سارد حدیث حاجة العرب إلی الثقافة الإیرانیة / کاظم موسوي بجنوردي

1443/4/1 ۱۱:۳۴

 سارد حدیث حاجة العرب إلی الثقافة الإیرانیة / کاظم موسوي بجنوردي

خلال هذه الأیام، قیل و کُتب کثیرا عن المغفورله الدکتور آذرتاش آذرنوش. و مع أنني تمتعت لفترة 36 سنة بصحبة هذا العالم الفذّ الذي کان من کبار شخصیات دائرة المعارف الإسلامیة الکبری و لازمتُ عشرته طویلا، رغم ذلک عندما أردت أن أکتب شیئا یلیق بمقام هذا الرجل المفضال و مکانته العلمیة و في نفس الوقت یکون خالیا من المواضیع المتکررة، بدا لي الأمر صعبا و مستعصیا.

 

بمناسبة الیوم السابع لرحیل الدکتور آذرتاش آذرنوش

خلال هذه الأیام، قیل و کُتب کثیرا عن المغفورله الدکتور آذرتاش آذرنوش. ومع أنني تمتعت لفترة 36 سنة بصحبة هذا العالم الفذّ الذي کان من کبار شخصیات دائرة المعارف الإسلامیة الکبری و لازمت عشرته طویلا، رغم ذلک عندما أردت أن أکتب شیئا یلیق بمقام هذا الرجل المفضال و مکانته العلمیة و في نفس الوقت یکون خالیا من المواضیع المتکررة، بدا لي الأمر صعبا و مستعصیا.

نعلم أن أطروحة الأستاذ آذرنوش لمرحلة الدکتوراه في جامعة سوربون بباریس کانت "دراسة و ترجمة جزء من کتاب طبقات الشعراء لابن المعتز". کما أنه خلال فترة إقامته في فرنسا قام بإعداد أطروحة دکتوراه أخری هي عبارة عن تنقیح المجلد العاشر لمخطوطة " خریدة القصر و جریدة العصر" لمؤلفه عماد الدین الاصفهاني. و هذا الکتاب یمثل ـ بنوع ما ـ موسوعة عربیة للشعر و الشعراء حتی عصر المؤلف. و لعمادالدین الاصفهاني کتاب مهم آخر باسم " زبدة النصرة و نخبة الفکرة" في تأریخ الدولة السلجوقیة. و لتحریر هذه الوجیزة، استعنت بعبارة من هذا الکتاب الأخیر. إن المؤلف المذکور في معرض حدیثه حول خواجه نظام الملک الطوسي، یقول نقلا عن الخلیفة الأموي/ سلیمان بن عبدالملک ما یلي: " عجبت لهؤلاء الأعاجم، ملکوا ألف سنة فلم یحتاجوا إلینا ساعة و ملکنا مائة سنة لکننا لم نستغن عنهم ساعة!" .

إنني إذا أرت أن ألخّص في عبارة واحدة أهم ممیز للأجندة الفکریة ـ العملیة للدکتور آذرنوش، أقول أنها تشکل تفسیرا لهذا الکلام الذي قاله عماد الدین اصفهاني. فقد ظل الأستاذ الراحل یبذل جهده في تتبع المصادر العربیة الأصیلة  لیستخلص بالاستناد إلیها حدیث حاجة العرب إلی الثقافة الإیرانیة و استغناء الإیرانیین عن العرب، و یضع هذه الحقیقة في متناول جیله و الأجیال القادمة. فإذا کان الشاعر الإیراني / حافظ الشیرازي یحکي حدیث شوقه إلی الریاح، فإن آذرنوش حکی للشعب الإیراني حدیث حاجة العرب إلی التراث الإیراني العریق، و سجّله کأثر خالد للتأریخ الإیراني و للأجیال القادمة.

إن کلام سلیمان بن عبدالملک قد یثیر في ذهن القارئ تساؤلا بأن العرب المسلمین الذین تمکنوا من الإطاحة بالدولة الساسانیة و فرض سیطرتهم علی کل البقعة الجغرافیة الخاضعة للحکم الساساني من البحر الأبیض المتوسط إلی نهر جیحون، کیف ظلوا ـ رغم ذلک ـ یحتاجون إلی التراث الإیراني القدیم؟ أفضل الإجابة علی هذا السؤال، جاءت علی لسان الخلیفة الأموي الآخر/ هشام بن عبدالملک عندما نهی أمیر العراق وقته/ خالد بن عبدالله القسري عن إقامة جسر علی دجلة. فقد قیل: " أراد خالد إقامة جسر علی دجلة. و حذّره هشام بأن لایقوم بذلک. لأن الأیرانیین لم یقوموا بذلک في الماضي". هذه الروایة تنطوي علی نقطة مهمة جدا. و هي أن الساسانیین ـ و إن هُزموا أمام الغزاة المسلمین العرب ـ لکن تقالیدهم في إدارة البلاد و تسییر شؤون العالم بقیت سائدة في بلاطات الخلفاء العرب، فاعتمدوها کأسوة في التفکیر و العمل. و کتب ظهیرالدین النیسابوري في مؤلفه "سلجوقنامه" في معرض حدیثه عن ملکشاه السلجوقي ما یلي: " آباؤه فتحوا العالم و هو حکمه. إنهم أقاموا الدولة و هو أکل ثمارها. إنهم مهّدوا العرش و التاج، و هو وضع [التاج] علی رأسه" . الحقیقة أن الأسلوب الذي اعتمده الساسانیون في ممارسة الحکم و إدارة البلاد، أصبح أسوة لتسییر شؤون الدولة من قبل معظم الحکام العرب و الترک الذین حکموا إیران لعدة قرون. فهؤلاء بعد مرحلة غزوهم في أرجاء البلاد، اعتمدوا طریقة الساسانیین في الحکم و تسییر شؤون البلاد و أکلوا من ثمرات ذلک. حتی إنه لیس جزافا إن قلنا بأن أوائل غزاة العرب في المناطق التي سیطروا علیها أخذوا یحذون حذو الساسانیین و کلما تقدموا في هذا المجال لم یتقدموا علی الساسانیین.

لقد کان للساسانیین دور بارز جدا لیس في سیاسة العرب و ثقافتهم خلال فترة مابعد الإسلام فحسب، و إنما في  الأدب الجاهلي السائد قبل ظهور الإسلام أیضا. فکثیر من المفردات و المصطلحات الواردة في الشعر الجاهلي أو شعر ماقبل الإسلام، کانت إیرانیة المنشأ أي أنها کانت کلمات معرّبة. و هذا ما أبرزه الدکتور آذرتاش آذرنوش في مؤلفاته الثمینة و بشکل أفضل من أي شخص آخر.

إن الثقافة الإیرانیة خلال عهد الخلافة الراشدة و الأمویة تغلبت علی العربي المسلم في مجالات من قبیل تولي المناصب الدیوانیة و نظامات الحکم و إدارة الدولة، ولکن مالبث أنها نهضت کطائر الفینیق من تحت رماد الفتوح و الغزوات و العصبیة العربیة الأمویة. فقد ساهم الإیرانیون في الإطاحة بالحکم الأموي و ذلک بالتعاون مع العرب الناقمین علی الأمویین و هم العباسیون. فدخل العنصر الإیراني علنیا و رسمیا في نظام السلطة الحاکمة. و هذا الدخول الإیراني کان عمیقا و شاملا إلی حد کبیر. حیث یصرح مؤلف کتاب "تأریخ الدولة العباسیة" بأن الدولة العباسیة کانت تسمی آنذاک بـ " الدولة الأعجمیة الخراسانیة".

المعروف أن ظهور العباسیین أدی إلی زیادة تواجد الکتّاب و الوزراء الإیرانیین في الأجهزة الدیوانیة و الحکومیة العربیة. ولکن تؤکد بعض الروایات أن هذه الظاهرة کانت قد بدأت منذ عهد الخلیفة عمر بن الخطاب. قیل أن القائد الساساني المشهور/ هرمزان الذي کان یعیش في المدینة بعد أسره، انتبه إلی المشاکل التي یعاني منها العمال المسلمون في إدارة الأراضي الساسانیة المستولی علیها. فاقترح علی الخلیفة أن یتأسی بالنظام الدیواني الساساني و یؤسس نظاما مماثلا لذلک. فکما هو المعروف فأن الکتاب الدیوانیین خلال العهد الساساني کانوا یتمتعون بأهمیة کبیرة و مکانة مرموقة. حیث کانوا یعملون تحت إشراف "إیران دبیربذ". یبدو أن الخلیفة عمر وافق علی اقتراح المذکور. فکان أن أصبح الکتّاب الإیرانیون یتولون تسییر النظام الإداري و الدیواني في الأراضي المفتوحة من قبل المسلمین.

و جری الأمر علی هذا المنوال حتی عهد خلافة عبدالملک بن مروان حیث تم تعریب دیوان الخلافة و تحویل لغتها من الفارسیة إلی العربیة. رغم ذلک، بقي الإیرانیون یدیرون الدیوان العربي . حیث وردت أسماء الکثیر من هؤلاء الدیوانیین [الإیرانیین] في المصادر. بعد قیام الدولة العباسیة، التحق بالجهاز الإداري التابع للخلفاء کثیر من الأسر الإیرانیة الشهیرة کأسر سهل و نوبختي و البرامکة و غیرهم. فارتقوا إلی منصب الوزارة لیتحولوا إلی الشخص الثاني في هیکلیة السلطة القائمة. إن تواجد الإیرانیین ـ وزراء و کتّابا ـ في جهاز الخلافة العربیة أدی إلی ظهور حلقة واسعة من الشعراء و الرجال الإیرانیین حولهم و بالتالي وجدت التقالید و السنن و الثقافة الإیرانیة رواجا في عقر دار السیاسة و الثقافة العربیة. کما أن مع قیام أسرتین حاکمتین من ذوي أصول إیرانیة ـ السامانیین في شرق إیران و البویهیین في شمال إیران و غربها ـ  ظهر وجه آخر من إعادة بلورة الثقافة الإیرانیة في الخلافة العربیة. فظهر المئات من رجال الدولة و الأدباء و الکتّاب و الشعراء الإیرانیین، الذین ساهم کل واحد منهم بنوع ما في إیجاد شرخ في النظام الإداري و الثقافي العربي السائد. و لأول مرة کوّنوا ازدواجیة في بنیة السلطة العربیة فحوّلوا الخلیفة إلی عنصر رمزي شکلي. بموازات ذلک، ظهر عشرات من الشعراء الإیرانیین الذین نظموا أشعارهم بالعربیة و استطاعوا من خلالها التأثیر علی تأریخ العرب و ثقافتهم. کما أنهم بدورهم تأثروا بالثقافة الإسلامیة و العربیة في نفس الوقت.

إن دور الثقافة الإیرانیة القدیمة و تواجدها في النطاق الجغرافي التابع للخلافة لایقتصر علی ما تقدم ذکره فحسب. بل إن مع نهایة الحکم الساساني بدأت حرکة رامیة إلی إعادة حیاة الدولة الساسانیة. ففي نفس الوقت الذي تواجد فیه مجموعة من الإیرانیین داخل هیکلیة السلطة العربیة، کانت هناک مجموعة أخری منهم یعملون ضد هذه السلطة فسطّروا ملاحم من أمثال ملحمة بابک خرّمدین. في هذا المیدان أیضا، کانت ذکری الساسانیین تعمل عملها کعماد و رمز یبعث الأمل و تنمي في نفوس الأوفیاء بها التطلع إلی إمکانیة إحیاء تراث الماضي و الإطاحة بالحکم العربي. کما أن قصص هذه المجموعة من الرجال و آمالهم و مصائرهم انعکست في الأدب العربي. و لهذا حدیث طویل آخر ورد قسم منه في مؤلفات الدکتور آذرنوش.

سرد الدکتور آذرنوش بتفصیل حدیث حاجة العرب إلی الثقافة الإیرانیة في 178 مقالة کتبها خلال 36 سنة من التعاون مع هذا المرکز، و ذلک بموازاة دراسته لمختلف أبعاد الروابط الثقافیة و التأریخية و اللغویة بین الإیرانیین من جهة و العرب من جهة أخری. إن الإیرانیات الموجودة في الأدب العربي کانت أهم من أي شيء بالنسبة له. و لافرق عنده إن کانت هذه الإیرانیات ولیدة ذهن و لسان العربي أو الإیراني ـ أیا کان انتماء هذا الإیراني و ولاؤه. فهو کان علی قناعة تامة بما قاله ذلک القائد العربي المقیم في الکوفة مخاطبا إیرانیا مستعربا [ما مضمونه] : " کلامکم بالعربیة و تفکیرکم إیراني" .

إن البحث و الدراسة حول الإیرانیات الموجودة في الأدب العربي بالنسبة لآذرنوش لم یکن مجرد البحث عن بیت شعر أو قطعة نثر أو مکتوب، و إنما کان من خلال ذلک یرمي إلی اکتشاف ذلک العقل الإیراني المستور الذي کان قد استقر في المجتمع العربي فأضفی هویة مختلفة علی نظام الحکم العربي و العقلانیة العربیة. و إذا رأیت أن أشخاصا من أمثال محمد عابد الجابري یقومون الیوم بنقد العقل العربي، فإنهم قد وضعوا الإصبع بالضبط علی ما ذُکر في هذا المقال بعنوان " الإیرانیات".

کل واحد من مقالات آذرنوش أو کُتبه قد أبرز جوانب مهمة من الإیرانیات الموجودة في الإدب العربي و بلور حدیث حاجة العرب إلی ثقافة الإیرانیین. و یمکن القطع بأن ما فعله هو في هذا المجال لم یفعله غیره.

فقد جعل من الأدب العربي و اللغة العریة جوادا امتطی صهوته کلاعب صولجان ماهر، فأحرز قصب السبق في هذا المیدان. و ترک إرثا خالدا سوف لایستغني أي محب لإیران و الثقافة الإیرانیة عن الرجوع إلیه و الاستقاء من نبعه ما بقي الدهر.

تغمده الله برحمته و خلّد اسمه مکرّما.

أکتب رأیك
تعليقات المستخدم

عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.

تقرير

الروابط

الأخبار المرتبطة

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: