ابن بطة العکبري

اِبْنُ بَطَّةٍ العُکبَريّ، أبوعبدالله عبیدالله بن محمد (304-387هـ/ 917-997م)، متکلم و فقیه و محدث حنبلي. یصل نسبه إلی عُتبة بن فَرقد من أصحاب الرسول الأکرم (ص) (ابن أبي یعلی، 2/144). ولد یُعکبرا (بلدة صغیرة في ضواحي بغداد ) و ذهب إلی بغداد في صباه لتلقي العلم هناک (م. ن، 2/145؛ قا: الخطیب، 10/372). و استناداً إلی المعلومات التي یوردها الخطیب (10/371-372، 375) و الذهبي (سیر، 16/529) یبدو أنه و بعد دراسته ببغداد سافر إلی مدن العراق الأخری و إلی الشام و الحجاز و آذربایجان و عاد إلی بغداد حوالي 345هـ (للتأکد من بعض النقاط، ظ: ابن بطة، الإبانة، 1/195، 199، 237)، ولکن یستنتج من دراسة أحوال مشایخه و تلامذته أن إقامته لم تطل في تلک المدینة و قضی السنوات الأربعین الأخیرة من عمره في مسقط رأسه عُکبرا.

ابن بطّة و علم الکلام

یعتمد ابن بطة في البحوث الکلامیة علی الکتاب و السنة فقط کأسلافه الذین کانت هذه طریقتهم، و یعرض الفکر الحنفي شدید و یوجه حملاته الشدیدة في کتابه الإبانة و کتاب الشرح إلی المعارضین من المعتزلة و الخوارج و المرجئة و الشیعة. و أنه في مؤلفاته، کعادة أصحاب الحدیث، لایستسیغ البحث و الدراسة في الکثیر من القضایا‌الدینیة، کما نهی الناس عن تقصي موضوعات کوقعتي الجمل وصفین (مثلاً ظ: م. ن، الشرح، 64). و علی الرغم من أن ابن بطّة قد نقل أفکار المعارضین و نقد عقائدهم، إلّا أنه لم یعرض معلومات دقیقة في مجال آراء الفرق الإسلامیة المختلفة، فینقل عن المعتزلة أن مرتکب الصغیرة کافر (ن. م، 63). بینما لایعتبر المعتزلة مرتکب الکبیرة کافراً، بل إن مثل هذا الشخص فاسق في اعتقادهم وله منزلة بین المنزلتین. و قد ذکر ابن بطّة أتباع الفرق المختلفة بشکل مضطرب (ن. م، 90)، ولؤ اعتبر ذکره لبعض مشاهیر المعتزلة کأبي موسی المردار و أبي بکر الأصم و ابن أبي دؤاد ضمن الجهمیة (م. ن، 91) نوعاً من التسامح المتعارف علیه فإن لایمکن القبول بمثل هذا التسامح عندما یعتبر هشام الفوطي وفضیل الرقاشي من الشیعة (ن م، 93).
ابن بطّة والفقه: اعتبره الذهبي (میزان، 3/15) إماماً في الفقه الحنبلي، و قیل إنه أفتی و هو في الخامسة عشرة من عمره (ابن العماد، 3/124). وقد درس عند فقهاء حنابلة مشهورین کأبي بکر النجاد و أبي بکر عبدالعزیز، المعروف بغلام الخلّال (العلیمي، 2/51، 68) و کان الفقیه الحنبلي البارز أبوعبدالله ابن حامد من تلامیذه (ابن أبي یعلی، 2/144). و مع ذلک فلم تنتشر آراء ابن بطَة بشکل واسع في الفقه الحنبلي. و إن مشاهدة الفصل الثالث من کتاب الشرح (ص 68-84) و عناوین مصنفاتة الفقهیة المفقودة (ظ: تتمة المقالة) توضح نزعته الجدلیة في الفقه. إنه لم یقسم الأوامر الموجودة في الکتاب و السنة إلی واجب ومستحب (حول سابقة هذا الموضوع لدی الحنابلة، ظ: ابن هبیرة، 2/324) و اتخذ موقفاً معقولاً في عدد من المسائل التي اختلف فیها فقهاء الحنابلة، کعدم استحباب النکاح لفاقد الشهوة (ن. ص) و منع إجبار البنت الصغیرة علی الزواج (م. ن، 2/326)، والحکم ببدعة الطلاق ثلاثاً (ابن بَطة، الشرح، 69-70؛ قا: ابن هبیرة، 2/348) و حکمه في عرض المعابر (أبویعلی، 213).

ابن بطّة و الحدیث

طعنت أسناد روایات ابن بطّة علی أیامه من قبل المعارضین (ظ: الخطیب، 10/372-374) و قام ابن الجوزي الحنبلي (7/194) بنقض هذه الطعون. أما العلماء بعده من غیر الحنابلة فقد اعتبروه ضعیفاً في الحدیث مع إجلالهم له (ظ: ابن الأثیر، علي، 9/137؛ الذهبي، العبر، 2/171، میزان، 3/15)، إلّا أن بعض نقده و توضیحاته حول بعض الأحادیث تشیر إلی سعة اطلاعه نسبیاً في هذا الفن (مثلاً: ابن بطّة، الشرح، 76؛ الخطیب، 10/372).
و من مشایخه المشهورین یمکن ذکر عبدالله بن محمد البغوي و ابن أبي داود السجستاني و یحیی بن محمد بن صاعد و القاضي المَحاملي وابن مخلد الدوري و أبي ذر ابن الباغندي (حول فهرس مشایخه، ظ: ابن بطّة، الإبانة، 1/179، 196، 206، مخـ؛ الخطیب، 1/137-375؛ ابن أبي یعلی، 2/144-148؛ الذهبي، سیر، 16/529-532؛ العلیمي، 2/16، 24-25). أما رواته و تلامذته فیمکن ذکر الحافظ أبي نعیم الأصفهاني وأبي الفتح ابن أبي الفوارس من بینهم. أما أبو علي الحسن بن شهاب العکبري فکان من تلامذة ابن بطّة الخاصین و یعد تقریباً الراوي الوحید لکتابي ابن بطّة الشرح و الإبانة (حول فهرس رواته، ظ: الخطیب، 10/371-357؛ ابن أبي یعلي، 2/144؛ ابن رجب، 1/107-108؛ الذهبي، سیر، 16/529؛ العلیمي، 2/126؛ و أیضاً حول أسناد روایة الشرح و الإبانة، ظ: لائوست، صور الصفحات الأولی من مخطوطات الإبانة المتعددة في مقدمته علی الکتاب، بعد ص 152). و تعرف ابن بطّظ في مکة علی أبي بکر الآجري مؤلف کتاب الشریعة، وفتح معه باب تبادل الرسائل و المکاتبات (العلیمي، 2/65).

ابن بطّة و القضایا الإجتماعیة

إثر ظهور بعض الأحداث التاریخیة في القرن 4 هـ/10 م کتأسیس الخلافة الفاطمیة بمصر، و امتلاک أشراف بغدا القدرة کالشریف أبي أحمد الموسوي الذي عیّنه لخلیفة العباسي نقیباً للطالبیین ببغداد، و الأهم من ذلک دخول البیهیین بغداد و الضعف العام الذي أصاب الخلافة العباسیة، کل ذلک قد أدی إلی تزاید قدرة المذهب الشیعي لیصبح المنافس الرئیس للمذهب الحنبلي (قا: المقدسي، 126؛ ابن الأثیر، علي، حوادث القرن الرابع) و أسفر عن ذلک ظهور بعض الصراعات بین أتباع المذهبین و التي کانت لاتخلو من خشونة أحیاناً. حتی إنبعض مفکري الحنابلة کالمرروزي و البریها ري کانا یتدخلان بقوة في مثل هذه الصراعات (م. ن، 8/213، 307). و في مثل هذه الظروف نهض ابن بطة في مواجهة معارضي مذهبه مواجهة حادة و کفّر الکثیر منهم و أهدر دمهم (ابن بطّة، الشرح، 50). و یحتمل أنه قد طورد لهذا السبب من قبل حکومة بغداد التي کان للبویهیین فیها نفوذ کبیر و أدی ذلک بابن بطّة إلی مغادرة بغداد و الاعتزال في عُکبرا (ابن أبي یعلی، 2/146). ورغم قبوله أصل إطاعة الحاکم و سلسلة من صلاحیاته (علی سبیل المثال، ظ: أبویعلی، 2/213)، إلّا أنه لم یستطع أن یعرض حلاً عملیاً في مسألة العلاقة بین الحاکم و الرعیة (ابن بطّة، ن. م، 13، 34-36، 67). و کان ینتقد و یذم بعض أعمال الحکام أحیاناً، کمعارضته لتعذیب السجناء بغیة الحصول علی الإعتراف (ن. م، 89). و قام بتفریع و توبیخ علماء أهل السنة لسکوتهم عن بعض البدع (ن. م، 72). و کان یتألم بشدة لامن البدع‌الدینیة فحسب، بل من التحلّل الاجتماعي و شیوع الخرافات بین الناس (ن. م، 85-89). و في الواقع أنه ألف کتابي الإبانة و الشرح بسبب مشاهدته أنواع البدع المختلفة في المجتمع (ظ: ابن بطّة، الإبانة، 1/164-165، الشرح، 4).

آثاره

لابن بطة أکثر من 100 مؤلَّف (ابن أبي یعلی، 2/152) لانعلم إلا أسماء بعضها. و من آثاره الموجودة: 1. الإبانة عن شریعة الفرق الناجیة و مجانبة الفرق المذمومة، و هو في الواقع نفس الإبانة الکبری الذي حققه رضابن نعسان المعطي وطبع في الریاض عام 1409هـ/ 1988م. کما یوجد مختصره، الذي قام به شخص مجهول، في مکتبتي کوپریلي (1/125) و الظاهریة (GAS, I/515). وقد حظي کتاب الإبانة باهتمام دائم کمصدر للحدیث، و نقل منه الحدیث أشخاص کاین شهرآشوب في کافة صفحات المناقب، و المبارک ابن الأثیر (3/168)، والذهبي (سیر، 16/532)؛ 2. الشرح و الإبانة علی أصول السنة والدیانة، و هو في الواقع نفس الإبانة الصغری (ظ: ابن أبي یعلی، 2/152)، الذي طبع مع ترجمته الفرنسیة بتحقیق هنري لاتوست بدمشق، 1958م؛ 3. جزء في الکلام علی مسألة الخلع أو الخلع و إبطال الحیلة، الذي طبع و نشر ضمن مجموعة دفائن الکنوز بتحقیق محمد حامد الفقي في القاهرة، 1349هـ (ظ: GAS، ن. ص؛ فولتون، 724-723). و بالإضافة إلی المصنفات المذکورة فإن نسخاً بعنوان جزء أو حدیث لابن بطّة توجد في مکتبات جستربیتي و الظاهریة (ظ: GAS، ن. ص)، و حول بقیة المصنفات المنسوبة لابن بطّة یراجع الأحکام السلطانیة (أبویعلی، 98، 297)، وطبقات الحنابلة (ابن أبي یعلی، 2/152)، والدر المنثور (السیوطي، 1/45)، و ریاض (البعلي، 46).

المصادر

ابن أبي یعلي، محمد، طبقات الحنابلة، تقـ: محمد حامد الفقي، القاهرة، 1371هـ؛ ابن الأثیر، علي، الکامل؛ ابن الأثیر، المبارک، النهایة، في غریب الحدیث و الأثر، تقـ: طاهر أحمد الزاوي و محمود محمد الطناحي، القاهرة، 1383هـ/1963م؛ ابن بطة، عبیداللّه، الإبانة، تقـ: رضا بن نعسان المعطي، الریاض، 1409هـ/1988م؛ م. ن، الشرح و الإبانة، تقـ: لاتوست، دمشق، 1958م؛ ابن الجوزي، عبدالرحمن، المنتظم، حیدرآبادالدکن، 1358هـ؛ ابن رجب، عبدالرحمن، ذیل طبقات الحنابلة، تقـ: لاتوست و سامي الدهان، دمشق، 1370هـ؛ ابن شهرآشوب، محمد، المناقب، قم، المطبعة العلمیة؛ ابن العماد، عبدالحي، شذرات الذهب، القاهرة، 1350هـ؛ ابن هبیرة، یحیی، الإفصاح، حلب، 1366هـ/1947م؛ أبو یعلی، محمد، الأحکام السلطانیة، تقـ: محمد حامد الفقي، بیروت، 1403هـ/ 1983م؛ البعلي، عبدالباقي، ریاض أهل الجنة، دمشق، 1405هـ/ 1985م؛ الخطیب البغدادي، أحمد، تاریخ بغداد، القاهرة، 1349هـ؛ الذهبي، محمد، سیر أعلام النبلاء، تقـ: شعیب الأرنؤوط  غیره، بیروت، 1404هـ؛ م. ن، العبر في خبر من غیر، بیروت، 1405هـ؛ م. ن، میزان الإعتدال، تقـ: علي محمد البجاوي، القاهرة، 1283هـ؛ السیوطي، الدرالمنثور، القاهرة، 1314هـ؛ العلیمي، عبدالرحمن، المنهج الأحمد، تقـ: محم محیي‌الدین عبد الحمید، بیروت، 1404هـ/ 1984م؛ کوپریلي، المخطوطات؛ المقدسي، محمد، أحسن التقاسیم، تقـ: دي خویه، لیدن، 1906م؛ و أیضاً:

Fulton, A.S., Second Supplementary Catalogue of Arabic Printed Books in the British Museum, London, 1959; GAS; Laoust, H., La Profession de foid’Ibn Baṭṭa, Damscus, 1958.
أحمد پاکتچي