أرس، ترنیمة من قلب التأریخ / کاظم موسوي بجنوردي

1443/1/17 ۱۲:۲۶

أرس، ترنیمة من قلب التأریخ / کاظم موسوي بجنوردي

حکایة ترابط شمال أرس بجنوبه، لیست قصة العقود و القرون و الألفیات، و إنما هي قصة عمرها مدی الدهر. ما یذکره التأریخ منذ بدایته، هو أن الشاطئ الآخر من هذا النهر کان تابعا لشاطئه في هذا الجانب. لذلک فإن قصة التواصل و الحب التي استمرت مدی الدهر لن تخرج من القلب بسهولة.

 

حکایة ترابط شمال أرس بجنوبه، لیست قصة العقود و القرون و الألفیات، و إنما هي قصة عمرها مدی الدهر. ما یذکره التأریخ منذ بدایته، هو أن الشاطئ الآخر من هذا النهر کان تابعا لشاطئه في هذا الجانب. لذلک فإن قصة التواصل و الحب التي استمرت مدی الدهر لن تخرج من القلب بسهولة.

" أي شمال؟ أي جنوب؟ أضرب بهذه الأحادیث الملوثة عرض الحائط!

قل لکل العالم أنها أرض إیران".

هذا البیت جزء من أغنیة " یا أرس" [= آراز ـ حسب تلفظ الآذربایجانیین] و تُنسب الأغنیة إلی الشاعر الآذربیجاني/ یحیی شیدا.  نُظمت أبیاتها تعبیرا عن مشاعر التحسر و اللهف علی انفصال أراضي شمال أرس من إیران و ضمّها إلی روسیا علی أثر معاهدة "ترکمان تشاي". التلهف علی منطقة شمال أرس المنتزعة من الوطن الأم لایقتصر علی الشاعر/ شیدا و شعراء من أمثاله، و إنما تحول هذا الشعور ـ منذ ذلک الوقت ـ لدی المواطنین المقیمین علی جانبي أرس إلی جزء من  فولکلورهم و ثقافتهم الشفهیة. و السؤال الرئیسي الذي تنطوي علیه هذه المقالة هي: ما هو سرّ هذه اللهفة؟ و لماذا تحول الانفصال عن إیران طوال القرنین الماضیین لدی سکان هذه المنطقة إلی شکوی الفرقة و التوق إلی الوصال ـ کقصة "الناي" التي سردها جلال الدین مولوي في مستهل کتابه " مثنوي"؟

للأجابة علی هذا السؤال و جذور اللوعة و اللهفة الکامنة في هذه الأغاني، یجب البحث في عمق التأریخ. یقول الشاعر الإیراني سعدي الشیرازي: " الحب الذي ترسخ في أغوار القلب طوال الدهور ـ لایمکن التخلص عنه إلا بعد مضي دهور".

حکایة تواصل شمال أرس بجنوبه لاتمثل قصة عقود أو قرون أو آلاف من السنین، و إنما هي قصة الدهور. فمنذ البدایات التي یذکرها التأریخ في ذاکرته، الشاطئ الشمالي لأرس کان تابعا لشاطئه الجنوبي . علیه، فإن قصة التواصل و الحب التي استمرت مدی الدهر لن تخرج من القلب بسهولة.

إن الخبیر الروسي الشهیر/ دیاکنف المتخصص في تأریخ قوم "ماد"، یؤکد ـ مستندا إلی کتابات هیرودوت ـ أن الحدود الشمالیة لدولة "ماد" کانت تقع في الأراضي الواقعة بین نهري "أرس" و "کر". کما أن خلال العهد الأخمیني کانت هذه البقعة من أراضي الدولة المادیة تشکل جزء من الأراضي الإیرانیة. حیث بقي اسم هذه المنطقة في النقوش الحجریة التي کتبها الملک داریوش و غیره من الملوک الأخمینیین، باعتبارها جزء من أراضي إیران في ذلک الزمن.

إن "آتروباتس" حارس حدود ماد و قائد إحدی وحدات جیش داریوش الثالث خلال حربه مع الاسکندر المقدوني، عاد إلی آذربیجان و استطاع أن یحافظ علی موقعه خلال عهد حکم الاسکندر. فتمکن خلال حروب خلفاء الاسکندر من اقتطاع "ماد" الصغیرة من المنطقة الخاضعة للحکم الیوناني و یعطیها هویة مستقلة. منذ ذلک الوقت، سمّیت البقعة الجغرافیة الخاضعة لحکمه "آتروباتن" باعتبارها أول بقعة إیرانیة نالت استقلالها و خرجت من سیطرة الیونانیین. و "آتروباتن" التي تمتد جذورها في کلمة "آتروباتس" ، هي کلمة إیرانیة معناها " محفوظة بواسطة النار" . کما أن کلمتي " آدوربادکان" و آتورباتکان" تعود جذورهما إلی آتروباتس، شأنهما شأن کلمة "آذربیجان" التي راجت في العصر الإسلامي. ومع أن البقعة الأصلیة لآتروباتن/ ماد الصغیرة/ اشتملت علی آذربیجان و کردستان الحالیتین، لکنها کانت تضم أیضا رقعة من منطقة شمال نهر أرس و حتی "دربند" في داغستان أیضا ـ حسب روایة.

أنا لاأتحدث عن الواقع الجغرافي القائم خلال العهدین الاشکاني و الساساني  حیث کان شمال أرس جزء من أرض الدولة الإیرانیة، فذلک أظهر من الشمس. و الشاهد علی ذلک هو جدار دربند و النقوش الحجریة الفارسیة الموجودة في دربند بداغستان و القوقاز.

إبان دخول الإسلام إلی إیران، وجّه العرب المسلمون جیوشهم نحو آذربیجان بعد انتصارهم في معرکة نهاوند، فاستولوا علی هذه المنطقة عام22 هـ ق. و خیر دلیل علی کون مناطق شمال أرس خاضعة لإدارة المرزبان المعین من قبل الساسانیین في آذربیجان التي کانت عاصمتها "أردبیل"، هو نص المعاهدة المبرمة بین الفاتح العربي/ الحذیفة بن الیمان و بین مرزبان آذربیجان هذا. و قد ورد في المصادر التي تعنی بالفتوح الإسلامیة أنه مقابل تعهد والي آذربیجان بالتزام السلام و دفع أموال هائلة، تعهد الحذیفه من جانبه ألایقتل و لایأسر أحدا من مواطني آذربیجان و لایهدم معبدنارٍ و لایتعرض لأکراد "بَلاسجان" و "سبلان" و "ساترودان [= میان رودان ـ أي المناطق الواقعة بین نهر کر و نهر أرس، حسب روایة]، و ألا یمنع الناس في "شیز" من الرقص و إقامة الطقوس الخاصة بهم خلال الاحتفالات. ذکر الدکتور/ عنایت الله رضا في مادة "بلاسکان" أن هذه الکلمة عُرّبت فتحولت إلی "بلاسجان" و هي اسم أطلق علی سهل یقع علی جانبي نهر أرس و جنوبي نهر کر. کما أن اسم "بلاسکان" کجزء من الأراضي التابعة للدولة الساسانیة ورد في نص أثري محفور علی الحجر یوجد حوالي "کعبة زردشت" بمنطقة نقش رستم و یعود للملک الساساني / شابور الأول (243 ـ 273 م).

و ظل ولاة و حکام آذربیجان یتولون إدارة منطقة شمالي أرس کتقلید مستمر طوال فترة الخلافة العربیة (الراشدیة و الأمویة و العباسیة) حیث أن النواحي الثلاث المؤلفة من آذربیجان و أران (باب) و أرمینیة کانت تدار خلال تلک الفترة في إطار إقلیم واحد باسم "إقلیم الرحاب". کانت أردبیل مرکز آذربیجان و أکبر مدنها، کما کانت دبیل (دوین) مرکز أرمینیا، و کانت ورثان المنطقة الحدودیة بین آذربیجان و أران، و بردعة کانت مرکز أران. و رغم اختلاف الآراء و النظریات حول حدود أران الجغرافیة، إلا أن أغلب المصادر اعتبرت الموقع الجغرافي لأران بین نهري "کر" و "أرس" و أحیانا بین أرس و دربند في القوقاز، و هي المنطقة التي تقع الیوم داخل الخارطة الجغرافیة لجمهوریة آذربیجان التي تحمل تسمیة غیرصحیحة مختلقة و مناقضة للتأریخ، اصطنعها "المساواتیون" و رجلهم المشهور/ محمد أمین رسول زاده. إن العالم الجغرافي العربي الشهیر/ ابن حوقل في القرن الرابع الهجري یمیز أران من آذربیجان و یسرد أسماء مدن أران و هي: بردعة، باب (دربند)، تبلیسي، بیلقان، ورثان، بردیج، شماخیة (شماخي)، شروان، لایجان، شابران، قَبَلَة، شکّي (نوخاي حالیا)، شمکور (شامخور حالیا)، جنزة (کنجه). کما أن سائر العلماء الجغرافیین خلال القرون الوسطی اتفقوا علی الفصل بین اسم آران و آذربیجان.

و مع وجود هذا الانفصال الجغرافي، کانت آران تدار من قبل والي آذربیجان طوال عهد الخلافة، رغم وقوعهما أحیانا داخل حدود ولایة والي منطقة الجزیرة التي کان مرکزها حرّان. و ورد في المصادر التأریخیة أن أحد أهم المشاکل الدائمة لأران و آذربیجان خلال هذه الفترة، کان یتمثل في غزو المنطقة من قبل الأتراک و الخزر. فعلی سبیل المثال، خلال الفترة ما بین العامین 108 و 112 هـ ق هاجم الغزاة إقلیم أران و آذربیجان عدة مرات. حیث أنه خلال إحدی هذه الحروب، قاتل القائد الإیراني ـ الآذربیجانی/ مردانشاه/ هؤلاء الأتراک بمساعدة من القوات المحلیة. لکنه باء بالهزیمة و قُتل في نهایة المطاف.

إبان القرن الثالث الهجري، عندما بدأت لدی الإیرانیین نزعة الاستقلال من الخلافة العباسیة و انطلقت هذه الموجة من الشرق بواسطة أُسَر "طاهریان" و "صفاریان" و "سامانیان" ، آذربیجان کانت أول منطقة في غرب إیران نالت استقلالها رسیما. و بادر حاکمها الإیراني / محمد بن أبي الساج/ إلی ضرب النقود باسمه.

کما أن مرکز آذربیجان خلال عهد الساجیین کان مدینة مراغه ثم أردبیل. و من هناک کانت تدار أران أیضا. استمر الحال علی هذا المنوال خلال عهد سائر الأسر الإیرانیة الحاکمة في القرنین الرابع و الخامس الهجري ـ أي أسرة "سلاریان دیلمي" [= السلاریة الدیلمیة] و أسرة روادیان کرد [= الروادیة الکردیة]. و هذه الفترة هي الفترة التي ازدهرت الفارسیة ـ لغة و شعرا ـ في أذربیجان و أران. فأصبحت بلاطات الأسر الإیرانیة الحاکمة في المنطقة، مثابة لشعراء کبار من قبیل قطران التبریزي و أسدي الطوسي. في منتصف القرن الخامس، دخل السلجوقیون أذربیجان و أران فتولوا إدارة المنطقتین. ثم دخل المنطقة المغول و التیموریون . لکن رغم ذلک بقي جزء من أران بید ملوک الشروانشاهية المنحدرین من أصول إیرانیة حیث کان شعراء من أمثال خاقاني و نظامي کنجوي في کنف حمایتهم و رعایتهم. استمرت قوة الثقافة الإیرانیة و سیادة اللغة الفارسیة و آدابها علی جانبي نهر أرس کما في الماضي. إن کتبا من قبیل "سفینة تبریز" و بعض مجموعات أشعار الشعراء الذین کانوا یقرضون الشعر بالفارسیة في منطقة القوقاز، تدل علی أن الفارسیة ظلت من البدایة و حتی النهایة لغة الشعر و الکتابة في هذه المنطقة حتی خلال فترة حکم الأسر الترکیة. و علی الرغم من سیطرة حکم الأسر الترکیة و التتریة و المغولیة علی منطقة القوقاز الجنوبیة و أران، بقیت هذه المنطقة علی طابعها الإیراني ثقافیا و سکانیا، إلی أن عادت ثانیة إلی الجغرافیا السیاسیة الإیرانیة خلال عهد الصفویین. وفقا لکتابات أحد کتاب عهد الشاه سلطان حسین و هو "میرزا رفیعا"، انقسمت أراضي "الممالک المحروسة الإیرانیة" خلال العهد الصفوي إلی أربع ولایات هي عربستان [= خوزستان] و لرستان فیلي و کرجستان [= جورجیا] و کردستان، بالإضافة إلی 13 منطقة "بیکلربیکي" هي : قندهار، شیروان، هرات، تبریز، جخورسعد، قراباغ کنجه، استراباد، کوه کیلویه، کرمان، مروشاهیجان، علیشکر (همدان)، مشهد، قزوین، و کذلک عدد من المناطق الخاضعة لسیطرة الحکام بما فیها منطقة الحاکم البختیاري. ففي هذه الفترة أیضا، کما یلاحَظ، کانت قراباغ و کنجه من "البیکربیکیات " الإیرانیة.

منذ العهد الصفوي، أصبح العثمانیون و الروس أیضا یهتمون بقوقاز و بدأوا بالعمل فیها بمزید من الجدیة. مما جعل الأراضي الإیرانیة في تلک الإقلیم تواجه تهدیدین جدیین. بینما أن البلدین المذکورین کانا في تنافس فیما بینهما في الوقت نفسه. حینما اعتری الدولة الصفویة الضعف و الفتور من بعد الشاه عباس مما أدی في النهایة إلی زوال دولتهم، وجدت الدولتان المتنافستان الجدیدتان فرصة أکبر لفرض نفوذهما في القوقاز و احتلال أجزاء منها. و مع أن إیران استعادت قوتها السابقة خلال عهد نادرشاه، إلا أنه بعد مصرعه تحولت القوقاز إلی ساحة الصولة و الجولة لکل من روسیا و الدولة العثمانیة و القوی المحلیة کجورجیا. رغم کل ذلک، قام "آقامحمدخان" [مؤسس الأسرة القاجاریة] عام 1209هـ ق بتوجیه رسالة إلی حاکم جورجیا کتب فیها: " ... منذ عهد الشاه اسماعیل الصفوي و إلی مستهل دولتنا المبارکة"، " ... کانت جورجیا تعود إلی ملوک إیران بموجب القواعد القدیمة و العقد المبرم ..." فطالبه بأن یقوم ثانیة بـ " إعادة تلک الولایة إلی مرجعها الرئیسي [أي إیران] ..." . إن رسالة "آقامحمدخان" هذه تُعدّ من الوثائق المهمة التي توضح الصورة الذهنیة التأریخیة لدی الإیرانیین حول سیادتهم علی القوقاز.

هذه السیادة التأریخیة التي کانت قد بدأت رسمیا منذ العهد المادي خلال الألفیة الأولی قبل المیلاد، زالت و انتهت رسمیا حین تم التنازل عنها إلی الروس بموجب معاهدتي " کلستان" و "ترکمان تشاي". و ما أشعار اللهفة أو فولکلور الهجران و الفرقة الموجودة علی جانبي نهر أرس، إلا نواحا و رثاء علی هذا التأریخ الطویل من الترابط و التلاصق خلال العصور التي کان فیها شمالي أرس و جنوبیه ملکا لإیران و الإیرانیین، و کانت آذربیجان و أران بمنزلة الرأس في الخارطة الجغرافیة الإیرانیة.

و علی الرغم من أن "المساواتیین" و علی رأسهم محمد أمین رسول زاده حاولوا إطلاق اسم آذربایجان علی أرض أران زیفا و و انتحالا، و ذلک عملا منهم علی اختلاق نوع من الترابط السیاسي المزیف بهدف ضم أراضي جنوب أرس إلی شماله، إلا أن عملیة التزییف و التحریف هذه کانت مکشوفة للغایة فلم تحقق أي شيء.

و هنا لابد من التأکید بأن ساحة القضایا السیاسیة و الوطنیة لیست مجالا یسمح بتغییر الحدود أو مشاعر الحنین إلی الماضي. کما أن السیاسة الرسمیة المتبعة من قبل الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة مبنیة علی التزام هذه القاعدة الحقوقیة الدولیة. لکنه إذاما أرید فتح باب الحنین إلی الماضي و تمني تغییر الحدود، فإن الإیرانیین یدهم أطلق في هذا المجال، و سیرحب التأریخ بالحنین الإیراني إلی الماضي  بصدر رحب، و ذلک لیس في شمال أرس و القوقاز الجنوبیة فحسب، و إنما في دیاربکر و شمالي بین النهرین أیضا. إذن، من الأفضل لجارتنا الغربیة أیضا أن لاتحاول مزج السیاسة بالشعر و الحنین إلی الماضي، و تلتزم بمبدأ حسن الجوار و احترام أحکام القانون الدولي و الحدود الرسمیة. و إلا فإن الخاسر الرئیسي لن یکون إلا بلده.

أکتب رأیك
تعليقات المستخدم

عزيزي المستخدم ، يرجى التسجيل لنشر التعليقات.

تقرير

الروابط

الأخبار المرتبطة

تسجیل الدخول في موقع الویب

احفظني في ذاکرتك

مستخدم جدید؟ تسجیل في الموقع

هل نسيت کلمة السر؟ إعادة کلمة السر

تم إرسال رمز التحقق إلى رقم هاتفك المحمول

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.:

التسجیل

عضویت در خبرنامه.

هل تم تسجیلک سابقاً؟ الدخول

enterverifycode

استبدال الرمز

الوقت لإعادة ضبط التعليمات البرمجية للتنشيط.: