الصفحة الرئیسیة / المقالات / دائرة المعارف الإسلامیة الکبری / التاریخ / ابن الأشعث، عبدالرحمن /

فهرس الموضوعات

ابن الأشعث، عبدالرحمن


تاریخ آخر التحدیث : 1443/4/3 ۱۱:۴۷:۲۷ تاریخ تألیف المقالة

اِبنُ الأَشعَث، عبدالرحمن بن محمدبن الأشعث بن قیس بن معدي کرب الأشج الکندي الأزدي الکوفي (تـ 85هـ/704م)، ینسب إلی بیت الحارث بن معاویة بن کندة من قبیلة کندة الکبیرة في حضرموت جنوبي الجزیرة العربیة و هو أحد رجال الجیش والسیاسیة عند بني أمیة.
کان لبیت ابن الأشعث مکانة مرموقه في قبیلة کندة والقبائل العربیة المجاورة الأخری (ظ: نصربن مزاحم، 22-23، 409-410؛ یاقوت، مادة «حضرموت») ولذلک فقد مدح الشاعر الجاهلي میمون بن قیس الأعشی (تـ ح 630م) قیساً الجد الأعلی لعبد الرحمن في قصیدة باعتباره سیدقومه (ابن خلّکان، 6/334)، وقد قتل قیس في نزاع قبلي في حوالي 625م و خلف من بعده خلفاً قویاً وداهیة باسم الأشعث، حیث لعب أدواراً في السنوات الثلاثین من تاریخ الخلفاء الراشدین. و کانت علاقة الأشعث و أبنائه مع آل علي (ع) والشیعة جیدة في بدء الأمر، ثم فترت شیئاً فشیئاً و تحولت أخیراً إلی خصومة و أول ممارسة سیاسیة کانت من عبدالرحمن حفید الأشعث عندما کان أبوه محمد في مجلس عبیدالله بن زیاد، یتجاذب معه أطراف الحدیث فیدخل عبدالرحمن فجأة دارالإِمارة و یخبر أباه عن محل اختفاء مسلم بن عقیل (الطبري، 2/242). وقد استقطبت ثورة المختاربن أبي عبیدة الثقفي التي انطلقت للانتقام وأخذ الثأر من قتلة أهل بیت الرسول (ص) ابن الأشعث بشکل کامل و دفعته إلی الساحة السیاسیة، و کان في حینها هو و قبیلته في خدمة الزبیریین، ففي 66 هـ/ 686م مثلاً کان مقیماً في الحجاز أمیراً علی الجیش للمحافظة علی المدینة من جیوش بني أمیة (البلاذري، 5/152) وجبایة ضرائبها (م. ن، 4(2)/60). ومع ذلک فقد آثر سیاسة الصلح والمداراة بصورة مؤقتة مع المختار، حتی إنه خالف أباه محمدبن الأشعث الذي کان مستعداً لمحاربة المختار، و من الطبیعي ألّا یعد موقفه هذا دلیلاً علی قبوله کل ماقام به. عاد عبدالرحمن في أوائل 67 هـ إلی البصرة، والتحق بأبیه مباشرة عندما شاهده یحارب المختار و ساعده و ساند مصعب بن الزبیر المنافس القوي للمختار ودافع عنه واشتدت کراهیة ابن الأشعث العمیقة و حقده علی الشیعة جرّاء قتل محمدبن الأشعث وولدیه في الأیام الأخیرة من الحرب أثناء تلک الحوادث، فقتل السجناء الشیعة وحتی الأسری من أفراد قبیلته، انتقاماً لدم أبیه وأخویه (الطبري، 2/739 و مابعدها؛ البلاذري، 5/259-260؛ سید، 96).

رئاسة القبیلة

کان لاثنین آخرین من أولاد محمد بن الأشعث العدیدین غیر عبدالرحمن و هما إسحق وصبّاح نشاط في الساحة السیاسیة والاجتماعیة، بمدینة الکوفة، فکان إسحق یقود طائفة من قبیلة کندة في 66 هـ لقتال المختار أیام إمارة الحجاج علی العراق کما کان قائداً لجیش الکوفة في الفترة بین 75-76هـ في طبرستان، و حارب بعد ذلک طائفة من الخوارج في رامهرمز لفترة (الطبري، 2/857 و مابعدها، 1018 و ما بعدها؛ ابن الأثیر، 4/366)، و کان أکثر میلاً للحجاج، و لم یشترک في ثورة أخیه عبدالرحمن. أما أخوه الثاني الصباح بن محمد فهو الذي قَتَل مع جماعة قطري بن الفجاءة أخطر رئیس لقسم من الخوارج في حرب ضاربة جرت بینهم سنة 77 هـ (الطبری، 2/1018-1019). کما لم تکن له ید في ثور أخیه ضد الحجاج و الخیلفة الأموي. أمّا کیف وصل عبدالرحمن إلی رئاسة القبیلة بعد وفاة أبیه مع وجود إخوته الذین یکبرونه سناً، فهو موضوع لم یتّضح بعد. وربّما کانت نشأته الأولی عند جدّیه لأمه أم عمرو بنت سعید بن قیس من قبیلة همدان سبباً لعلاقة الهمدانیین به ودعمهم له، وإضافة إلی ذلک فقد حالت محبته المفرطة لأبیه دون اشتراکه في الوقائع التي جرت ضدالأمویین. و علی أي حال فقد ترأس عبدالرحمن الشاب الذي کان یبلغ في ذلک العصر (67هـ/ 686م) 27 سنة من عمره قبیلة کندة خلفاً لأبیه.

ابن الأشعث وآل الزبیر

اعتمد مصعب بن الزبیر علی أشراف العرب بعد أن تضرّع من ثورة المختار واعتبرهم ممّن یدعمون حکومته. وأقصی الشیعة عن الساحة مرة أخری. و یبدو أنه قد أن الأوان للکوفة أن تنعم بالأمن و الهدوء بعد الثورات المتکررة، ولکن و بعد بضع سنین ظهر أنه لایزال للشیعة دور في المجتمع و من جهة أخری فلایمکن الاعتماد علی أشراف العرب کحلفاء لآل الزبیر. و قد استغل مصعب الذي کان یفکر آنذاک في التسلط علی الشرق الإسلامي أیضاً التنافس بین الأشراف و القبائل العربیة، حیث کان یحذّر من قوة المهلّب بن أبي صفرة رئیس إحدی القبائل العربیة الجنوبیة المتنفّذ و المنافس لعبد الرحمن، فعزله عن ولایة فارس و نصّب مکانه عبدالرحمن (البلاذري، 5/276)، ولکنه أعید للإمارة بعد مدة بتدخّل من عبدالله بن الزبیر الذي کان قد نصّب نفسه خلیفة في الحجاز، و قد فترت علاقات عبدالرحمن مع آل الزبیر بعودة المهلّب المنتصر إلی سدة الحکم، ولکنها لم تنته فور تقرّبه من آل مروان والالتحاق بهم، فقد کانت القبائل العربیة الجنوبیة تدعمه من جهة، فیما کانت معاهدة الاتحاد مع آل الزبیر قائمة من جهة أخری و رغم استمرار اختلاف بین رؤساء قبلیتي آل المهلّب وآل الأشعث، حیث کان سبباً في الحیلولة دون مواکبة ومساعدة عبدالرحمن في ثورته التي دامت سنین عدیدة ضد الحجاج والخلیفة، فإن المعادلة السیاسیة کانت تمیل لصالح آل الأشعث، فقد کانت لعبد الرحمن القدرة الفعلیة علی إخراج الزبیریین من بلاد مابین النهرین أو خلق المصاعب لهم علی الأقل، لما کان له من علاقات حسنة مع بني أمیة عن طریق ابن عمه عبدالله بن إسحق بن الأشعث مستشار بشربن مروان شقیق الخلیفة و حاکم الکوفة (73-75هـ/692-694م) (الطبري، 2/816؛ ابن الأثیر، 4/331) و کذلک بفضل علاقة القرابة مع الخلیفة، حیث کانت إحدی أخوات عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث زوجة لمسلمة بن عبدالملک بن مروان (سید، 94-93).

ابن الأشعث والمروانیون

کان حسن الطالع حلیف آل الأشعث من جمیع الجهات في السنتین الأولیین من حکم آل مروان في الکوفة، فقد نُصب شقیق عبدالرحمن، إسحق بن محمد بن الأشعث، الذي کان من أقرباء الحاکم الجدید، أمیراً علی الجیش الإسلامي في طبرستان وأنیطت بعبد الرحمن فیما بعد قیادة قسم من الجیش لصدالهجمات المباغتة التي کان یقوم بها شبیب کبیر الأزارقة الخوارج (الطبري، 2/826؛ ابن الأثیر، 4/343).

حکومة سیستان

وفي 80هـ/ 699م فوّض الحجاج حکومة سیستان، وقتال الخوارج في تلک المنطقة إلی عبدالرحمن أیضاً، وأرسله إلی تلک الدیار مع جیش کبیر مجهّز بالمعدات عرف بجیش الطواویس (الطبري، 2/1042-1046؛ قا: الجاحظ، 2/245)، وقد حقّقت کلّ تلک القوی التي کانت بمعیة مقاتلي سیستان و مناطق جنوب شرقي إیران والمتّجهة للسیطرة علی العراق و عزل الحجاج، ثورة ابن الأشعث التاریخیة بعد ذلک بسنة.
ولایوجد ذکرلابن الأشعث في المصادر في فترة مابین سنتي 77-80هـ ویبدو أن علاقته قد توتّرت مع الحجّاج، ولکن لم تنفصم بصورة کاملة، لأن ابن الأشعث کان وفیّاً للخلافة، کما کان الحجاج یعتمد علی آل الأشعث، أما الحقیقة فهي أن عبدالرحمن کان کسائر أشراف الکوفة یفکّر في الثورة علی الحجاج قبل أن یتّجه إلیه مهمته الجدیدة. و کان الحجاج آنذاک قد أزاح جمیع أعدائه و منافسیه من الساحة منذ تولیه الأمر إلی ذلک الوقت. ویمکن تعلیل سبب تسییر ابن الأشعث إلی سیستان بما یأتي:
1. إن الاضطرابات التي استمرت عدة سنوات في العراق مثل ثورة ابن الجارود في سنة 76 هـ، وانتفاضة المطرف بن المغیرة في سنة 77هـ، وثورة الزنج في البصرة بقیادة «شیر الزنجي» التي حدثت جمیعها بعد تصدّي الحجاج لولایة العراق، جعلت الحجّاج یصمّم علی إبعاد جمیع الرؤساء المخالفین و المتنفّذین من مدن البصرة والکوفة لیتفادی الثورة العامة علیه ولو کحل مؤقت للمشکلة الاجتماعیة ویشغلهم في مناطق أخری خدمة للسیاسة الأمویة.
2. وربّما کان الحجّاج یفکّر بإبعاد ابن الأشعث – الذي کان یزداد نفوذه باستمرار بین القبائل العربیة في الجنوب – عن أرض ما بین النهرین، و هذا ما لایتم إل بإناطة مسؤولیة حربیة له ضدالخوارج في منطقة نائیة عن العراق، بل یجب أن یلحق بذلک إعطاؤه ولایة إحدی المناطق الإسلامیة أیضاً، وقد اغتنم الفرصة عند ذاک حیث اندحر عبیدالله ابن أبي بکرة حاکم سیستان الذي کان قد بعثه الحجاج إلی هناک سنة 78هـ أمام رتبیل، فأرسل ابن الأشعث رئیس قبیلة کندة المتنفذ مع جمیع المعدّات الحربیة اللازمة إلی تلک المنطقة.
3. و کما کان طموح المهلّب بن أبي صفرة و آله المتزاید للتسلط علی شرق الأراضي الإسلامیة یبعث القلق في نفس الحجاج، فإن إرسال ابن الأشعث إلی تلک المناطق والخصومة القدیمة القائمة بین آل الأشعث و آل المهلّب کانتا تستطیعان الحد من طمع المهلّبیین وجشعهم (سید، 179).
4. وقد حذّر إسماعیل بن الأشعث عم عبدالرحمن، الحجاج من خطئه في تقییم جرأة وسموح ابن الأشعث للرئاسة، ولکنه لم یعتن بهذا التحذیر و قال أنت لاتعرف ابن أخیک، إنه یحذرني  و لایقوم بعمل ضدي (الطبري، 2/1044؛ ابن الأثیر، 4/455).
5. کان ابن الأشعث رجلاً ذکیاً وداهیة ولم یتمکّن الحجاج من الوقوف علی خططه، فقد کان في البدایة یقصد حقیقة مساعدة الحجاج في جمیع المجالات العسکریة والاجتماعیة حتی إنه صرف من عمره سنة في حفظ القرآن إرضاءً للحجاج. ولکنه أبدی إزاء إهانات الحجّاج و تهدیداته ردود فعل قویة (الطبري، 2/1043؛ سید، 175).
6. کان عبدالرحمن من قبیلة مشهورة تفضل مساعدة الأمویین وتأییدهم في السنوات الأربعین الأولی من خلافتهم علی رجال‌الدولة ومراکز القوی الأخری. وقد أدّی ماضي عبدالرحمن هذا باعتباره رئیساً لقبیلة کندة و نبل سلالته التي کان یتبجّح بها دائماً إلی اتصافه بالتکبّر والعنجهیة ودعا الحجاج أخیراً إلی أن یولیه حکومة سیستان و منحه صلاحیات مطلقة رغم ماله من خلافات شخصیة معه (م. ن، 180-179).

قتاله لرتبیل

أنعم جیش البصرة إلی جیش الکوفة في مدینة الأهواز في صیف 80هـ/699 م و شکّلاً جیشاً واحداً بقیادة عبدالرحمن و قصد سیستان، و توقّفا قلیلاً في زرنج التي کانت بأیدی المسلمین وتابعة للحکومة الإسلامیة، فعسکر الجیش خارج المدینة وأقام هو و عدد من مرافقیه و أمراء الجند فیها (الطبري، 2/1044-1045؛ ابن الأثیر، 4/455).
کان لابن الأشعث ثلاثة أهداف في زحفه إلی سیستان: 1. قمع جماعة من العرب المشاغبین الذین رفعوا علم الاستقلال في بعض مناطق کرمان و یسیتان مستفیدین من الأوضاع المضطربة الناجمة عن اندحار ابن أبي بکرة؛ 2. استئصال شأفة الخوارج في سیستان و القضاء علیهم کلیاً؛ 3. استمرار الحرب مع رتیبیل لتوسیع رقعة المناطق الإسلامیة وجبایة الخراج سنویاً (سید، 185-184).
ولما تأکد رتبیل من معرفة سبب زحف ابن الأشعث حاکم سیستان الجدید إلی هذه المنطقة والأهداف الکامنة وراء ذلک، صمّم علی إبداء میوله السلمیة عن طریق المفاوضات والمکاتبات وإرسال المبعوثین الخاصین للحکّام المسلمین ولاسیّما ابن الأشعث، حتی إنه أمر بإطلاق سراح جمیع أسری المسلمین، الذین أسرهم في الحرب مع ابن أبي بکرة، والذین کان من ضمنهم عقیب بن سعید بن قیس الهمداني، خال  ابن الأشعث أیضاً. کان رتیبیل ینوي مواصلة حکمه بجوار المسلمین بسلام و هدوء، وأعلن رسمیاً أنه إذا لم یهاجم المسلمون أراضیه فإنه علی استعداد لدفع الخراج السنوي أیضاً. أما ابن الأشعث فقد أعدّ نفسه للحرب ضد منافسه لأنه کان یری أن میل رتبیل للصلح دلیل علی ضعفه و هو انه فکان ینوي باعتباره قائداً لذلک الجیش العظیم السیطرة علی جمیع منطقة سیستان، بإظهار القدرة العسکریة، کيي یخضع رتبیل بصورة کاملة للمسملین و یکون ذلک إنذاراً للخوارج في کرمان و سیستان أیضاً، وقد سعی رتبیل بخطة مسبقة وتراجع مدروس لاستدراج المسلمین إلی ملاحقة أفراده و جرّهم إلی أراضیه ثم دحرهم بالاستفادة من المنطقة الخالیة هناک و الکمائن المعدّة للهجوم علی العدو الذي لایعرف عن المنطقة شیئاً و قطع اتصاله بمرکز القیادة ودحر المسلمین بهذه الطریقة. أما المسلمون فقد راعوا جانب الحذر هذه المرة، فکانوا کلما استولوا علی قلعة أو قریة أو مدینة أوصلوها مع غیرها بالبرید وأخضعوا جمیع الأطراف لإشرافهم، وکانوا یخطّطون للاستیلاء علی مدینة أخری بإنشاء معسکرات و مراکز یستقر بها الجیش المحارب، وکان ابن الأشعث موقناً بأنه سیستولي علی جمیع مناطق سیستان بهذه الطریقة خلال مدة طویلة. و بالرغم من أنه کان موفقاً في جمیع خططه، إلا أنه أمر أخاه القاسم بن محمد بن الأشعث – الذي کان یستعد لدخول أراضي رتبیل من مدینة الرخَج (الطبري، 2/1045-1046؛ ابن کثیر، 9/35) – في أواخر سنة 80 هـ بالتوقف مؤقتاً وأجّل أي هجوم أو نفوذ في أرض العدو إلی ربیع السنة القادمة (الطبري، ن. ص، بروایة أبي مخنف؛ ابن الأثیر، 4/455).
کان ابن الأشعث یبعث بأخبار الانتصارات في سیستان لأمیر العراق، وبما أنه رأی أن الحرب لیست من صالحه في الأراضي الجبلیة المنجمدة في الشتاء. أورد في رسالته أنه سیتابع الحرب مع رتبیبل في الربیع بعد تثبیت ملکیة الأراضي المفتوحة وانتقال المسلمین إلی المناطق المسیطر علیها، وکان الحجّاج قد أعدّ جیش نجدٍ مجهز بقیادة صبّاح بن محمدبن الأشعث شقیق عبدلارحمن لیرسله إلی سیستان فاشتد غضبه من توقّف الحرب وکتب رسالة موهنة جداً بعبد الرحمن (الطبري، 2/1052-1053)، وبهذه الصورة تفجرّت الخصومة والأحقاد الدفینة لدی الجانبین مرة أخری و حقّزت ابن الأشعث و أعیان العراق لفتح جبهة جدیدة ضد الحجاج، ولاتذکر المصادر المتوفرة شیئاً عن جواب رسالة الحجاج، ولکنها متفقة علی أن عبدالرحمن لم یبال بتلک الرسالة. وقد أمر الحجاج في الرسالة الثانیة أن یحرث الجیش أراضي سیستان و ینثر البذور فیها، لأنه لن یسمح لهم بالعودة حتی النصر النهائي (قا: ابن کثیر، ن. ص). لقد أثّرت هذه الرسالة الساخرة تأثیراً سلبیاً علی أفراد الجیش العراقي، فقد أیقنوا أن فتح کابل سیطول مدة من الزمن، و لذلک فقد أعطی بُعد الجیش عن عوائلهم و إقامتهم في أراضي الأجانب لمدة غیر معلومة و کذلک إرضاء مطامع الحجاج الشخصیة مبرّراً للقرّاء و الفقهاء الذین کانوا یصاحبون الجیش لیستفیدوا من تجمیر الجیش [التجمیر: هو أن یلزم الأمیر الجیش الثغر ولایأذن لهم في القفول مدة 4-6 أشهر (أبوهلال، 2/189-190)] في تحریضه علی الحجاج و مواجهته إیاه و إیراد الخطب في ردّ «التجمیر» (الطبري، 2/1054؛ ابن الأثیر، 4/462-463؛ سید، 193-190).
ولم یشغل الحجّاج نفسه بالرسائل فقط، فقد کان یضمر خطة، حیث أمر عبدالرحمن في رسالته الثالثة إما بمواصلة حربه مع رتبیل أو تسلیم قیادة الجیش إلی أخیه إسحق حامل الرسالة، و کان یفکّر أن بإمکانه الوصول إلی هدفه بتغییر القیادة في آل الأشعث، ولکن عبدالرحمن أسکت أخاه بتهدیده بالقتل (الطبري، 2/1053) واتّخذ القرار النهائي لقیادة الثورة ضد الحجاج بحمایة الأشراف والقراء الکاملة له، وبیعة المحاربین الذین کانوا یرجّحون العودة إلی العراق لعزل الحجاج، علی فتح کابل غیر المؤکد (یحتمل ذلک في 81هـ/ 700م). هکذا یستنبط من أشعار أعشی همدان (تـ 83 هـ) باعتباره شاهد عیان، أن اتحاد رؤساء القبائل العربیة مثل مذحج و همدان و بکر و قیس عیلان رغم ما بینهم من عداء قدیم و خصائصهم القومیة لاشتراکهم جمیعاً في ثورة ضدالحجاج (م. ن، 2/1055؛ ابن الأثیر، ن. ص؛ أبوالفرج، 6/59) یوضح هذه الحقیقة وإلی أي درجة مارس الحجّاج الضغط علی أشراف البصرة والکوفة، بحیث إنهم نبذوا عصبیتهم القبلیة بصورة مؤقتة و طلب جمیعهم متفقین تحقیق هدف أ:بر و مشترک ، ولقد صاحب أعشی همدان معسکر ابن الأشعث من سیستان إلی أرض مابین النهرین و کانت تقرأ أشعاره وأراجیزه في تمجیده للثورة و قوّادها ولتشجیع أفراد الجیش بواسطة أحمد النصبي المغني العربي المشهور بصوته الجمیل (م. ن، 6/33-62). وقد أسر الأعشی خلال الثورة التي قام بها ابن الأشعث وقتل بأمر الحجاج في 83 هـ. وبالرغم من أنه لم یذکر شیئاً في قصیدته عن قبیلة تمیم أکبر قبائل العرب و أکثر تجهیزاً في سیستان، و لکن و نظراً لما کان یقوم به رئیس تلک القبیلة و ممثّلها عبدالمؤمن بن شبث بن ربعي من إلقاء الخطب الحماسیة الشدیدة اللهجة ضد الحجاج فیمکمن أن ینهض ذلک دلیلاً واضحاً لاشتراک هذه القبیلة في الثورة (الطبري، 2/1054؛ سید، 197).
وبعد أن تم إعداد المعسکر و تهیئته من جمیع الجوانب، أخبر ابن الأشعث رتبیل بکل ماجری واقترح علیه الصلح، فتعجّب رتبیل الذي کان منهمکاً في الإِعداد للدفاع ولم یکن یتوقّع مثل هذا الأمر و قبل ذلک بکل سرور، وقدجاء في المعاهدة التي عقدت لصالحه بصورة عامة، ضمان حدود أراضیه، وإعفاءه من دفع الخراج والضرائب إلی حکومة المسلمین في حالة انتصار عبدلارحمن علی الحجاج، وان لم یتم ذلک فإن المعاهدة تلزمه أدبیاً في المحافظة علی عبدالرحمن کلاجیء، وکانت معاهدة الصلح بالنسبة لرتبیل نصراً مضاعفاً، لأنه یستطیع أن یحسب حساباً لمیل الحجاج إلیه في المستقبل، ولأنها سترفع من مکانته لدیه.

ثوؤة ابن الأشعث

توجّه عبدالرحمن أخیراً إلی البصرة عن طریق کرمان و فارس في صیف 81 هـ مع ذلک الجیش ذي العدة والعدد مستهدفاً هذه المرة القضاء علی الحجاج و الاستیلاء علی العراق. وقد وقعت أثناء ذلک حادثة سیئة لقبیلته في معسکره، فقد اتّفق شقیقه إسحق – الذي لم ینس تهدید أخیه عبدالرحمن – مع أخویه الصبّاح و منذر، واغتنم الثلاثة فرصة سانحة فهربوا سرّاً إلی الحجاج في العراق بأسرع وقت (م. ن، 199). ویحتمل أن یکون الصبّاح ومنذر أخویه من أبیه و لیس من أمه، وأن یکون قاسم و عبدالرحمن فقط من أم عمرو بنت سعید ابن قیس. و لم یکن لهروب الإِخوة کما یبدو أثر یذکر علی تقدّم الثورة، حیث أشارت الشاعرة العربیة بنت سهم بن غالب الهجیمي و هي تمدح جیش سیستان بأنه کان یواکب ابن الأشعث في هذه المعرکه 70,000 جندي (ن. ص) وفي روایة أخری (ابن کثیر 9/36) 153,000 شخص (33,000 فارس، 120,000 من المشاة)، حیث کانت تجتمع لدیه – مع ضمان کون أهالي الکوفة والبصرة من أشراف العراق حماة له – قوة کبیرة، بحیث ما کان بإمکان الحجاج مقابلته لوحده.
وقد تبودلت الرسائل قبل بدء الثورة بین إبن الأشعث والمهلّب بن أبي صفرة حاکم خراسان کمایبدو، وأشار إلیها المؤرخون (قا: الطبري، 2/1058-1059؛ ابن کثیر، ن. ص؛ خلیفة بن خیاط، 1/360)، ولکن من المحتمل جداً أن تکون بعض تلک الرسائل قد ألحقت بالمصادر الموجودة فیما بعد لتبریر ثورة یزید بن المهلّب (101هـ/ 720م) ضدالخلیفة الأموي (یزید بن عبدالملک) بصورة ما (سید، 198-197). وخلاصة هذه المراسلات والرسائل، کانت دعوة المهلّب وجیش خراسان للاشتراک في الثورة ضد الحجاج ولکن النتیجة کانت لصالح الحجاج طبعاً، للخصومة القبلیة السابقة بین القبیلتین، وإعراض المهلّب عن الثورة ضد الأمیر و مخالفته لإِراقة دماء المسلمین، ولم تصل الثورة إلی خراسان، حتی إن وفاة المهلّب في 82 هـ لم تغییر شیئاً في کل هذه الأمور و بقي ابنه یزید بن المهلّب مناصراً للحجاج کما کان.
ولکن جنود و حرّاس القلاع والمدن التحقوا جماعة تلو جماعة في کرمان و فارس بابن الأشعث، ویذکر الفُضیل بن خُدیج الکندي راوي وشیخ أبي مِخنف (سزگین، 202) الذي کان موظفاً في دیوان کرمان أنه التحق في هذه المدینة فقط جمیع محاربي المنطقة البالغ عددهم 4,000 رجل من أهالي الکوفة والبصرة بالثوار، وقد طرد الثوار عمال الحجاج في کرمان و فارس و أحلّوا محلهم أشخاصاً منهم. ولم تمض مدة حتی وصلت أخبار هذه الانتفاضة إلی الحجاج، وقد اعتبر ذلک خطراً جدیاً هذه المرة لما کان یعلمه عن أهالیي العراق وثوراتهم السابقة، وکان الأمران المهمان اللذان یشغلان بالا الحجاج دائماً رد فعل أهالي الکوفة والبصرة إزارء هذه الثورة والقیام بتکتیک مناسب لإِنهاء هذه المشکلة، وقد أجبره السخط والحقد علی أهل العراق في بدایة الأمر، علی تقویة جبیشه بمعونة الخلیفة، أما عن الموضوع الآخر أي تنفیذ برنامج عملي، فکانت لاتزال أمامه مشکلات رئیسیة، وقد هدّأت رسالة المهلّب من روعه بعض التشيء هذا الوقت، و اقترح المهلّب – بما یمتلکه من تجارب – علی الدمیر أن یدافع عن البصرة والکوفة بجمیع إمکاناته في البدایة (الطبري، 2/1058-1060؛ ابن کثیر، ن. ص؛ ابن الأثیر، 4/464). ولم یعتن الحجاج برسالة المهلّب، لحذره من احتمال أن تکون هناک خطة خفیة مدبّرة بینه و بین عبدالرحمن. ولذلک فقد قام بتحصینات قویة في الضفة الغربیة لنهر دُجیل (کارون)، وأطراف مدینة شوشتر، وأمر الجیش بالدفاع عن البصرة.
 

الصفحة 1 من2

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: