لاننسَ إیران / أحمد مسجدجامعي

1443/12/12 ۱۴:۴۶

لاننسَ إیران / أحمد مسجدجامعي

یمکن القول بأن إیران ـ معنیً و مفهوما و اسماً ـ کانت أهم ما یمیّز المغفور له/ الأستاذ محمدعلي إسلامي ندوشن. فلم تکن إیران ـ في رأیه ـ مقصورة علی الوطن المحدود بهذه الحدود السیاسیة، و إنما تنطوي علی مفهوم أبعد و أسمی بکثیر.

یمکن القول بأن إیران ـ معنیً و مفهوما و اسماً ـ کانت أهم ما یمیز المغفور له/ الأستاذ محمدعلي إسلامي ندوشن. فلم تکن إیران ـ في رأیه ـ مقصورة علی الوطن المحدود بهذه الحدود السیاسیة، و إنما هي تنطوي علی مفهوم أبعد و أسمی بکثیر. و الواقع أن إیران تمثل جزءً من الثقافة و الحضارة التي یملکها البشر، کما تشکل جانبا مهما من الثقافة الإنسانیة العظیمة. و هذا ما ینبثق عن الروابط الأصیلة لروح الإنسان و قلبه. فإذا کتب ـ رحمه الله ـ لاننسَ إیران، أراد التأکید علی ذلک الجانب الثقافي ـ الإنساني لهذا البلد. إن رجالا کالفردوسي و حافظ و سعدي و جلال الدین مولوي کانوا عنده رموزا للجمال و التفکیر و التسامح قبل أن یمثلوا اللغة الفارسیة أو یمثلوا إیران کبقعة جغرافیة. و لذلک کان یری بأن إیران حیة قائمة مادام حب الثقافة و الحضارة و الشغف بهما قائما و حیّا. إنه ظل یرکّز علی "إیران" في زمن لم یکن لهذا الموقف رواج یُذکر ـ بکل أسف ـ بین المثقفین و المناضلین الناشطین خلال تلک السنوات. بل إن مثل هذا التفکیر لم یکن یأمن من سهام تلک الجماعة في النقد و الاتهام و الانتقام. لأن محاولاتهم کانت في الغالب منصبة علی المسایرة مع الآخرین في الکلام و العمل، دون أن یعیروا اهتماما بما لدی الإیراني من تأریخ عریق و تفکیر عمیق و تفاعل ینطوي علی التأثیر و التأثر. کما کان هناک آخرون یجعلون معاداة إیران و شتم الفردوسي و الشاهنامه وساما یعلقونه علی صدورهم و یهتفون بذلک. و مهما یکن من أمر، فإنه لاأحد منهم یدورتفکیره في فلک إیران. فلایهتمّون بالمفکرین من أبناء هذا الوطن بقدر ما یعملون علی الترویج لآثار و مؤلفات الآخرین و الاستناد إلیها. إلا أن مرور الوقت أثبت عمق تفکیرندوشن حیث کان یوجّه إصبعه إلی إیران دون غیرها کنقطة مهمة علی وجه المعمورة. إن العمل علی کشف النقاب عن إحداثیات تفکیره في هذا المضمار، من شأنه أن یکون موضوعا لأبحاث و دراسات کثیرة. و عندئذ یمکن التوصل إلی سبب انبهاره وشغفه المستمر بما تمتلکه إیران من حکمة و أدب، سیما في خضمّ تلک الأجواء السائدة المفعمة بالضجیج. فقد کان یری أن طائر "سیمرغ" الإیراني هو طائر الفینیق الذي لایعدم و لاینتهي أبدا، حیث إنه یولد من قلب لهب الحریق مرارا و مرارا بعد کل حادث مدمر هدّام.

في یوم من الأیام، و خلال تجوالنا في العاصمة طهران، زرنا الأستاذ/ اسلامي ندوشن في بیته تفقدا. و من بین الأشیاء القدیمة و التذکارات العائلیة و الهدایا الجامعیة التي رأیناها هناک، وقعت نظرتنا علی صحن، فیه شيء کصفحة سمیکة من اللبنة المصنوعة من الطین و التبن، احتفظ به هکذا هنا  و هو لایتناغم مع غیره من تلک الأشیاء. و أمام تساؤلنا عن ذلک، أجابت عقیلته العالمة الدکتورة/ بیاني قائلة: هذا یذکّر بحادث احتلال إیران عام 1320 هـ ش (1941م) من قبل الحلفاء في الحرب العالمیة الثانیة، تلک الدول التي أطلقت علی إیران اسم جسر النصر. و لم تأت لنا سوی الفقر و البؤس و الموت. فهذا مزیج من القمح أو الشعیر بقشرته مع طحین نواة التمر و نشارة الخشب. و هو نموذج مما کان یسمی بالخبز و الذي اضطر مواطنونا إلی الاکتفاء بأکله وقتذاک من أجل البقاء و الاستمرار في الحیاة، هذا إذا کانوا یبقون أحیاء! 

و هذه المرة، أثناء اتصالي هاتفیا بالدکتورة/ بیاني بهدف التعزیة و المواساة، ذکرت تلک القطعة من الخبز الأثري! و هي أبدت ارتیاحها بسبب بقاء تلک القطعة مما یسمی بالخبز في ذاکرتي من دون کل تلک الأشیاء التذکاریة الرائعة. فقلت لها لاشيء أثّر في نفسي بقدر ما أثر فیها ذلک الصحن بما یحتویه، إذ إنه یجسد ما نتج عن غزو إیران من قبل الشرق و الغرب. فندوشن یعدّ من الجیل الذي لمس کل تلک المعاناة و المرارة بشراشر وجوده؛ کما شهد قیام هذا الفینیق من بین لهب النار ثانیة. ربما لایوجد شيء یعبّر عن شخصیة عائلة ندوشن بقدر ما یعبر عنها احتفاظهم بهذا الصحن المحتوي علی الخبز(!) في تلک الغرفة. و إذا تقرر أن یُحتفظ بآثاره في مکان ما، فلاشک أن هذه القطعة من الخبز تمثل أهم مؤشر لشخصیته و تکشف عن مدی حبه لإیران.

و من حسن الحظ أن خلال الولایة السابقة لإدارة بلدیة طهران، تم تسمیة مکان ما باسمه في شارع "وصال". کما نحتت السیدة/ سارا تقدیسي تمثالا نصفیا له یلهم شعورا لطیفا.

قدم الأستاذ/ ندوشن مجموعة کتبه کوقفیة لمزار الشاعر الفردوسي، بل بذل جهده لإقناع الآخرین بأن یحذوا حذوه في ذلک. و قد خصص کل تلک الکتب بذلک المقام. و إنني اعتقد بأن تلک القطعة من الخبز التي تجسد بوضوح جانبا من تأریخ إیران، یلیق بها أن تأخذ مکانا لها في المتحف الموجود بجانب مزار الفردوسي، لتزداد قیمة کلما یمر علیها الزمن.

المصدر: صحیفة اطلاعات

 

أکتب رأیك
تعليقات المستخدم

عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.

تقرير

الروابط

الأخبار المرتبطة

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: