.م، 18/135-136). ویمكن ملاحظة ما كان علیه من سماحة الخلق في مجالس درسه فقد أبدی سماحة أمام فقیه نیسابوري خطّأه في شرح كلمة أوردها (التنوخي، المحسن، 53). وكذلك صبر علی خطأ تلمیذ وضيء وانتقاد أحد الحاضرین له (یاقوت، ن.م، 18/139). وأدی ما حدث إلی أن ینظم أحدهم بیتین یصف فیهما مجلس درس الأستاذ بصید الظباء (ن.م، 18/139-140)، ولكن أكثر ما یثیر إعجاب الباحث بسماحته الحدیث الذي أورده في مقدمة الجمهرة (1/2-3) عن أسلوبه وأسلوب رواد العلم، فبعد أن یتحدث عن تثاقل أهل عصره في طلب العلم وعداوتهم لما یجهلون یقول بتواضع «لم أجر في إنشاء هذا الكتاب إلی الازدراء بعلمائنا ولا الطعن في أسلافنا وأنّی یكون ذلك وإنما علی مثالهم نحتذي وبسبلهم نقتدي». وحینما یرید بیان صعوبة الاستفادة من كتاب العین للخلیل، فإنه یبدأ بوافر الثناء علیه والرفع من قدره.

والعیب الوحید الذي أحاط بحیاته الثرّة الكریمة میله الشدید إلی معاقرة الخمر. فكان ابن شاهین وغیره من التلامذة كلما دخلوا علیه في داره یستحون منه ویعودون لما یرون من العیدان المعلقة والشراب المصفی، وكان قد جاوز الـ 90 سنة (ابن الأنباري، 176؛ یاقوت، ن.م، 18/130). وروایة الأزهري أوضح وأشد من تلك، حیث یقول (1/31) إنه دخل علیه فوجده سكران لایكاد یستمر لسانه علی الكلام من غلبة السكر علیه، وإنه لم یعد إلیه لهذا السبب (ابن الجوزي، 6/262؛ یاقوت، ن.م، 18/131). ولعادته هذه عده الدلجي من «المفلوكین» في كتابه (ص 98)، وربما لهذا السبب أیضاً قال الدار قطني: «قد تكلموا فیه» (ابن الجوزي، ن.ص)، غیر أن المتأخرین لمّا استبعدوا أن یصدر منه مثل هذا، سعوا إلی تبرئته بشكل ما، فیبدي السیوطي ثقته بأنه تاب بعد ذلك (بغیة، 1/77) ومن المعاصرین یرید السنوسي (ص 18) أیضاً أن یبرئ ابن درید من هذه التهمة استناداً لما أورده من الحكمة ولما كان له من أعداء في زمانه، غیر أن أهل عصره في الحقیقة لم یعادوه ولم تتجاوز خصومتهم له علی ما یبدو حد الحسد والتنافس، وإنما وردت في الروایات معارضتان له ولكتاهما تتعلق بكتابه الجمهرة، فحینما رأی منافسه نفطویه النحوي (تـ 323هـ/ 935م) كتابه الجمهرة نظم فیه ثلاثة أبیات بسیطة:

ابن درید بقرة  وفیه عيّ وشره

 ویدعي من حمقه          وضع كتاب الجمهرة

 وهو كتاب العین إلا      أنه قد غیره

 (ابن الأنباري، 179؛ یاقوت، ن.م، 18/138؛ السیوطي، بغیة، 1/78). ویبدي أبو العباس المیكالي وهو یتحدث عن إملاء ابن درید الجمهرة علیه حفظاً، دهشته فیقول: كیف یمكن لرجل كابن درید أن یسلم من الألسن؟ (یاقوت، السیوطي، ن.ص). ویقول الأزهري: سألت نفطویه عنه فلم یوثقه (1/31). والأبیات التي هجا ابن درید نفطویه بها لاتقل عن الهجاء الأول في الظرافة والدقة (ظ: الدیوان، 76)، غیر أن ما اشتهر هو كلام نفطویه. والمعارضة الثانیة: الروایة التي أوردها الأزهري في مقدمة كتابه التهذیب، وأشرنا إلیها من قبل، فاتهمه بافتعال العربیة وتولید الألفاظ التي لیس لها أصول، ثم یقول إنه حضره في داره ببغداد غیر مرة واستمع إلی روایاته، إلی أن دخل علیه یوماً فوجده سكران، وتصفّح كتاب الجمهرة فلم یر فیه ما یدل علی معرفة ثاقبة، وإنما عثر منه علی حروف كثیرة أزالها عن وجوهها أو أنكرها فلم یعرف مخارجها فأثبتها في كتابه لینظر فیها فیما بعد (قا: یاقوت، ن.م، 18/131).

الصفحة 1 من2

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: